قهوة الصباح

كوريا الجنوبية والشباب العربي الضائع

| سيد ضياء الموسوي

هل‭ ‬قدر‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭ ‬الضياع؟‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬واقع‭ ‬كل‭ ‬شاب‭ ‬يخدع‭ ‬بشعار‭ ‬سياسي‭ ‬قاتل‭ ‬رومانسي‭. ‬تقول‭ ‬مستغانمي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الأسود‭ ‬يليق‭ ‬بك‭: ‬“في‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬جاهزا‭ ‬للموت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صورة‭ ‬قائد‭ ‬حزبه‭ ‬أو‭ ‬زعيم‭ ‬طائفته‭. ‬الآن‭ ‬وقد‭ ‬تجاوز‭ ‬مراهقته‭ ‬السياسيّة،‭ ‬أدرك‭ ‬سذاجة‭ ‬رفيقه‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬الصوَر‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬كرامة‭ ‬صورة‭ ‬لمشروع‭ ‬لصّ،‭ ‬أراد‭ ‬ساذج‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬يقتلعها‭ ‬ليضع‭ ‬مكانها‭ ‬صورة‭ ‬زعيم‭ ‬آخر‭ ‬لميليشيا‭. ‬فمات‭ ‬الاثنان‭ ‬وعاش‭ ‬بعدهما‭ ‬اللصّان”‭. ‬ذاك‭ ‬حالنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬ولبنان،‭ ‬شباب‭ ‬يعيشون‭ ‬الضياع‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬أعلى‭ ‬يختصر‭ ‬لهم‭ ‬الطريق،‭ ‬ويوزع‭ ‬عليهم‭ ‬الأماني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬جروحهم‭ ‬غائرة‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬والوحدة‭ ‬وضياع‭ ‬الطريق،‭ ‬حيث‭ ‬تضيع‭ ‬الأرغفة‭ ‬وتبقى‭ ‬الأرصفة‭ ‬رداء‭ ‬يتدثرون‭ ‬بزواياها‭ ‬كقطة‭ ‬تلصق‭ ‬جسدها‭ ‬خشية‭ ‬قرص‭ ‬الشتاء‭. ‬من‭ ‬كان‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬الرصاص‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أجساد‭ ‬عارية‭ ‬في‭ ‬النجف‭ ‬والناصرية‭ ‬وبغداد‭ ‬لفتيان‭ ‬بلا‭ ‬قلم‭ ‬رصاص‭ ‬ولا‭ ‬لوحة‭ ‬ولا‭ ‬مدرسة؟

من‭ ‬كان‭ ‬يظن‭ ‬يوما‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يخرجون‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬بزاتهم‭ ‬الأنيقة‭ ‬من‭ ‬السياسيين‭ ‬حمائم‭ ‬سلام‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الناس‭ ‬يتحولون‭ ‬إلى‭ ‬ذئاب‭ ‬مفترسة‭ ‬جوالة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬لحم‭ ‬نِيّ‭ ‬لفتيان‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الزهور؟‭ ‬يقول‭ ‬ديستويفسكي،‭ ‬الروائي‭ ‬الروسي‭ ‬“يقال‭ ‬أحيانا‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬حيوان‭ ‬كاسر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬إهانة‭ ‬للحيوانات‭ ‬لا‭ ‬داعى‭ ‬لها،‭ ‬فالحيوانات‭ ‬لا‭ ‬تبلغ‭ ‬مبلغ‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬القسوة‭ ‬أبداً،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تتفنن‭ ‬في‭ ‬قسوتها‭ ‬تفنن‭ ‬الإنسان”‭. ‬كانوا‭ ‬ذات‭ ‬الفتيان‭ ‬يحملون‭ ‬صور‭ ‬زعماء‭ ‬الطوائف‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أقنعوهم‭ ‬بشعار‭ ‬مضلل‭ (‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل‭) ‬أو‭ ‬الطوائف‭ ‬هي‭ ‬الحل،‭ ‬وأن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬جلباب‭ ‬رجل‭ ‬دين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬المذهب؟‭ ‬

كان‭ ‬هتلر‭ ‬يلعب‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬الشباب‭ ‬الألماني،‭ ‬فراحوا‭ ‬ضحايا‭ ‬في‭ ‬أفران‭ ‬الحروب‭ ‬بالملايين‭. ‬إنها‭ ‬قصة‭ ‬الفقراء‭ ‬والأغنياء‭ ‬عندما‭ ‬يعجز‭ ‬الأغنياء‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬سماع‭ ‬ألم‭ ‬من‭ ‬وقفوا‭ ‬معهم‭. ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ديستويفسكي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الفقراء‭ ‬“يجب‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬الأغنياء‭ ‬لا‭ ‬يحبون‭ ‬أبدا‭ ‬أن‭ ‬يشكو‭ ‬الفقراء‭ ‬حظهم‭ ‬جهارا‭. ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يؤذيهم‭ ‬ويزعجهم‭. ‬والبؤس‭ ‬مزعج‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭:‬‭ ‬كأن‭ ‬أنات‭ ‬الفقراء‭ ‬تعوق‭ ‬نوم‭ ‬الأغنياء‭!‬”‭. ‬قلناها‭ ‬مرارا‭ ‬وتكرارا‭ ‬ومنذ‭ ‬20‭ ‬عاما‭ ‬لا‭ ‬حكم‭ ‬المذاهب‭ ‬ولا‭ ‬حكم‭ ‬العقائد‭ ‬ينجي‭ ‬الفقير‭ ‬ولا‭ ‬الأوطان،‭ ‬وحدها‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬أخطاؤها‭. ‬نحن‭ ‬مختلفون‭ ‬عن‭ ‬الآخرين‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الانقلابات‭ ‬العسكرية‭. ‬فكوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬قادها‭ ‬للغنى‭ ‬والتغيير‭ ‬رجل‭ ‬عسكري‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬الناس،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬ألوان‭ ‬بزة،‭ ‬ولا‭ ‬نياشين‭ ‬تملأ‭ ‬بزته‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أكف‭ ‬تكفكف‭ ‬دموع‭ ‬شعبه‭ ‬الذي‭ ‬أكله‭ ‬الاستعمار‭ ‬الياباني‭ ‬لـ‭ ‬35‭ ‬عاما‭. ‬الاحتلال‭ ‬الياباني‭ ‬الشرس‭ ‬الذي‭ ‬انقض‭ ‬عليهم‭ ‬كنمر‭ ‬آسيوي‭ ‬جائع‭ ‬ومازال‭ ‬الكوريون‭ ‬يترحمون‭ ‬على‭ ‬ملكهم‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬على‭ ‬حكمه‭ ‬ذات‭ ‬اليابانيين‭ ‬سنة‭ ‬1910‭. ‬خرجت‭ ‬كوريا‭ ‬كوردة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الركام‭. ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم‭ ‬العسكري،‭ ‬ابتدأ‭ ‬بتعليم‭ ‬الفقراء‭ ‬وإرسالهم‭ ‬إلى‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬بين‭ ‬الأنقاض،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬كوريا‭ ‬أشبه‭ ‬بمكب‭ ‬نفايات،‭ ‬وكانت‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬كوريا‭ ‬يبعن‭ ‬شعرهن‭ ‬الجميل‭ ‬كباروكات‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬أبناؤهن‭ ‬من‭ ‬الجوع‭. ‬كوريا‭ ‬خسرت‭ ‬خمسة‭ ‬ملايين‭ ‬فرد‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الداخلية‭ ‬لبلد‭ ‬ممزق‭ ‬جرى‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭.‬

قال‭ ‬عنها‭ ‬الغربيون‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬لها،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنبت‭ ‬ورده‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬النفايات‭. ‬وانقسمت‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭ ‬جنوبية‭ ‬وشمالية،‭ ‬وهم‭ ‬كانوا‭ ‬واحدًا‭. ‬ليس‭ ‬عندهم‭ ‬لا‭ ‬نفط‭ ‬ولا‭ ‬غاز‭ ‬ولا‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬تربة‭ ‬وعقل‭ ‬عملاق‭ ‬جاء‭ ‬بانقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬سنة‭ ‬1961‭ ‬يدعى‭ ‬“بارك‭ ‬تشونج‭ ‬هي”‭ ‬خرج‭ ‬باك‭ ‬لتكون‭ ‬الأولوية‭ ‬للأفواه‭ ‬الجائعة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬نظيره‭ ‬في‭ ‬اليمن،‭ ‬وكان‭ ‬40‭ % ‬من‭ ‬السكان‭ ‬تحت‭ ‬خط‭ ‬الفقر‭. ‬واليوم‭ ‬أصبح‭ ‬متوسط‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭ ‬31‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬للفرد‭. ‬بدأ‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬المتنوع‭ ‬وفتح‭ ‬المصانع‭ ‬حتى‭ ‬غزا‭ ‬العالم‭ ‬بسامسونج‭ ‬وال‭ ‬جي‭ ‬وهونداي‭. ‬أصر‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬أعظم‭ ‬السفن‭ ‬العمالقة،‭ ‬فأصبحت‭ ‬كوريا‭ ‬هي‭ ‬الرحم‭ ‬الصناعي‭ ‬الكبير‭ ‬لولادة‭ ‬أفخم‭ ‬اليخوت،‭ ‬والسفن‭ ‬العملاقة‭. ‬والسؤال‭: ‬كيف‭ ‬تعلم‭ ‬الآسيويون‭ ‬الدرس‭ ‬مثل‭ ‬الزعيم‭ ‬السنغافوري‭ ‬لي‭ ‬كوان‭ ‬يو،‭ ‬وباك‭ ‬ودول‭ ‬مثل‭ ‬العراق‭ ‬ولبنان‭ ‬وإيران،‭ ‬وهي‭ ‬تمتلك‭ ‬كل‭ ‬الموارد‭ ‬مازالوا‭ ‬ضحايا‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬غير‭ ‬المنتج؟‭ ‬فهم‭ ‬يمتلكون‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬يملكون‭ ‬شيئا‭. ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬قديس،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬بلا‭ ‬أخطاء،‭ ‬لكنهم‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬حكومات‭ ‬صحيحة‭ ‬يهمها‭ ‬جوع‭ ‬الناس‭ ‬وألم‭ ‬الفقير‭ ‬لا‭ ‬مجموعة‭ ‬لا‭ ‬تشبع‭ ‬من‭ ‬الفساد‭. ‬

إن‭ ‬هيئة‭ ‬النزاهة‭ ‬العراقية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالبرلمان‭ ‬أقرت‭ ‬بأن‭ ‬العراق‭ ‬فقد‭ ‬بسبب‭ ‬الفساد‭ ‬الحكومي‭ ‬نحو‭ ‬320‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الـ‭ ‬15‭ ‬الماضية‭ ‬غير‭ ‬حين‭ ‬نمت‭ ‬الدول‭ ‬الآسيوية‭. ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬جلال‭ ‬عامر‭ ‬شبكة‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬شبكة‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي‭. ‬سياسيون‭ ‬يزدادون‭ ‬بدانة‭ ‬والفقراء‭ ‬ضعفا‭. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬قال‭ ‬تشرشل‭ ‬لبرنادشو‭ (‬وكان‭ ‬تشرشل‭ ‬ضخم‭ ‬الجثة‭): ‬“من‭ ‬يراك‭ ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬برنار‭ (‬وكان‭ ‬نحيل‭ ‬الجسد‭ ‬جدا‭)‬،‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬بلادنا‭ ‬تعاني‭ ‬أزمة‭ ‬اقتصادية‭ ‬حادة،‭ ‬أزمة‭ ‬جوع‭ ‬خانقة‭!‬”‭.‬

فأجابه‭ ‬برناردشو‭: ‬“ومن‭ ‬يراك‭ ‬يا‭ ‬صاحبي،‭ ‬يدرك‭ ‬فورا‭ ‬سبب‭ ‬الأزمة”‭! ‬مفارقات‭ ‬قاتلة،‭ ‬فقد‭ ‬أعلن‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬أن‭ ‬متوسط‭ ‬الدخل‭ ‬الفردي‭ ‬في‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬ارتفع‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬2018،‭ ‬متجاوزا‭ ‬31‭.‬000‭ ‬دولار‭. ‬السؤال‭: ‬هل‭ ‬بإمكان‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬وهي‭ ‬تمتلئ‭ ‬بالنفط‭ ‬والخام‭ ‬والغاز‭ ‬وكل‭ ‬الموارد‭ ‬أن‭ ‬تلتحق‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬الآسيوية؟‭ ‬نعم‭ ‬إذا‭ ‬بدأت‭ ‬بديمقراطية‭ ‬حقيقية،‭ ‬وتم‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬والطوائف‭ ‬عن‭ ‬السياسة،‭ ‬وحورب‭ ‬الفساد،‭ ‬وركز‭ ‬التعليم‭ ‬الابتكاري،‭ ‬وفتحت‭ ‬الأسواق‭ ‬لجذب‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال،‭ ‬وتم‭ ‬تشريع‭ ‬قوانين‭ ‬حضارية،‭ ‬وركزت‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭.‬