حديث صريح مع “المعاش”!

| سعيد محمد

مع‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬“يكسر‭ ‬خاطري”‭ ‬بسبب‭ ‬هزاله‭ ‬وضعفه‭ ‬الشديد،‭ ‬وأناته‭ ‬المستمرة‭ ‬التي‭ ‬تصم‭ ‬الآذان،‭ ‬لكنني‭ ‬أخرجت‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬وتحدثت‭ ‬مع‭ ‬بكل‭ ‬صراحة‭ ‬ووضوح‭ ‬وسعة‭ ‬صدر‭.. ‬فما‭ ‬عاد‭ ‬الوضع‭ ‬الذي‭ ‬أصابني‭ ‬كما‭ ‬أصاب‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬الناس؛‭ ‬بسبب‭ ‬انغلاقه‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬ووقوفه‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬وجموده‭ ‬وثقل‭ ‬حركته،‭ ‬وإصراره‭ ‬الدائم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬“أسيرًا”،‭ ‬لا‭.. ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬دفعني‭ ‬للحوار‭ ‬معه‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تيقنته‭ ‬من‭ ‬انعدام‭ ‬الطموح‭ ‬لديه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.. ‬وخموله‭ ‬وكسله‭ ‬حينما‭ ‬وجدته‭ ‬يحب‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الأسفل‭ ‬دائمًا‭.. ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬ويرتفع‭ ‬أبدًا،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يواكب‭ ‬الزمن،‭ ‬ولا‭ ‬يرغب‭ ‬أبدًا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬متميزًا‭ ‬ومحبوبًا‭ ‬ونشطًا‭ ‬في‭ ‬الصعود‭ ‬والجميع‭ ‬يصفق‭ ‬له‭ ‬ويكن‭ ‬له‭ ‬الاحترام‭.. ‬والأشد،‭ ‬والأكثر‭ ‬إيلامًا‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬هو‭ ‬اكتشافي‭ ‬أنه‭ ‬“يحب‭ ‬أن‭ ‬ينادونه‭ ‬بعبارة‭... ‬ما‭ ‬عاش‭.. ‬ما‭ ‬عاش”‭! ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬غضبي‭ ‬وحنقي‭ ‬وحزني‭ ‬وقلقي‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬نفسي‭.‬

سألته‭.. ‬أي‭ ‬الراتب،‭ ‬ولها‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ومنها‭: ‬أجر،‭ ‬معاش،‭ ‬مرتب،‭ ‬كراء،‭ ‬وفي‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬يطلقون‭ ‬عليه‭ ‬أسماء‭ ‬مثل‭ (‬salary‭ - ‬pay‭ - ‬stipend‭)‬،‭ ‬وربما‭ ‬له‭ ‬أسماء،‭ ‬وربما‭ ‬له‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬اللغتين‭ ‬العربية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬لا‭ ‬أتقنها،‭ ‬وبالتأكيد‭ ‬له‭ ‬عشرات‭ ‬الأسماء‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬أهل‭ ‬الدنيا،‭ ‬ألا‭ ‬أن‭ ‬حواري‭ ‬معه‭ ‬بدأ‭ ‬بسؤال‭ ‬واحد‭ ‬خبأته‭ ‬منذ‭ ‬سنين،‭ ‬وليتني‭ ‬لم‭ ‬أساله‭ ‬لما‭ ‬حل‭ ‬علي‭ ‬من‭ ‬بلاء‭ ‬عظيم‭ ‬وكدر‭ ‬جسيم‭ ‬فقد‭ ‬سألته‭ ‬“ما‭ ‬الذي‭ ‬يمنعك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تسمن؟‭ ‬لماذا‭ ‬تبقى‭ ‬هزيلًا‭ ‬هكذا؟”،‭ ‬فكان‭ ‬جوابه‭ ‬مباغتًا‭ ‬ومؤثرًا‭ ‬للغاية،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتوقعه‭ ‬أبدًا،‭ ‬فقد‭ ‬همس‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬وهو‭ ‬يكاد‭ ‬يلفظ‭ ‬أنفاسه‭ ‬الأخيرة‭ ‬“اسمع‭ ‬يا‭ ‬بني‭.. ‬أنا‭ ‬أحتضر‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭.. ‬أحتضر‭ ‬كل‭ ‬آخر‭ ‬شهر‭.. ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬تعلم‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يصيبني‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬كل‭ ‬شهر‭.. ‬خلني‭ ‬ساكت‭ ‬أحسن”‭.‬

وما‭ ‬كاد‭ ‬ينتهي‭ ‬من‭ ‬كلامه‭ ‬حتى‭ ‬عاجلته‭ ‬بالقول‭ ‬“لا‭ ‬والله‭ ‬وتالله‭ ‬وبالله‭ ‬ما‭ ‬أخليك‭ ‬ساكت‭.. ‬إلا‭ ‬تقول‭.. ‬ناشدتك‭ ‬الله‭ ‬تكلم‭.. ‬أرجوك،‭ ‬فكلي‭ ‬آذان‭ ‬صاغية”،‭ ‬ومع‭ ‬إصراري‭ ‬وإلحاحي‭ ‬عليه‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬“في‭ ‬آخر‭ ‬كل‭ ‬شهر‭.. ‬أشعر‭ ‬بأنني‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬رقية‭ ‬شرعية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أمهر‭ ‬وأشهر‭ ‬وأقوى‭ ‬الرقاة‭.. ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬رعشة‭ ‬عظيمة‭ ‬مجلجلة‭ ‬تصيبني،‭ ‬فترتفع‭ ‬درجة‭ ‬حرارتي،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬ألبث‭ ‬أن‭ (‬أتنتف‭)‬؟‭ ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬أقصد؟‭ ‬أي‭ ‬أنني‭ ‬أتمزق‭ ‬شر‭ ‬ممزق‭.. ‬وأشعر‭ ‬بطعنات‭ ‬شديدة‭ ‬تأتيني‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬الألم‭ ‬والوجع‭ ‬أبكي‭ ‬بكاءً‭ ‬حارًا‭ ‬يسمعه‭ ‬القاصي‭ ‬والداني،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬لا‭ ‬أتمزق،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حالتي‭ ‬تكون‭ ‬أشد‭ ‬حينها‭.. ‬ذلك‭ ‬حين‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬أطير‭ ‬بسرعة‭ ‬الصوت‭ ‬فلا‭ ‬تراني‭ ‬ولا‭ ‬تسمعني‭.. ‬دعني‭ ‬في‭ ‬حالي،‭ ‬فإن‭ ‬أكملت‭ ‬لك‭ ‬ربما‭ ‬يغمى‭ ‬عليك‭ ‬وتطيح‭ (‬صفرة‭)‬”‭.‬

يا‭ ‬للمسكين،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم‭ ‬أنني‭ ‬“طحت‭ ‬صفرة”‭ ‬وأصبني‭ ‬“شلل‭ ‬أطفال”‭ ‬والزهايمر‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬كلمة‭ ‬“أتنتف”‭.. ‬والله‭ ‬المستعان‭ ‬في‭ ‬الشدة‭ ‬والرخاء‭.‬