قهوة الصباح

“لي كوان يو”... البشر قبل الحجر والإنسان قبل الأرقام

| سيد ضياء الموسوي

لم‭ ‬يكن‭ ‬قديسًا‭ ‬لكنه‭ ‬بطعم‭ ‬القداسة،‭ ‬سياسي‭ ‬لم‭ ‬تلوثه‭ ‬السياسة،‭ ‬“لم‭ ‬يكن‭ ‬تدينه‭ ‬حائلًا‭ ‬عن‭ ‬علمانيته،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬علمانيته‭ ‬عبئا‭ ‬على‭ ‬تدينه،‭ ‬فالدين‭ ‬لله‭ ‬والوطن‭ ‬للجميع”‭. ‬وقف‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وهو‭ ‬صغير‭ ‬متسمرا‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬عبث‭ ‬المحتل‭ ‬الياباني‭ ‬كيف‭ ‬يركل‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وشهد‭ ‬تراكم‭ ‬الجشع‭ ‬البريطاني‭ ‬على‭ ‬ترابه؛‭ ‬حتى‭ ‬كبر‭ ‬الصبي،‭ ‬وشهد‭ ‬كيف‭ ‬تخلت‭ ‬ماليزيا‭ ‬عن‭ ‬جزيرته‭ (‬سنغافورا‭) ‬كأنها‭ ‬تقتطع‭ ‬ورما‭ ‬سرطانيا‭ ‬ملفوظا‭ ‬عن‭ ‬بلادها‭. ‬بكى‭ ‬الزعيم‭ ‬عندما‭ ‬وجد‭ ‬سنغافورا‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬بلا‭ ‬موارد‭ ‬ولا‭ ‬نفط‭ ‬وحتى‭ ‬الماء‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يشتريه‭ ‬من‭ ‬الام‭ ‬ماليزيا‭ ‬التي‭ ‬تركت‭ ‬الجزيرة‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬كيتيمة‭ ‬رميت‭ ‬بليل‭ ‬ماطر‭ ‬في‭ ‬ملجأ‭. ‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬دموع‭ ‬العظماء‭ ‬التي‭ ‬تستحيل‭ ‬الى‭ ‬ذهب،‭ ‬عندما‭ ‬تتعملق‭ ‬الإرادة‭ ‬وتتضح‭ ‬كثافة‭ ‬الرؤية‭ ‬أمام‭ ‬غموض‭ ‬الضباب،‭ ‬وعندما‭ ‬يكون‭ ‬المورد‭ ‬الأكبر‭ ‬قرار‭ ‬الزعيم‭ ‬ليكون‭ ‬زعيم‭ ‬القرار‭. ‬استلم‭ ‬الزعيم‭ ‬السنغافوري‭ ‬العظيم‭ ‬لي‭ ‬كوانيو‭ ‬سنغافورة‭ ‬طبقا‭ ‬مليئًا‭ ‬بالذباب‭ ‬والقمامة‭ ‬والفئران‭ ‬والفقر‭ ‬والبطالة‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬تستعرض‭ ‬فيها‭ ‬الجريمة‭ ‬نرجسيتها،‭ ‬والبيوت‭ ‬العشوائية‭ ‬سخطها،‭ ‬والشوارع‭ ‬المقطعة‭ ‬الأوصال‭ ‬بؤسها‭ ‬وجعها‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬والفتن،‭ ‬لكنه‭ ‬آثر‭ ‬أن‭ ‬يزرع‭ ‬الأمل،‭ ‬ويكون‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬التحدي‭ ‬فكان‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬تصمد‭ ‬أمام‭ ‬المخرز‭ ‬ونبتة‭ ‬الحسكان‭ ‬أمام‭ ‬قسوة‭ ‬الجفاف‭. ‬هزم‭ ‬العواصف‭ ‬بجسده‭ ‬النحيل،‭ ‬وكأنه‭ ‬يجسد‭ ‬بطولة‭ ‬رواية‭ ‬العجوز‭ ‬والبحر‭ ‬للروائي‭ ‬العظيم‭ ‬همنجواى‭.‬

حمل‭ ‬الجرح‭ ‬على‭ ‬ظهره،‭ ‬وسار‭ ‬بالألم‭ ‬مكابرا،‭ ‬ينزع‭ ‬الشوك‭ ‬ليزرع‭ ‬الشوق‭ ‬يقوده‭ ‬التوق‭ ‬ليصنع‭ ‬القمر‭. ‬زرع‭ ‬حب‭ ‬سنغافورا‭ ‬في‭ ‬المختلفين‭ ‬مذهبيا‭ ‬ليتمذهب‭ ‬المختلفون‭ ‬توحدًا‭ ‬مذهبيا‭ ‬ذهابا‭ ‬وذهبا‭ ‬ومذهبًا‭. ‬في‭ ‬ظل‭ ‬البطل‭ ‬لي‭ ‬كل‭ ‬القواعد‭ ‬انقلبت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬حتى‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭ ‬“اكتم‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬ثلاثا‭: ‬ذهبَك‭ ‬وذِهابك‭ ‬ومَذهَبك”‭ ‬ليكون‭ ‬الثلاثة‭ ‬زجاجا‭ ‬شفافًا‭ ‬يرى‭ ‬الثلج‭ ‬فيه‭ ‬وجهه‭ ‬الثلجي‭ ‬في‭ ‬مرآته‭ ‬البيضاء‭ ‬كريستالا‭.‬

ففي‭ ‬سنغافورا‭ ‬توحد‭ ‬المقسم‭ ‬ليكون‭ ‬قسمًا‭ ‬على‭ ‬قسم‭ ‬في‭ ‬منصة‭ ‬برلمان‭ ‬أو‭ ‬شرفة‭ ‬فقير‭ ‬من‭ ‬طوائف‭ ‬وأديان‭ ‬وأعراق‭ ‬من‭ ‬مسلمين‭ ‬مالاويين‭ ‬وصينيين‭ ‬وهنود‭ ‬ليجرم‭ ‬الطائفية‭ ‬بقانون،‭ ‬ويسعى‭ ‬لإدماج‭ ‬الكل‭ ‬المختلف‭ ‬في‭ ‬الكل‭ ‬المتحد‭ ‬لتكون‭ ‬سنغافورا‭ ‬بوتقة‭ ‬التوحد‭ ‬للفسيفساء‭ ‬البشري‭ ‬المختلف‭. ‬دمج‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬إنسانية‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬وطني‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬والمدارس‭ ‬والوزارات‭ ‬تحت‭ ‬مبدأ‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص‭. ‬قلب‭ ‬المعادلات‭ ‬وراح‭ ‬يرفع‭ ‬شعاره‭ ‬“البقاء‭ ‬ليس‭ ‬للأقوى؛‭ ‬بل‭ ‬البقاء‭ ‬للأجدر‭ ‬للكفاءة”،‭ ‬لا‭ ‬للنسب‭ ‬أو‭ ‬المال‭ ‬أو‭ ‬الطائفة‭ ‬أو‭ ‬العرق‭. ‬صهر‭ ‬الجميع‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬السنغافوري‭.‬

كان‭ ‬شعاره‭ ‬البشر‭ ‬قبل‭ ‬الحجر‭ ‬والإنسان‭ ‬قبل‭ ‬الأرقام‭. ‬تطور‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬وأصبح‭ ‬أكثر‭ ‬تنوعًا‭ ‬وأصبحت‭ ‬سنغافورا‭ ‬مركزًا‭ ‬ماليًا‭ ‬وتجاريًا‭ ‬مهمًا،‭ ‬وملتقى‭ ‬لطرق‭ ‬المواصلات‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬للسياحة‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭. ‬المعجزة‭ ‬السنغافورية‭ ‬تحققت‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬كوان‭ ‬يو‭ ‬ساحرًا‭ ‬بالتنمية،‭ ‬ويمتلك‭ ‬بلورة‭ ‬سحرية‭ ‬الأفكار‭ ‬والتنوير‭ ‬والحداثة‭ ‬المستحمة‭ ‬مع‭ ‬الأصالة‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬التغيير‭.‬

رجل‭ ‬عرف‭ ‬كيف‭ ‬يقي‭ ‬الشجرة‭ ‬المالية‭ ‬للوطن‭ ‬من‭ ‬سوس‭ ‬الفساد‭ ‬والعمولات‭ ‬والصفقات‭ ‬الجشعة‭ ‬التي‭ ‬يتفنن‭ ‬ضباع‭ ‬المال‭ ‬وحيتانها‭ ‬في‭ ‬الإثراء‭ ‬السريع‭ ‬؛لهذا‭ ‬تعد‭ ‬سنغافورة‭ ‬الأقل‭ ‬فسادًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬يبلغ‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬الإجمالي‭ ‬70‭,‬530‭$:‬

إن‭ ‬أساس‭ ‬ثروة‭ ‬سنغافورا‭ ‬هو‭ ‬قطاع‭ ‬الخدمات‭ ‬المالية،‭ ‬وتصدير‭ ‬المواد‭ ‬الكيميائية،‭ ‬والليبرالية‭ ‬الاقتصاديّة‭ ‬التي‭ ‬تشجّع‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬والابتكار‭ ‬العلمي،‭ ‬كما‭ ‬يعدّ‭ ‬ميناء‭ ‬سنغافورة‭ ‬ثاني‭ ‬أكثر‭ ‬موانئ‭ ‬العالم‭ ‬ازدحاماً‭. ‬ويعد‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭ ‬السنوي‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬المعدلات‭ ‬في‭ ‬آسيا‭. ‬

ويتمتع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬سنغافورة‭ ‬بمستوى‭ ‬مرتفع‭ ‬من‭ ‬المعيشة،‭ ‬والرعاية‭ ‬الاجتماعية‭. ‬فهناك‭ ‬طبيب‭ ‬لكل‭ ‬837‭ ‬شخصًا،‭ ‬وسرير‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬حكومي‭ ‬لكل‭ ‬269‭ ‬شخصًا‭.‬ان‭ ‬النسبة‭ ‬المئوية‭ ‬لنمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2007‭: ‬7‭.‬4‭ %‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬معدل‭ ‬نمو‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي‭: ‬6‭.‬8‭ % (‬2007‭) ‬فكيف‭ ‬الآن؟‭ ‬لاعرف‭ ‬تضاريس‭ ‬شخصية‭ ‬هذا‭ ‬النبي‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬عكفت‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬مذكراته‭ (‬قصة‭ ‬سنغافورا‭) ‬مذكرات‭ ‬لي‭ ‬كوان‭ ‬يو‭. ‬دار‭ ‬العبيكان‭. ‬يقول‭ ‬وهو‭ ‬يسأل‭ ‬نفسه‭ ‬باكيًا‭ ‬بعد‭ ‬انفصال‭ ‬ستغافورا‭ ‬عن‭ ‬ماليزيا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬بلا‭ ‬موارد،‭ ‬وعبارة‭ ‬عن‭ ‬مستنقع‭ ‬في‭ ‬ص‭ ‬24‭ ‬“كيف‭ ‬كان‭ ‬بوسعنا‭ ‬أن‭ ‬نحيا‭ ‬حقًا؟‭ ‬حتى‭ ‬مياهنا‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬الماليزية‭ ‬المجاورة؟‭!!‬”‭ ‬وعن‭ ‬اندونسيا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستعدي‭ ‬سنغافورا‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬25‭ ‬“كانوا‭ ‬يتسللون‭ ‬الى‭ ‬سنغافورة‭ ‬لتفجير‭ ‬القنابل‭ ‬والغازات‭ ‬العسكرية”‭. ‬

هذا‭ ‬إضافة‭ ‬الى‭ ‬خوفه‭ ‬من‭ ‬تكدس‭ ‬البطالة‭ ‬التي‭ ‬سيخلفها‭ ‬خروج‭ ‬البريطانيين‭ ‬وإغلاق‭ ‬القواعد‭. ‬لجأ‭ ‬القديس‭ ‬ويا‭ ‬للقدر،‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ليساعدوه،‭ ‬ومنها‭ ‬مصر‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬17وهو‭ ‬يشكو‭ ‬بلدًا‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شي‭ ‬“لقد‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬إرسال‭ ‬خبير‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬قوة‭ ‬دفاع‭ ‬بحرية”‭. ‬الا‭ ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم‭ ‬العظيم‭ ‬أسس‭ ‬الدولة‭ ‬عبر‭ ‬قرارات‭ ‬حاسمة‭: ‬الديمقراطية،‭ ‬والشفافية،‭ ‬وتجريم‭ ‬الطائفية،‭ ‬وقانون‭ ‬احترام‭ ‬الأديان،‭ ‬ومبدأ‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص،‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد،‭ ‬وتنوع‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬ورفع‭ ‬مستوى‭ ‬النمو،‭ ‬وبناء‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬لجذب‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال،‭ ‬واستقلالية‭ ‬القضاء،‭ ‬وفصل‭ ‬السلطات،‭ ‬والتجارة‭ ‬الحرة‭ ‬مع‭ ‬محاربة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬سنغافورية‭ ‬دون‭ ‬إذابتها‭ ‬في‭ ‬بوتقة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬كليًا‭. ‬إنه‭ ‬لي‭ ‬كوان‭ ‬يو،‭ ‬القديس‭ ‬الذي‭ ‬يستسقى‭ ‬به‭ ‬الغمام،‭ ‬والفارس‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬بعين‭ ‬نسر‭ ‬وقلب‭ ‬أسد‭ ‬وأصابع‭ ‬امرأة‭ ‬لجسد‭ ‬مطعم‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬الملائكة‭. ‬فسلام‭ ‬عليك‭ ‬يوم‭ ‬ولدت‭ ‬ويوم‭ ‬مت‭ ‬ويوم‭ ‬تبعث‭ ‬حيا‭.‬