الشيعة العرب ونظام الحكم في إيران.. جولة مع رسائل القراء

| عبدالنبي الشعلة

بعد‭ ‬أن‭ ‬نُشر‭ ‬مقالي‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬“الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬ونظام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬إيران”‭ ‬وتم‭ ‬توزيعه‭ ‬وتداوله‭ ‬بشكل‭ ‬واسع‭ ‬وسريع‭ ‬عبر‭ ‬مختلف‭ ‬الوسائل‭ ‬والمنصات،‭ ‬تلقيت‭ ‬كمًا‭ ‬هائلًا‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬والاتصالات‭ ‬التي‭ ‬تضمنت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الملاحظات‭ ‬والآراء‭ ‬والمعلومات‭ ‬الإضافية،‭ ‬وكانت‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬منها‭ ‬تثني‭ ‬وتشيد‭ ‬وتتفق‭ ‬تمام‭ ‬الاتفاق‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تضمنه‭ ‬المقال،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬والاتصالات‭ ‬تشجب‭ ‬وتندد‭ ‬وتعترض‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬فيه،‭ ‬بعضها‭ ‬بشدة‭ ‬وحدة‭ ‬وبانفعال‭ ‬واحتقان‭ ‬وتشنج،‭ ‬وقد‭ ‬وردني‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬أشخاص‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬“خط‭ ‬أحمر”‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬المساس‭ ‬به‭ ‬بأي‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬الصور؛‭ ‬حيث‭ ‬يرأسه‭ ‬أئمة‭ ‬ورجال‭ ‬دين‭ ‬كبار‭ ‬صالحون‭ ‬يؤدون‭ ‬واجبهم‭ ‬برعاية‭ ‬وبتفويض‭ ‬ونيابة‭ ‬عن‭ ‬الإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر‭ (‬عجل‭ ‬الله‭ ‬فرجه‭)‬،‭ ‬وهم‭ ‬بذلك‭ ‬يتمتعون‭ ‬بهالة‭ ‬من‭ ‬القدسية‭ ‬والعصمة‭ ‬والحصانة‭ ‬الإلهية‭ ‬التي‭ ‬تحميهم‭ ‬وتحفظهم‭ ‬من‭ ‬الخلل‭ ‬والزلل‭ ‬أو‭ ‬ارتكاب‭ ‬الخطأ‭ ‬أو‭ ‬الرذيلة‭ ‬“فكيف‭ ‬تتجرأ‭ ‬على‭ ‬انتقادهم‭ ‬وانتقاد‭ ‬أفعالهم‭ ‬وسياساتهم؟”،‭ ‬وحيال‭ ‬هؤلاء‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬وسعنا‭ ‬إلا‭ ‬الدعوة‭ ‬لهم‭ ‬بالهداية‭ ‬والسداد‭ ‬والصلاح‭.‬

وآخرون‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القلة‭ ‬خَلصَتْ‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬لا‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬بسط‭ ‬نفوذه‭ ‬وسطوته‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬ولا‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬فقط،‭ ‬لكنه‭ ‬يسعى‭ ‬ويضحي‭ ‬بالأموال‭ ‬والأرواح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وبغية‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬المسلمين‭ ‬العرب‭ ‬والوقوف‭ ‬إلى‭ ‬جانبهم‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬قضاياهم‭ ‬المصيرية؛‭ ‬وهو‭ ‬لذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬يقف‭ ‬بقوة‭ ‬وصلابة‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬شيعة،‭ ‬ويدعم‭ ‬قضيتهم‭ ‬العادلة‭ ‬بكل‭ ‬صلابة‭ ‬وإصرار،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تخلى‭ ‬عنهم‭ ‬أشقاؤهم‭ ‬العرب‭ ‬وباعوا‭ ‬قضيتهم‭ ‬بأبخس‭ ‬الأثمان،‭ ‬وهذا‭ ‬قول‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نبدي‭ ‬كل‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير‭ ‬لأصحابه،‭ ‬مع‭ ‬اختلافنا‭ ‬معهم‭.‬

إن‭ ‬أحلى‭ ‬وأجمل‭ ‬ما‭ ‬وردني‭ ‬رسالة‭ ‬مطولة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬القراء‭ ‬ذكر‭ ‬فيها‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يرعبنا‭ ‬أو‭ ‬يهمنا‭ ‬تهديد‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬ب‭ ‬“تصدير‭ ‬الثورة”‭ ‬إذا‭ ‬قمنا‭ ‬بسد‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬استيرادها‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مواجهة‭ ‬الأطماع‭ ‬والتهديدات‭ ‬الخارجية‭ ‬تتطلب‭ ‬أولًا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ضرورة‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والمشاركة‭ ‬والمساواة،‭ ‬ودعم‭ ‬وتأصيل‭ ‬روح‭ ‬الأخوة‭ ‬والوحدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬العرب‭ ‬كافة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬القيم‭ ‬الوطنية‭ ‬وأواصر‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬والولاء‭ ‬للأوطان،‭ ‬والتصدي‭ ‬لكل‭ ‬محاولات‭ ‬التفتيت‭ ‬وشق‭ ‬الصف‭ ‬والتفرقة‭ ‬بينهم،‭ ‬وتأكيد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجمعهم‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يفرقهم،‭ ‬وأنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬التشيع‭ ‬يعني‭ ‬حب‭ ‬آل‭ ‬بيت‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وآله‭ ‬وصحبه‭ ‬وسلم،‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬المسلمين‭ ‬بمذاهبهم‭ ‬وطوائفهم‭ ‬كافة‭ ‬هم‭ ‬شيعة‭ ‬ويحبون‭ ‬آل‭ ‬محمد‭ ‬ويقتدون‭ ‬بقول‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬إن‭ ‬كان‭ ‬رفضًا‭ ‬حبّ‭ ‬آل‭ ‬محمّد‭.. ‬فليشهد‭ ‬الثقلان‭ ‬أنّي‭ ‬رافضي،‭ ‬وعندما‭ ‬قال‭: ‬“يا‭ ‬آلَ‭ ‬بيتِ‭ ‬رسولِ‭ ‬الله‭ ‬حبُّكمُ‭.. ‬فرضٌ‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬القرآنِ‭ ‬أنزلهُ‭.. ‬يكفيكُمُ‭ ‬مِنْ‭ ‬عَظيمِ‭ ‬الفخرِ‭ ‬أنكمُ‭.. ‬مَنْ‭ ‬لم‭ ‬يُصلِّ‭ ‬عليكم‭ ‬لا‭ ‬صَلاةُ‭ ‬لهُ”‭.‬

ووردتني‭ ‬اتصالات‭ ‬عدة‭ ‬تحمل‭ ‬المعنى‭ ‬والفحوى‭ ‬ذاتها‭ ‬للرسالة‭ ‬التي‭ ‬بعثها‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬المتابعين‭ ‬والمهتمين،‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬المقال‭ ‬“فيه‭ ‬تشخيص‭ ‬حقيقي‭ ‬للواقع‭ ‬الإيراني‭ ‬وتعاطيه‭ ‬مع‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬كورقة‭ ‬يستخدمها‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬أراد‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬العناوين‭ ‬والشعارات‭ ‬البراقة‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬ويسيل‭ ‬لها‭ ‬لعاب‭ ‬البسطاء‭ ‬منا”‭.‬

كما‭ ‬قال‭ ‬قارئ‭ ‬إن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬“يستعمل‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬وقودا‭ ‬لمخططاته‭ ‬ولحروبه‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭... ‬وقد‭ ‬سوّقت‭ ‬إيران‭ ‬لنفسها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استعمال‭ ‬التشيّع‭ ‬واستغلاله‭ ‬كي‭ ‬تغيّب‭ ‬العقل‭ ‬وتسيطر‭ ‬على‭ ‬العواطف”‭.‬

قارئ‭ ‬آخر‭ ‬صحح‭ ‬معلوماتي‭ ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬نسبة‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬أذربيجان‭ ‬تفوق‭ ‬75‭ %‬،‭ ‬ولفت‭ ‬نظري‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مصلحة‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬ومناهضته‭ ‬للحس‭ ‬القومي‭ ‬الأذري‭ ‬جعلته،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬يقف‭ ‬دائمًا‭ ‬ضد‭ ‬الحكومة‭ ‬والشعب‭ ‬الأذري‭ ‬الشيعي‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬أذربيجان‭ ‬وينحاز‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حكومة‭ ‬وشعب‭ ‬أرمينيا‭ ‬المسيحية،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬مرشد‭ ‬الثورة‭ ‬السيد‭ ‬علي‭ ‬خامنئي‭ ‬ينحدر‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬أذري،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬فإن‭ ‬تركيا‭ ‬السنية‭ ‬تقف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬جمهورية‭ ‬أذربيجان‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬خلافها‭ ‬مع‭ ‬أرمينيا‭ ‬المسيحية؛‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬الحقيقي‭ ‬للسياسة‭ ‬والمصالح‭ ‬دون‭ ‬رتوش‭ ‬أو‭ ‬عمليات‭ ‬تجميل‭ ‬أو‭ ‬مساحيق‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬مذهبية‭.‬

وبعث‭ ‬لي‭ ‬أحد‭ ‬القراء‭ ‬مقتطفات‭ ‬من‭ ‬مقال‭ ‬للكاتبة‭ ‬العراقية‭ ‬الشيعية‭ ‬رغد‭ ‬عبدالرضا‭ ‬الجابري‭ ‬خلاصته‭ ‬أن‭ ‬النوايا‭ ‬الحقيقية‭ ‬لحكام‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬تشجيع‭ ‬العراقيين‭ ‬على‭ ‬توجيه‭ ‬جهودهم‭ ‬نحو‭ ‬القضايا‭ ‬والشعائر‭ ‬الدينية‭ ‬بينما‭ ‬“تفرغت‭ ‬هي‭ ‬وركزت‭ ‬جهودها‭ ‬لبناء‭ ‬جيش‭ ‬قوي،‭ ‬وللتصنيع‭ ‬والتسليح‭ ‬العسكري‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬والاختراعات‭ ‬والابتكارات‭.. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬السلاح‭ ‬النووي”،‭ ‬ثم‭ ‬تساءل‭: ‬“كم‭ ‬مركز‭ ‬للدراسات‭ ‬والبحوث‭ ‬العلمية‭ ‬بنته‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬العراق؟”‭.‬

قارئ‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬“مع‭ ‬كل‭ ‬معطيات‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬فإنكم‭ ‬قد‭ ‬فشلتم‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الشأن‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي،‭ ‬وأنكم‭ ‬أنتم‭ ‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬دفع‭ ‬بعض‭ ‬الضائعين‭ ‬والتائهين‭ ‬وضعاف‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬الارتماء‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬عندما‭ ‬جعلتم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيعي‭ ‬عربي‭ ‬مظنة‭ ‬شبهة‭ ‬ولاء‭ ‬لإيران،‭ ‬ووصمتم‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬ووصفتموهم‭ ‬دون‭ ‬استثناء‭ ‬بأنهم‭ ‬أذناب‭ ‬وخونة‭ ‬وعملاء‭ ‬ومجوس‭ ‬وصفويون‭ ‬وأبناء‭... ‬والعياذ‭ ‬بالله”‭.‬

كثير‭ ‬من‭ ‬التعليقات‭ ‬والرسائل‭ ‬دارت‭ ‬حول‭ ‬“نظرية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه”‭ ‬التي‭ ‬يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الشيعة‭ ‬يؤمنون‭ ‬بها،‭ ‬وهذا‭ ‬خلاف‭ ‬الواقع،‭ ‬فالحقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬جدلية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لفقهاء‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال،‭ ‬وإن‭ ‬لها‭ ‬قراءات‭ ‬وتفسيرات‭ ‬متعددة‭ ‬ومتباينة‭ ‬ومختلفة‭ ‬حتى‭ ‬بين‭ ‬أتباعها‭ ‬والمؤمنين‭ ‬بها‭.‬

و‭ ‬“ولاية‭ ‬الفقيه”‭ ‬مصطلح‭ ‬جديد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬موجودا‭ ‬في‭ ‬فقه‭ ‬الشيعة‭ ‬الإمامية،‭ ‬ويرى‭ ‬بعض‭ ‬الفقهاء‭ ‬أنها‭ ‬تشكل‭ ‬أساسًا‭ ‬مخالفًا‭ ‬لأصول‭ ‬الفكر‭ ‬الشيعي‭ ‬الاثني‭ ‬عشري‭.‬

وقد‭ ‬طُرحت‭ ‬نظرية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬“الخاصة‭ ‬المحدودة”‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬ليست‭ ‬بالطويلة‭ ‬من‭ ‬قيام‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬بإعادة‭ ‬طرحها‭ ‬وتطويرها‭ ‬والارتقاء‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬“الولاية‭ ‬العامة‭ ‬المطلقة”‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬وسبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي؛‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الإدارة‭ ‬الكاملة‭ ‬للإنسان‭ ‬والمجتمع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقلد‭ ‬الفقيه‭ ‬أو‭ ‬رجل‭ ‬الدين‭ ‬لزمام‭ ‬السلطة‭ ‬وممارسة‭ ‬الحكم‭ ‬بسلطات‭ ‬مطلقة،‭ ‬والتي‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬نائبا‭ ‬للإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر‭ ‬والحاكم‭ ‬المعين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الله‭ ‬مع‭ ‬كامل‭ ‬صلاحية‭ ‬الولاية‭ ‬على‭ ‬الشعب،‭ ‬ويرى‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬أن‭ ‬ولاية‭ ‬الفقهاء‭ ‬المطلقة‭ ‬هي‭ ‬الولاية‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬أعطاها‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬نبيه‭ ‬الكريم‭ ‬وإلى‭ ‬الأئمة‭ ‬المعصومين‭.‬

إن‭ ‬كثيرين،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬علماء‭ ‬وفقهاء‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬نفسها،‭ ‬لا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بهذه‭ ‬النظرية‭ ‬ويطالبون‭ ‬بمراجعتها،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرزهم‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬محمد‭ ‬كاظم‭ ‬شريعتمداري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬جهر‭ ‬بمعارضته‭ ‬لولاية‭ ‬الفقيه،‭ ‬وتمت‭ ‬محاكمته‭ ‬وإقصاؤه‭ ‬وحرق‭ ‬مكتبته،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬حسين‭ ‬منتظري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نائبًا‭ ‬للإمام‭ ‬الخميني‭ ‬ومرشحًا‭ ‬لخلافته‭ ‬ثم‭ ‬اعتقل‭ ‬ومات‭ ‬وهو‭ ‬قيد‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية،‭ ‬وآية‭ ‬الله‭ ‬محمود‭ ‬أبو‭ ‬الحسن‭ ‬الطالقاني‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬غامضة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعلن‭ ‬اعتراضه‭ ‬على‭ ‬النظرية،‭ ‬وآية‭ ‬الله‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الشيرازي‭ (‬مؤسس‭ ‬جماعة‭ ‬أو‭ ‬فرقة‭ ‬الشيرازية‭) ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬بنظرية‭ ‬“شورى‭ ‬الفقهاء”‭ ‬ففرضت‭ ‬عليه‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للشيعة‭ ‬العرب،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مقبولة‭ ‬لدى‭ ‬نخبهم‭ ‬الدينية،‭ ‬وإن‭ ‬غالبية‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬وغالبية‭ ‬كبار‭ ‬علمائهم‭ ‬وفقهائهم‭ ‬ومراجعهم‭ ‬لا‭ ‬يتقبلونها،‭ ‬ولم‭ ‬تستجب‭ ‬مرجعية‭ ‬النجف‭ ‬لفكرة‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬كنظام‭ ‬للحكم‭ ‬عندما‭ ‬أطلقها‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬وسبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ومن‭ ‬النجف‭ ‬عارضها‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬المرجع‭ ‬الديني‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬أبوالقاسم‭ ‬الخوئي‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬“الانتظار”‭ ‬وعزل‭ ‬السياسة‭ ‬المباشرة‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬وبعد‭ ‬الخوئي‭ ‬استمرت‭ ‬مرجعية‭ ‬النجف‭ ‬في‭ ‬رفضها‭ ‬لهذه‭ ‬النظرية‭ ‬مع‭ ‬تعاقب‭ ‬المراجع،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالمرجع‭ ‬محسن‭ ‬الحكيم‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬المرجع‭ ‬الحالي‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬علي‭ ‬السيستاني‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬مرجعية‭ ‬النجف‭ ‬وعلماء‭ ‬العراق‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي‭ ‬الذين‭ ‬عارضوا‭ ‬واعترضوا‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬المرجع‭ ‬الشيعي‭ ‬اللبناني‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬فضل‭ ‬الله،‭ ‬والعلامة‭ ‬اللبناني‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬“ولاية‭ ‬الأمة‭ ‬على‭ ‬نفسها”،‭ ‬والسيد‭ ‬موسى‭ ‬الصدر‭ ‬وغيرهم‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬نظرية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬جيوب‭ ‬صغيرة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواضع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬محيط‭ ‬المجتمع‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي‭ ‬بقدر‭ ‬محسوس‭ ‬ملموس،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬هوية‭ ‬مرجعية‭ ‬النجف‭ ‬أو‭ ‬تخترق‭ ‬جدرانها،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬مسارًا‭ ‬فقهيًا‭ ‬في‭ ‬حوزتها‭ ‬العلمية،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬المزاج‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬تتناغم‭ ‬معه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬لمس‭ ‬وشَمَّ‭ ‬فيها‭ ‬رائحة‭ ‬أو‭ ‬نَفَسا‭ ‬إمبراطوريا‭ ‬رومانيا‭ ‬أو‭ ‬فارسيا‭ ‬كان‭ ‬يسبغ‭ ‬على‭ ‬الملوك‭ ‬أو‭ ‬الحكام‭ ‬صفات‭ ‬إلهية‭ ‬مقدسة،‭ ‬بينما‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬عمق‭ ‬الموروث‭ ‬العربي‭ ‬يستمد‭ ‬جذوره‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬العائلي‭ ‬أو‭ ‬القبلي‭.‬

وقد‭ ‬يكون‭ ‬الوعي‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬أدرك‭ ‬خطورة‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬وإمكان‭ ‬استخدامها‭ ‬كأداة‭ ‬أو‭ ‬خطوة‭ ‬لسحب‭ ‬بساط‭ ‬المرجعية‭ ‬الشيعية‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬النجف‭ ‬إلى‭ ‬قم،‭ ‬أو‭ ‬لزعزعة‭ ‬وخلخلة‭ ‬اندماج‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬العربية‭ ‬وولائهم‭ ‬لأوطانهم،‭ ‬أو‭ ‬لتعطيل‭ ‬جهود‭ ‬التحول‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية‭ ‬للتناقض‭ ‬الواضح‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬أو‭ ‬لإجهاض‭ ‬محاولات‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬ومفاهيم‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭.‬

وسأختم‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬عند‭ ‬اتصال‭ ‬تلقيته‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬القراء‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬“أرجوكم‭ ‬وأنصحكم‭ ‬عندما‭ ‬تتحدثون‭ ‬عن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬أن‭ ‬توضحوا‭ ‬أنكم‭ ‬لا‭ ‬تعنون‭ ‬الشعب‭ ‬الإيراني‭ ‬الصديق،‭ ‬فهذا‭ ‬الشعب‭ ‬يئن‭ ‬الآن‭ ‬بكل‭ ‬حرقة‭ ‬وألم،‭ ‬وهو‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬والاستبداد‭ ‬والفقر‭ ‬والبطالة،‭ ‬ويرى‭ ‬خيراته‭ ‬وثرواته‭ ‬تبدد‭ ‬وتنفق‭ ‬في‭ ‬مغامرات‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬منها،‭ ‬والشعب‭ ‬الإيراني‭ ‬شعب‭ ‬يتمتع‭ ‬بحضارة‭ ‬ضاربة‭ ‬في‭ ‬الأعماق‭ ‬سبقت‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بقرون‭ ‬عدة‭ ‬ولهم‭ ‬ثقافتهم‭ ‬المتميزة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نحترمها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننكر‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يربط‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬بأوطانهم‭ ‬ومجتمعاتهم‭ ‬أصلب‭ ‬وأقوى‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يربطهم‭ ‬بجيرانهم‭ ‬الإيرانيين،‭ ‬فالتآلف‭ ‬والتآخي،‭ ‬والترابط‭ ‬اللغوي،‭ ‬والوشائج‭ ‬القومية‭ ‬والوطنية،‭ ‬والسمات‭ ‬الحضارية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬بأوطانهم‭ ‬ومجتمعاتهم‭ ‬العربية‭ ‬غير‭ ‬متوافرة‭ ‬أو‭ ‬متاحة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬علاقاتهم‭ ‬مع‭ ‬جيرانهم‭ ‬الإيرانيين‭ ‬الأعزاء‭ ‬دون‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الأواصر‭ ‬الدينية‭ ‬والمذهبية‭ ‬وصِلات‭ ‬الجوار،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬غير‭ ‬واردة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬علاقتهم‭ ‬بالشيعة‭ ‬الباكستانيين‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭.‬