قهوة الصباح

أرادها السَّنا والنورا فكانت سنغافورة

| سيد ضياء الموسوي

نزل‭ ‬كنيزك‭ ‬مضيء،‭ ‬وكنجم‭ ‬سماوي‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬تنبت‭ ‬فقراء‭ ‬وتثمر‭ ‬بؤسا،‭ ‬وأحزان‭ ‬وجع‭ ‬تقاس‭ ‬بالأمتار‭ ‬على‭ ‬الجزيرة‭ ‬المتشظية‭ ‬زجاجا‭ ‬مكسورًا‭ ‬وتوابيت‭ ‬عصافير‭ ‬ومآتم‭ ‬أمل‭ ‬ونعش‭ ‬حياة؛‭ ‬لشدة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬مستهدفة‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬متوحم‭ ‬على‭ ‬بؤسها‭. ‬أطفالها‭ ‬قبل‭ ‬ستين‭ ‬عاما،‭ ‬وقبل‭ ‬مجيء‭ ‬الملاك‭ ‬الحارس،‭ ‬يستحمون‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والأزقة‭ ‬عراة‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬لحاف‭ ‬سماء‭ ‬ببطون،‭ ‬خرائطها‭ ‬جوع،‭ ‬وتضاريس‭ ‬عيونها‭ ‬دموع،‭ ‬ونضارة‭ ‬الخدود‭ ‬ندوب‭. ‬ولد‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬الرحم،‭ ‬تلمست‭ ‬أصابعه‭ ‬جروحا،‭ ‬يبست‭ ‬من‭ ‬غضب‭ ‬البلسم‭ ‬ومقاطعة‭ ‬الشفاء،‭ ‬واعتراض‭ ‬الفرح‭. ‬لا‭ ‬يتقن‭ ‬فن‭ ‬الخطابة،‭ ‬ولا‭ ‬التلاعب‭ ‬بمقدسات‭ ‬الجماهير،‭ ‬وليست‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬ضوء‭ ‬الكاميرات،‭ ‬التي‭ ‬تطلبه‭ ‬فيخجل،‭ ‬تلح‭ ‬عليه‭ ‬المنصة‭ ‬فيهرب،‭ ‬يستدعيه‭ ‬المنصب‭ ‬الذي‭ ‬يودعه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬نشوة‭ ‬الانتصار‭. ‬

زعيم‭ ‬بلا‭ ‬نرجسية‭ ‬“قذافية”،‭ ‬ممتد‭ ‬على‭ ‬القلب‭ ‬جغرافيا‭ ‬بلا‭ ‬دعاية‭ ‬“صالحية”،‭ ‬غير‭ ‬متمسك‭ ‬بالكرسي‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬“المشيل‭ ‬عونية”،‭ ‬لا‭ ‬يوزع‭ ‬إكسسوارات‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬النائمين‭ ‬على‭ ‬الأرصفة،‭ ‬كدعاية‭ ‬انتخابات‭ ‬“طائفية”،‭ ‬ولا‭ ‬يفقه‭ ‬توزيع‭ ‬الخبز‭ ‬البلاستيكي،‭ ‬ولا‭ ‬يستدعي‭ ‬التاريخ‭ ‬أو‭ ‬“بوذا‭ ‬“ليكون‭ ‬القديس،‭ ‬فقداسته‭ ‬أرغفة‭ ‬تتوزع‭ ‬على‭ ‬الفقراء‭ ‬بداية‭ ‬تنمية‭ ‬قداس‭ ‬حقيقية‭. ‬ذرف‭ ‬الدموع‭ ‬عندما‭ ‬أعلنت‭ ‬ماليزيا‭ ‬بكل‭ ‬كبرياء‭ ‬تخليها‭ ‬عن‭ ‬جزيرته،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المصائب‭ ‬قد‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬عجائب،‭ ‬وما‭ ‬تراه‭ ‬مشكلة‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬الحل‭. ‬إنها‭ ‬الدموع‭ ‬إلى‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬ورش‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬لتصبح‭ ‬مصانع‭ ‬للبتروكيماويات،‭ ‬وتكرير‭ ‬النفط‭. ‬أعلن‭ ‬الانقلاب‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬التعيس‭ ‬فكره‭ ‬“النوستولوجيا”‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬كعقدة،‭ ‬فعاقب‭ ‬الحجر‭ ‬بالإصلاح‭ ‬وبناطحات‭ ‬السحب،‭ ‬والفقر‭ ‬بمصارف‭ ‬عملاقة،‭ ‬ورمم‭ ‬الوجع‭ ‬الطائفي‭ ‬بفرض‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬اللغة‭ ‬الرسمية‭ ‬لشعب،‭ ‬كل‭ ‬يدعي‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬الأصل،‭ ‬ولغته‭ ‬الأجمل‭. ‬

كان‭ ‬رهانه‭ ‬أن‭ ‬يحول‭ ‬الأرصفة‭ ‬والمنازل‭ ‬العشوائية‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭ ‬حضارية،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬لكل‭ ‬سنغافوري‭ ‬منزل‭ ‬خاص‭ ‬به‭ ‬فكان‭ ‬له‭ ‬ذلك‭. ‬دلل‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬وفرش‭ ‬له‭ ‬وسادة‭ ‬تشريع‭ ‬من‭ ‬ريش‭ ‬النعام‭ ‬للمستثمرين‭ ‬ورؤوس‭ ‬الأموال،‭ ‬لكنه‭ ‬فرض‭ ‬عليه‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مساكن‭ ‬للشعب‭ ‬لتربح‭ ‬الحكومة‭ ‬والشعب‭ ‬والقطاع‭. ‬إنه‭ ‬البلد‭ ‬الأسهل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬شركة‭ ‬فخلال‭ ‬يومين‭ ‬تأتي‭ ‬الموافقة‭ ‬بلا‭ ‬أوراق‭ ‬ولا‭ ‬بيروقراطية‭ ‬ولا‭ ‬رشوة،‭ ‬ولا‭ ‬ذل‭ ‬هاتف،‭ ‬ووساطتك‭ ‬فقط‭ ‬مدى‭ ‬سرعتك‭ ‬على‭ ‬الضرب‭ ‬على‭ ‬الكيبورد‭ ‬وفهمك‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬النت‭ ‬والتكنولوجيا‭. ‬

الزعيم‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬قارورة‭ ‬عطر‭ ‬مملوءة‭ ‬بالزهر‭ ‬والمطر،‭ ‬يحمل‭ ‬نزاهة‭ ‬الأنبياء‭ ‬في‭ ‬نظافة‭ ‬الكف،‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد،‭ ‬فقدم‭ ‬للمحاكمة‭ ‬مسؤولا‭ ‬تم‭ ‬ارتشاؤه‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬ورجل‭ ‬دين‭ ‬في‭ ‬كنيسة،‭ ‬وكلاهما‭ ‬قدما‭ ‬لمحاكمة‭ ‬علنية‭. ‬

طفله‭ ‬المدلل‭ ‬هو‭ ‬القانون،‭ ‬فالقانون‭ ‬في‭ ‬سنغافورة‭ ‬ليس‭ ‬كبيت‭ ‬العنكبوت‭ ‬تسقط‭ ‬فيه‭ ‬الطيور‭ ‬الصغيرة‭ ‬وتعصف‭ ‬به‭ ‬الطيور‭ ‬الكبيرة‭! ‬فالكل‭ ‬سواسية،‭ ‬فهو‭ ‬يمثل‭ ‬هيبة‭ ‬وأساس‭ ‬الدولة‭. ‬فلما‭ ‬أقدم‭ ‬شاب‭ ‬أميركي‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬القانون‭ ‬بالكتابة‭ ‬على‭ ‬“سيارات”‭ ‬في‭ ‬سنغافورة‭ ‬سجن‭ ‬وحوكم،‭ ‬ولم‭ ‬تقبل‭ ‬وساطة‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬بيل‭ ‬كلنتون‭ ‬حينها‭. ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بفيتامين‭ ‬“واو”،‭ ‬وجعل‭ ‬من‭ ‬لباس‭ ‬الحكومة‭ ‬اللباس‭ ‬الأبيض‭ ‬كدلالة‭ ‬رمزية‭ ‬على‭ ‬الأمانة،‭ ‬ومن‭ ‬يحاول‭ ‬تلطيخ‭ ‬اللون‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭. ‬ليته‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬ولبنان‭ ‬ليرى‭ ‬العجب‭ ‬العجاب‭. ‬بلد‭ ‬القمامة‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬أنظف‭ ‬بلد‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ورمي‭ ‬اللبان‭ ‬“العلكة”‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬يساوى‭ ‬غرامة‭ ‬كبرى‭. ‬فقد‭ ‬توجه‭ ‬باكرا‭ ‬لعدم‭ ‬هدر‭ ‬المال،‭ ‬وما‭ ‬تكلفه‭ ‬هذه‭ ‬العلكة‭ ‬عند‭ ‬محاولة‭ ‬تنظيف‭ ‬وإزالتها‭ ‬من‭ ‬الشوارع‭. ‬قال‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬لها‭ ‬ولنوفر‭ ‬المال‭ ‬للتنمية‭. ‬فتنظيف‭ ‬العلكة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬سنويا‭ ‬يكلف‭ ‬الدولة‭ ‬عشرة‭ ‬ملايين‭ ‬باوند،‭ ‬فقط‭ ‬لإزالتها‭. ‬

رئيس‭ ‬سنغافورة،‭ ‬القديس‭ ‬الراحل‭ ‬“لي‭ ‬كوان‭ ‬يو”‭ ‬بشر‭ ‬لكنه‭ ‬يحمل‭ ‬صفات‭ ‬الأنبياء‭ ‬“مَنْطِقُه‭ ‬الصَّوَابُ‭ ‬ومَلْبَسُهُ‭ ‬الاقْتِصَادُ‭ ‬ومَشْيُهُ‭ ‬التَّوَاضُعُ،‭ ‬لا‭ ‬يَرْضَى‭ ‬من‭ ‬أَعْمَالِه‭ ‬الْقَلِيلَ،‭ ‬ولَا‭ ‬يَسْتَكْثِرُ‭ ‬الْكَثِيرَ،‭ ‬الْخَيْرُ‭ ‬مِنْه‭ ‬مَأْمُولٌ‭ ‬والشَّرُّ‭ ‬مِنْه‭ ‬مَأْمُونٌ،‭ ‬مُقْبِلًا‭ ‬خَيْرُه‭ ‬مُدْبِرًا‭ ‬شَرُّه،‭ ‬فِي‭ ‬الزَّلَازِلِ‭ ‬وَقُورٌ‭ ‬وفِي‭ ‬الْمَكَارِه‭ ‬صَبُورٌ،‭ ‬وفِي‭ ‬الرَّخَاءِ‭ ‬شَكُورٌ‭ ‬لَا‭ ‬يَحِيفُ‭ ‬عَلَى‭ ‬مَنْ‭ ‬يُبْغِضُ،‭ ‬ولَا‭ ‬يَأْثَمُ‭ ‬فِيمَنْ‭ ‬يُحِبُّ”‭. ‬

جمع‭ ‬كل‭ ‬السلوكيات‭ ‬الخاطئة‭ ‬للسنغافوريين‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬أو‭ ‬البصق‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬أو‭ ‬خدش‭ ‬مقاعد‭ ‬المتنزهات‭ ‬والحدائق،‭ ‬فأمر‭ ‬بجمعها‭ ‬جميعا،‭ ‬وشرع‭ ‬قوانين‭ ‬للقضاء‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬عدت‭ ‬سنغافورة‭ ‬ببلد‭ ‬القوانين‭. ‬أصبحت‭ ‬سنغافورة‭ ‬من‭ ‬أغنى‭ ‬وأنظف‭ ‬وأرقى‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وتمتلك‭ ‬احتياطًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬للأجيال،‭ ‬وأكثر‭ ‬بلد‭ ‬تسامحًا‭ ‬في‭ ‬الأديان‭ ‬والطوائف‭ ‬والأعراق،‭ ‬ومن‭ ‬أكبر‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬المالي،‭ ‬ويوازي‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬لها‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬لماليزيا‭ ‬التي‭ ‬لفظتها‭ ‬قبل‭ ‬55‭ ‬عاما،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تكبر‭ ‬مساحتها‭ ‬عنها‭ ‬عشرات‭ ‬المرات،‭ ‬وأضخم‭ ‬موانئ‭ ‬العالم‭ ‬وأقل‭ ‬العالم‭ ‬بطالة‭ ‬ومن‭ ‬أفضل‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬النمو،‭ ‬ومتوسط‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬بين‭ ‬70‭ ‬و80‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬سنويا‭. ‬هذا‭ ‬والبلد‭ ‬بلا‭ ‬موارد‭ ‬طبيعية،‭ ‬حتى‭ ‬الماء‭ ‬والرمل‭ ‬يستورده‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬فقط‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم‭ ‬والاقتصاد‭ ‬ونبض‭ ‬التفرقة‭ ‬والطائفية‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد،‭ ‬وصهر‭ ‬الناس‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬السنغافوري‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬قبل‭ ‬الأديان‭ ‬والمذاهب‭ ‬فأولا‭ ‬الوطن‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬وليس‭ ‬العكس‭. ‬

لم‭ ‬ينشئ‭ ‬حديقة‭ ‬حيوان‭ ‬لمعرفته‭ ‬بحجم‭ ‬نفقة‭ ‬اللحوم‭ ‬التي‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬موازنة‭ ‬ذلك‭ ‬تكون‭ ‬لتوسيع‭ ‬التنمية‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬نفقتها‭ ‬على‭ ‬حديقة،‭ ‬فأسس‭ ‬حديقة‭ ‬الطيور‭ ‬وحديقة‭ ‬الأسماك‭ ‬فهي‭ ‬أقل‭ ‬كلفة‭. ‬إنه‭ ‬القديس‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬فارسا‭ ‬أبيض،‭ ‬ليزرع‭ ‬على‭ ‬شفاه‭ ‬المحرومين‭ ‬حديقة‭ ‬ورد،‭ ‬وفي‭ ‬عيون‭ ‬المهمشين‭ ‬طيور‭ ‬نورس‭. ‬لي‭ ‬كوان‭ ‬يو،‭ ‬سلام‭ ‬عليك‭ ‬أيها‭ ‬الملاك‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬جمال‭ ‬محيا‭ ‬ومحكمة‭ ‬ضمير،‭ ‬وأصابع‭ ‬تنسج‭ ‬الأرض‭ ‬زهورا‭ ‬وسؤددا‭ ‬وشجر‭ ‬سنديان‭.‬