وَخْـزَةُ حُب

دبلوماسية المُجامَلة!

| د. زهرة حرم

يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬المجاملة‭ ‬نفاق‭ ‬ظاهر،‭ ‬وإسفاف‭ ‬في‭ ‬القول،‭ ‬وتملق،‭ ‬وضعف‭ ‬في‭ ‬الشخصية،‭ ‬وأنها‭ ‬كذب‭ ‬صراح‭ (‬خالص‭)‬،‭ ‬وضحك‭ ‬على‭ ‬ذقون‭ ‬الآخرين،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يلجأ‭ ‬إليها‭ ‬إلا‭ ‬صاحبُ‭ ‬مصلحة‭ ‬ما،‭ ‬ولذلك‭ ‬يتشدقون‭ ‬بما‭ ‬يصفونه‭ ‬الصراحة،‭ ‬والصدق؛‭ ‬فتراهم‭ ‬يعبرون‭ ‬عن‭ ‬آرائهم‭ ‬تجاه‭ ‬الآخرين‭ ‬بنبرة‭ ‬صوتية‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬والعنف‭ ‬اللفظي،‭ ‬صراحتهم‭ ‬هذه‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الانتقاد‭ ‬السلبي،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬إيجابيًا؛‭ ‬فنادرًا‭ ‬ما‭ ‬تسمع‭ ‬له‭ ‬مديحًا‭ ‬أو‭ ‬ثناء؛‭ ‬إذ‭ ‬تنعقد‭ ‬ألستنهم‭ ‬ويصيبهم‭ ‬الخرس‭!‬

غير‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬المجاملة‭ ‬فنًا‭ ‬لا‭ ‬يُجيده‭ ‬الجميع،‭ ‬ولا‭ ‬يتأتى‭ ‬للكل؛‭ ‬وأنه‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬دائرتي‭ (‬الذكاء‭ ‬العاطفي‭ ‬والاجتماعي‭)‬،‭ ‬وينم‭ ‬عن‭ ‬حُسن‭ ‬تصرف،‭ ‬وتقدير‭ ‬للمواقف‭ ‬والأشخاص،‭ ‬كما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬مرنة،‭ ‬متفاعلة،‭ ‬مُحبة،‭ ‬وودودة‭! ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالمديح‭ ‬الكاذب،‭ ‬بل‭ ‬العكس؛‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تنعت‭ ‬الآخر‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬فيه،‭ ‬وإلا‭ ‬دخلت‭ ‬–‭ ‬بالتأكيد‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬حيز‭ ‬الكذب؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للمجامِل‭ ‬الذكي‭ ‬اللبق‭ ‬أن‭ ‬ينثر‭ ‬كلامه‭ ‬على‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يجامله؛‭ ‬هكذا،‭ ‬وكيفما‭ ‬اتفق‭! ‬كأننا‭ ‬نفترض‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المنعوت‭ ‬ساذج‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬نفسه؛‭ ‬فجاء‭ ‬هذا‭ ‬المجامِل‭ ‬ليُعرِّفه‭ ‬بها‭!‬

بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬تختلف‭ ‬المجاملة‭ ‬عن‭ ‬الكذب،‭ ‬وتخرج‭ ‬من‭ ‬أفقه‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقابله‭ ‬وهو‭ ‬الصدق؛‭ ‬لتكون‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬وواقع،‭ ‬لا‭ ‬عن‭ ‬وهم‭ ‬وتضليل‭! ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تكون‭ ‬حقيقة‭ (‬مُجمّلة‭)‬؛‭ ‬حيث‭ ‬يعمد‭ ‬المجامِل‭ ‬إلى‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬صفة‭ ‬لدى‭ ‬المجامَل،‭ ‬ويلفت‭ ‬إليها،‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى؛‭ ‬فينال‭ ‬بذلك‭ ‬استحسانه،‭ ‬أو‭ ‬محبته‭ ‬وتقديره‭! ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬عليه‭ ‬الكثيرون‭! ‬إذْ‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬اقتناص‭ ‬الموقف‭ ‬واللحظة‭ ‬أو‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب،‭ ‬والمكان،‭ ‬والحالة‭ ‬المزاجية‭ ‬للآخر‭ ‬وطبيعة‭ ‬شخصيته،‭ ‬دون‭ ‬مبالغة‭ ‬أو‭ ‬تفخيم‭ ‬زائدين‭! ‬فالمجاملة‭ ‬ليست‭ ‬كلاما‭ ‬مُشاعًا،‭ ‬أو‭ ‬سهلا‭ ‬كما‭ ‬يُظن؛‭ ‬إنها‭ ‬فنيّة‭ ‬امتلاك‭ ‬الحس‭ ‬والذوق‭ ‬الرفيع‭!‬

قد‭ ‬تكون‭ ‬النظرة‭ ‬مجاملة،‭ ‬الابتسامة‭ ‬مجاملة،‭ ‬التعبير‭ ‬السلوكي‭ ‬الذي‭ ‬يخدم‭ ‬الآخر‭ ‬دون‭ ‬طلب؛‭ ‬مجاملة،‭ ‬المبادرة‭ ‬اللطيفة‭ ‬مجاملة،‭ ‬والكثير‭ ‬مما‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬حيز‭ ‬الكلام‭ ‬إلى‭ ‬الأفعال‭ ‬مجاملة،‭ ‬فما‭ ‬أحوجنا‭ ‬اليوم‭ ‬إليها،‭ ‬وما‭ ‬أحوج‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المجاملات‭ ‬فقد‭ ‬تُوقف‭ ‬صراعات،‭ ‬وتذلل‭ ‬تحديات‭. ‬إنها‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تُسمى‭ ‬دبلوماسية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الرسمي،‭ ‬وهي‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬اتجه‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬تدريسها؛‭ ‬كعلم‭ ‬وفن‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬العلاقات‭.‬

قد‭ ‬يسأل‭ ‬أحدنا‭: ‬ماذا‭ ‬سيحصل‭ ‬إنْ‭ ‬لم‭ ‬نُجامل؟‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬إبقاء‭ ‬الحال‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭! ‬فهل‭ ‬سنبقيه‭ ‬جامدا،‭ ‬أم‭ ‬سنسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحريكه؟‭! ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يحتاج‭ (‬مفهوم‭ ‬المجاملة‭) ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬فيه؛‭ ‬بوصفه‭ ‬عامل‭ ‬تغيير‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬وبوصفه‭ ‬أرقى‭ ‬وأسهل‭ ‬دبلوماسية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬وتنتهي‭ ‬عند‭ ‬الدول،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬مجانيّة‭.‬