الإسلام السياسي السني والشيعي... وجهان لعملة واحدة

| عبدالنبي الشعلة

المشتغلون‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬سنة‭ ‬أم‭ ‬شيعة،‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تجمعهم‭ ‬عقيدة‭ ‬مشتركة،‭ ‬ويربطهم‭ ‬هدف‭ ‬واحد‭ ‬واضح،‭ ‬وهو‭ ‬ضرورة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬كراسي‭ ‬الحكم‭ ‬وضرورة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مقاليده،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشروع‭ ‬“الدولة‭ ‬الدينية”،‭ ‬هذه‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬غبار‭ ‬عليها‭ ‬ولا‭ ‬يختلف‭ ‬عليها‭ ‬اثنان،‭ ‬وقد‭ ‬تجلت‭ ‬حالة‭ ‬التوافق‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الأربعينات‭ ‬والخمسينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي؛‭ ‬عندما‭ ‬تمكنت‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬وقتها،‭ ‬السنية‭ ‬والشيعية‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬من‭ ‬تخطي‭ ‬وتجاوز‭ ‬الاختلافات‭ ‬والصراعات‭ ‬المذهبية‭ ‬ثم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬رسم‭ ‬خطوط‭ ‬متوازية‭ ‬ومرتكزات‭ ‬فكرية‭ ‬متداخلة‭ ‬بينهما‭.‬

إن‭ ‬ثمة‭ ‬حقيقة‭ ‬أخرى‭ ‬تستحق‭ ‬التوقف‭ ‬عندها‭ ‬أو‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬تقدير،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬بذرة‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي‭ ‬بشقيه‭ ‬الشيعي‭ ‬والسني‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬بذرها‭ ‬في‭ ‬التربة‭ ‬العربية‭ ‬مفكرون‭ ‬إسلاميون،‭ ‬غالبيتهم‭ ‬العظمى‭ ‬غير‭ ‬عرب‭ ‬ولا‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬ويفتقدون‭ ‬الحس‭ ‬القومي‭ ‬والنسيج‭ ‬العاطفي‭ ‬للوجدان‭ ‬العربي،‭ ‬والذين‭ ‬أصبحت‭ ‬لهم‭ ‬الأولوية‭ ‬والأسبقية‭ ‬في‭ ‬المبادرة‭ ‬إلى‭ ‬إيقاظ‭ ‬وتحفيز‭ ‬الحراك‭ ‬الإسلامي‭ ‬السياسي‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مقدمتهم،‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬السني‭ ‬الإمام‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1838م‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أسد‭ ‬أباد‭ ‬الأفغانية،‭ ‬ويقال‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬أسد‭ ‬آباد‭ ‬بمدينة‭ ‬همدان‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وقد‭ ‬نشب‭ ‬خلاف‭ ‬حول‭ ‬كونه‭ ‬سنيا‭ ‬أم‭ ‬شيعيا‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬ذكائه‭ ‬وفطنته‭ ‬وتحصيله‭ ‬العلمي‭ ‬اللامع،‭ ‬فقد‭ ‬اكتسب‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬خبرة‭ ‬عسكرية‭ ‬قتالية‭ ‬عندما‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬قادة‭ ‬الجيش‭ ‬الذي‭ ‬حاصر‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬“هرات”‭ ‬الأفغانية،‭ ‬وأصبح‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬الوزير‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬أفغانستان‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1862م،‭ ‬تذوق‭ ‬خلالها‭ ‬طعم‭ ‬الأمارة‭ ‬ولذة‭ ‬السلطة‭.‬

وضمن‭ ‬منازعات‭ ‬وحروب‭ ‬مختلف‭ ‬الأجنحة‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬وقتها،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬بمساعدة‭ ‬الإنجليز‭ ‬إزاحة‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬وإبعاده‭ ‬عن‭ ‬أفغانستان،‭ ‬وأصبح‭ ‬يتنقل‭ ‬بعدها‭ ‬بين‭ ‬مدن‭ ‬بومباي‭ ‬وطهران‭ ‬وبغداد‭ ‬وإسطنبول،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬وباريس‭ ‬وموسكو،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬طاب‭ ‬له‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وأصبح‭ ‬أستاذًا‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬الدينيين،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬كما‭ ‬تبوأ‭ ‬مركزًا‭ ‬متقدمًا‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬والمفكرين‭ ‬الإسلاميين‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وتقلد‭ ‬مكانة‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري،‭ ‬وصار‭ ‬له‭ ‬أصدقاء‭ ‬ومريدون‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المواقع‭ ‬العليا‭ ‬مثل‭ ‬محمود‭ ‬سامي‭ ‬البارودي،‭ ‬وأحمد‭ ‬عرابي،‭ ‬وغيرهما،‭ ‬وأصبح‭ ‬يُنَظّر‭ ‬ويتدخل‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬وفي‭ ‬شؤون‭ ‬مصر‭ ‬الداخلية،‭ ‬وانظم‭ ‬إلى‭ ‬“المحفل‭ ‬الماسوني”‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬رئيسه،‭ ‬وقد‭ ‬أسس‭ ‬الأفغاني‭ ‬لمبدأ‭ ‬“المنهج‭ ‬الثوري”‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي‭ ‬أثناء‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬والذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬عرابي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1881م‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬نفي‭ ‬الأفغاني‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬الخديوي‭ ‬محمد‭ ‬توفيق‭.‬

بعد‭ ‬وفاة‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬بخمس‭ ‬سنوات‭ ‬ولد‭ ‬الإمام‭ ‬روح‭ ‬الله‭ ‬الخميني‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬“خُمين”،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬مدن‭ ‬المحافظة‭ ‬المركزية‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعام‭ ‬واحد،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1903م‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أورنك‭ ‬آباد‭ ‬بولاية‭ ‬حيدر‭ ‬آباد‭ ‬الهندية‭ ‬العلامة‭ ‬أبو‭ ‬الأعلى‭ ‬المودودي‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬في‭ ‬لاهور‭ ‬منظمة‭ ‬“الجماعة‭ ‬الإسلامية”‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1941م‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬للعلامة‭ ‬المودودي‭ ‬نتاج‭ ‬فكري‭ ‬إسلامي‭ ‬سياسي‭ ‬غزير،‭ ‬منه‭ ‬كتاب‭ ‬“كيف‭ ‬تقام‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسلامية”‭ ‬وكتاب‭ ‬“الحكومة‭ ‬الإسلامية”،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬المتأثرين‭ ‬به‭ ‬العلامة‭ ‬سيد‭ ‬قطب،‭ ‬وقد‭ ‬نَظّر‭ ‬المودودي‭ ‬لمفهوم‭ ‬“الحاكمية”‭ ‬ورفض‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬سلطة‭ ‬البشر‭ ‬داعيًا‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬عليهم‭ ‬وعصيانهم‭ ‬كأمر‭ ‬إلهي،‭ ‬وإلى‭ ‬إحداث‭ ‬التغيير‭ ‬بالقوة؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التمكين‭ ‬لدين‭ ‬الله‭ ‬وتكريس‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬تربع‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬“حزب‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين”‭ ‬الذي‭ ‬تأسس‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬السني‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1928م،‭ ‬وبعدها‭ ‬بـ‭ ‬31‭ ‬عامًا‭ ‬تأسس‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الشيعي‭ ‬“حزب‭ ‬الدعوة”‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1959م‭.‬

وليس‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬قراءة‭ ‬التقارب‭ ‬والتداخل‭ ‬والتوافق‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬السياسي‭ ‬السني‭ ‬ونظيره‭ ‬الشيعي،‭ ‬والتلاقح‭ ‬الحاصل‭ ‬بين‭ ‬الاثنين،‭ ‬فقد‭ ‬تأثر‭ ‬المفكر‭ ‬الشيعي‭ ‬البارز‭ ‬محمد‭ ‬باقر‭ ‬الصدر‭ ‬مؤسس‭ ‬حزب‭ ‬الدعوة‭ ‬العراقي‭ ‬بفكر‭ ‬سيد‭ ‬قطب،‭ ‬فتشابهت‭ ‬وتطابقت‭ ‬أفكارهما،‭ ‬ويبرز‭ ‬هذا‭ ‬التطابق‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬في‭ ‬كتابيهما‭ ‬المشهورين،‭ ‬كتاب‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬“العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬الإسلام”،‭ ‬وكتاب‭ ‬محمد‭ ‬باقر‭ ‬الصدر‭ ‬“اقتصادنا”‭ ‬الذي‭ ‬ألفه‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1982،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬16‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭.‬

ويقول‭ ‬القيادي‭ ‬الإخواني‭ ‬السابق‭ ‬ثروت‭ ‬الخرباوي،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬أئمة‭ ‬الشر‭: ‬الإخوان‭ ‬والشيعة‭): ‬“انعقد‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التحالف‭ ‬بين‭ ‬حزب‭ ‬الدعوة‭ ‬وبين‭ ‬الحزب‭ ‬الإسلامي‭ ‬العراقي‭ ‬السني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬الذراع‭ ‬السياسية‭ ‬لجماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أتاح‭ ‬الفرصة‭ ‬لانتقال‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬قادة‭ ‬ومنظري‭ ‬الإخوان‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬تحت‭ ‬ستار‭ ‬هذا‭ ‬التحالف‭ ‬السياسي،‭ ‬وكانت‭ ‬مبادئ‭ ‬الفكر‭ ‬القطبي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬قد‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬لنفسها‭ ‬مكانا‭ ‬لائقا‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العراقية‭ ‬حينذاك‭. ‬إن‭ ‬أهم‭ ‬الأفكار‭ ‬القطبية‭ ‬التي‭ ‬تسرّبت‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬الدعوة‭ ‬كانت‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬قيام‭ ‬الإسلام‭ ‬كنظام‭ ‬للحكم‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الدول،‭ ‬لتكون‭ ‬بمثابة‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬نحو‭ ‬تأسيس‭ ‬دولة‭ ‬إسلامية‭ ‬عالمية‭ ‬لا‭ ‬تحدها‭ ‬حدود‭ ‬ولا‭ ‬نطاق‭ ‬جغرافي‭ ‬معين،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬الحاكمية‭ ‬المطلقة‭ ‬لله‭ ‬وحده،‭ ‬وهي‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬دعا‭ ‬إليها‭ ‬قطب‭ ‬في‭ ‬كتاباته”‭.‬

وكما‭ ‬ذكرنا‭ ‬فقد‭ ‬ألَّف‭ ‬أبو‭ ‬الأعلى‭ ‬المودودي‭ ‬بالهند‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬المعنون‭ ‬“الحكومة‭ ‬الإسلامية”،‭ ‬وألف‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬كتابا‭ ‬مشابها‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭ ‬والأهداف‭ ‬ومطابق‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬العنوان،‭ ‬أي‭ ‬بالعنوان‭ ‬نفسه‭: ‬“الحكومة‭ ‬الإسلامية”‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬نشره‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬إعدام‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭.‬

ولا‭ ‬تزال‭ ‬العقيدة‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬المُؤلِفين‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬“الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬أساس‭ ‬المشروعية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة”‭ ‬ثابتة‭ ‬وراسخة‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬الطرفين،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬شعار‭ ‬“الإسلام‭ ‬دين‭ ‬ودولة”‭ ‬متفق‭ ‬عليه‭ ‬بينهما‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬ولو‭ ‬افترقت‭ ‬الطرق‭ ‬شكليًا‭ ‬أو‭ ‬تقاطعت‭ ‬بين‭ ‬“المرشد‭ ‬الإخواني”‭ ‬و”الولي‭ ‬الفقيه”‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة‭.‬

وقد‭ ‬التصق‭ ‬حسن‭ ‬البنا،‭ ‬مؤسس‭ ‬حركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين،‭ ‬واقترب‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الشيعي‭ ‬المعاصر‭ ‬والقديم‭ ‬عندما‭ ‬فارق‭ ‬وخالف‭ ‬الاتجاه‭ ‬الثابت‭ ‬والراسخ‭ ‬قديمًا‭ ‬وحديثًا‭ ‬عند‭ ‬جمهور‭ ‬علماء‭ ‬أهل‭ ‬السنة‭ ‬والجماعة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحكم‭ ‬والسياسة‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬الفرعية‭ ‬والفقهية،‭ ‬بينما‭ ‬اعتبرها‭ ‬البنا‭ ‬“من‭ ‬العقائد‭ ‬والأصول،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الفقهيات‭ ‬والفروع،‭ ‬فالإسلام‭ ‬حكم‭ ‬وتنفيذ،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬تشريع‭ ‬وتعليم،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬قانون‭ ‬وقضاء،‭ ‬لا‭ ‬ينفك‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬عن‭ ‬الآخر”،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬التصور‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬مفكرو‭ ‬الشيعة‭ ‬الذين‭ ‬يعتبرون‭ ‬“الإمامة”‭ ‬أو‭ ‬قيادة‭ ‬الأمة‭ ‬هي‭ ‬أصل‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬الدين‭ ‬وأركانه‭.‬

إن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والمصادر‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬بالفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي‭ ‬السني‭ ‬وبأفكار‭ ‬كبار‭ ‬مفكريهم‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬قيامه‭ ‬باستنهاض‭ ‬“نظرية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه”‭ ‬وتطويرها‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬متقاربة‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬السني‭ ‬ومرتكزة‭ ‬على‭ ‬شعار‭ ‬مشترك‭ ‬وهو‭ ‬“الحاكمية‭ ‬لله”،‭ ‬وعلى‭ ‬أساس‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬عمل‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الشيعي‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بضرورة‭ ‬النهوض‭ ‬وعدم‭ ‬“الانتظار”‭ ‬وتفعيل‭ ‬مشروع‭ ‬أو‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حاصل‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السني،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬إعداد‭ ‬من‭ ‬الشيعة‭ ‬من‭ ‬خانة‭ ‬“الانتظار”‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬النشاط‭ ‬السياسي‭ ‬وشؤون‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬الحراك‭ ‬والعمل‭ ‬السياسي‭.‬

فقبل‭ ‬النسخة‭ ‬المطورة‭ ‬لـ‭ ‬“نظرية‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه”‭ ‬التي‭ ‬أرساها‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬كان‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الشيعي‭ ‬قد‭ ‬ركن‭ ‬إلى‭ ‬“حالة‭ ‬الانتظار”‭ ‬لظهور‭ ‬الإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر،‭ ‬وكان‭ ‬الشيعة‭ ‬قد‭ ‬دخلوا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬اتسمت‭ ‬“بالسلبية‭ ‬السياسية‭ ‬المطلقة،‭ ‬حيث‭ ‬حرَّموا‭ ‬الثورة‭ ‬وإقامة‭ ‬الدولة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ظهور‭ ‬الإمام‭ ‬المعصوم‭ ‬المنصوص‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الله”‭ ‬كما‭ ‬أكد‭ ‬ذلك‭ ‬الباحث‭ ‬أحمد‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“تطور‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الشيعي‭ ‬من‭ ‬الشورى‭ ‬إلى‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه”‭.‬

وكما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المشتركات‭ ‬والتطابق‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬التنظير‭ ‬والأطر‭ ‬الفكرية‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬كما‭ ‬رأينا،‭ ‬فإن‭ ‬الوقائع‭ ‬والمؤشرات‭ ‬وحتمية‭ ‬التاريخ‭ ‬تؤكد‭ ‬بأن‭ ‬مشروع‭ ‬الطرفين‭ ‬لإقامة‭ ‬“الدولة‭ ‬الدينية”‭ ‬سيواجه‭ ‬الانكسار‭ ‬والفشل‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬فهذا‭ ‬التوجه‭ ‬هو‭ ‬مخالف‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭ ‬لاتجاه‭ ‬العصر‭ ‬ومعاكس‭ ‬بشكل‭ ‬حاد‭ ‬لمجرى‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬أطاح‭ ‬بالدول‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬عندما‭ ‬أزيحت‭ ‬الكنيسة‭ ‬من‭ ‬كراسي‭ ‬الحكم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الخلافة‭ ‬العثمانية‭ ‬قد‭ ‬تهدمت‭ ‬بكافة‭ ‬هياكلها‭ ‬وأعمدتها‭ ‬وأركانها‭ ‬ولا‭ ‬أمل‭ ‬البتة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬بنائها‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬ترميمها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ثمة‭ ‬تباينا‭ ‬عميقا‭ ‬في‭ ‬المنطلقات‭ ‬والجذور‭ ‬بين‭ ‬الفكرين‭ ‬السياسيين‭ ‬المعاصرين‭ ‬للشيعة‭ ‬والسنة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬“الدولة”،‭ ‬وهي‭ ‬القضية‭ ‬المحورية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للطرفين،‭ ‬ففي‭ ‬الموروث‭ ‬والوعي‭ ‬السني،‭ ‬فإن‭ ‬“الدولة”‭ ‬ليست‭ ‬شأنًا‭ ‬دينيًا‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬قضية‭ ‬دنيوية‭ ‬مصلحية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬مشروعًا‭ ‬واردًا‭ ‬أو‭ ‬همًّا‭ ‬انشغل‭ ‬الفكر‭ ‬السني‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للشيعة،‭ ‬فإن‭ ‬“الدولة”‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬المعتقد‭ ‬الديني،‭ ‬وهي‭ ‬مشروع‭ ‬قائم‭ ‬ووارد‭ ‬ومطروح‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الشيعي‭ ‬منذ‭ ‬غيبة‭ ‬الإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬ليتم‭ ‬تنفيذه‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬بعد‭ ‬ظهوره،‭ ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬إذًا‭ ‬إن‭ ‬وجدنا‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬تخلي‭ ‬الفكر‭ ‬السني‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬وعودة‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الشيعي‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الركود‭ ‬والانتظار‭.‬