قهوة الصباح

ظاهرة “الباستيلية” والإمعان في تجريح الباحثين عن الخبز

| سيد ضياء الموسوي

الحياة‭ ‬غير‭ ‬دائمة‭ ‬مهما‭ ‬تزينت‭ ‬وتوشحت‭ ‬بثوب‭ ‬جميل،‭ ‬ففي‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬اللحظات‭ ‬يتهاوى‭ ‬كل‭ ‬شي،‭ ‬وتجد‭ ‬ذاتك‭ ‬في‭ ‬العراء،‭ ‬لا‭ ‬تحميك‭ ‬نرجسيتك‭ ‬المنتفخة،‭ ‬حتى‭ ‬الـ‭ ‬“أنا”‭ ‬الداخلية‭ ‬تبدو‭ ‬ميتة‭ ‬سريريًا،‭ ‬مالُك‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬جلاد‭ ‬يضربك‭ ‬بسوط‭ ‬الندم،‭ ‬منصبك‭ ‬المغري‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يقودك‭ ‬إلى‭ ‬الرقص‭ ‬على‭ ‬جراح‭ ‬الآخر‭ ‬والإمعان‭ ‬في‭ ‬غرز‭ ‬المخرز‭ ‬بأوجاع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يختلف‭ ‬معك‭ ‬يذوب‭ ‬وينتهي‭ ‬بلحظة‭ ‬مكر‭ ‬تاريخي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬تعبيرهيجل،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬الاكتئاب‭ ‬يفتك‭ ‬بك‭ ‬من‭ ‬الداخل‭. ‬جبران‭ ‬باسيل،‭ ‬الوزير‭ ‬اللبناني‭ ‬الحالي‭ ‬وصاحب‭ ‬أكبر‭ ‬فقاعات‭ ‬إعلامية‭ ‬مذببة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬لبنان،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يفوت‭ ‬تجريحًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬أو‭ ‬كبيرًا‭ ‬إلا‭ ‬أقدم‭ ‬عليه‭ ‬لاستفزاز‭ ‬اللبنانيين‭ ‬وحتى‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭. ‬كان‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬وسادة‭ ‬تحالف‭ ‬عمه‭ ‬الرئيس‭ ‬اللبناني‭ ‬مشيل‭ ‬عون‭ ‬مع‭ ‬حزب‭ ‬الله‭. ‬هذا‭ ‬الاستقواء‭ ‬يعكس‭ ‬اهتزازا‭ ‬في‭ ‬الثقافة،‭ ‬وضعفا‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ،‭ ‬وغياب‭ ‬الحذر‭ ‬من‭ ‬انقلاب‭ ‬الزمن‭ ‬وغدر‭ ‬بحر‭ ‬المناصب‭ ‬الذي‭ ‬يفهمه‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬التاريخ‭ ‬بعين‭ ‬الناقد‭ ‬لا‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬سُكر‭ ‬اللحظة‭. ‬هذا‭ ‬الجنوح‭ ‬المتعالي‭ ‬في‭ ‬أذية‭ ‬مشاعر‭ ‬اللبنانيين‭ ‬وثورتهم‭ ‬يخفي‭ ‬خلفه‭ (‬أنا‭) ‬متشظية‭ ‬وشتات‭ ‬مراحلي‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬وضمور‭ ‬لاسم‭ ‬مهمل‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬كثافة‭ ‬ضوء‭ ‬لسنوات‭ ‬طوال‭ ‬من‭ ‬عزلة‭ ‬الاسم‭ ‬لعدم‭ ‬خصوبة‭ ‬لحظة‭ ‬الظهور،‭ ‬وتكلس‭ ‬في‭ ‬مناقب‭ ‬معزولة‭ ‬تحيا‭ ‬عند‭ ‬سادية‭ ‬الكلمات،‭ ‬تتخفى‭ ‬بالأذى‭ ‬والعنف‭ ‬اللفظي‭. ‬

“الباسيلية”‭ ‬ظاهرة‭ ‬ليست‭ ‬بالجديدة،‭ ‬فهي‭ ‬حالة‭ ‬تعتاش‭ ‬في‭ ‬المناخات‭ ‬التي‭ ‬تنمو‭ ‬فيها‭ ‬الطائفية،‭ ‬والعنصرية‭ ‬،‭ ‬واختلال‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭ ‬أو‭ ‬استقواء‭ ‬السلاح‭ ‬على‭ ‬حمامة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬لبنان،‭ ‬وتكثر‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬الاحتضان‭ ‬غير‭ ‬السوية‭ ‬وغياب‭ ‬هيبة‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬انتفاخ‭ ‬عنصريتها‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬بعض‭ ‬بلدان‭ ‬أوروبا‭ ‬اللاتينية‭ ‬وبعض‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭. ‬سيكولوجيًا،‭ ‬كثافة‭ ‬الشتم‭ ‬لمن‭ ‬يمتلك‭ ‬القرار‭ ‬تعكس‭ ‬كثافة‭ ‬المرض،‭ ‬وتنذر‭ ‬بوجع‭ ‬متهيج،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬التفاف‭ ‬داخلي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬المريض‭ ‬للتحايل‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬مهملة‭ ‬أو‭ (‬أنا‭) ‬تم‭ ‬شتمها‭ ‬ولو‭ ‬بالتهميش‭ ‬أو‭ ‬متقرحة‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭ ‬مؤلمة‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬اهتزاز‭ ‬لاعمدة‭ ‬القيم،‭ ‬وتعملق‭ ‬قيم‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تنمو‭ ‬مع‭ ‬مغريات‭ ‬وهج‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تغذي‭ ‬اللحظة‭ ‬على‭ ‬التفاف‭ ‬المستقبل‭ ‬أو‭ ‬تعظم‭ ‬المادية‭ ‬على‭ ‬الماورائيات،‭ ‬وتعملق‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬الغيبيات،‭ ‬فيضعف‭ ‬قداس‭ ‬الإله،‭ ‬ويقوى‭ ‬ضغينة‭ ‬الآدمية‭. ‬ذاك‭ ‬ما‭ ‬حذر‭ ‬منه‭ ‬فاديم‭ ‬زيلاند،‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الروسي‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬فائض‭ ‬احتمالات،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تعذب‭ ‬ذات‭ ‬المعذِب‭. ‬الشخصية‭ ‬الشتامة‭ ‬بأي‭ ‬موقع‭ ‬ولو‭ ‬شتما‭ ‬عمليًا‭ ‬لا‭ ‬لفظيا‭ ‬بسلوك‭ ‬إداري‭ ‬تهميشي‭ ‬أو‭ ‬بتجريح‭ ‬لفظي‭ ‬تعكس‭ ‬عدم‭ ‬ثقة‭ ‬بالذات،‭ ‬ونقصا‭ ‬داخليا‭. ‬المتطرف‭ ‬في‭ ‬أذية‭ ‬الناس‭ ‬تارة‭ ‬يكون‭ ‬جلاد‭ ‬سجن‭ ‬وأحيانا‭ ‬شرطي‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬كاتبًا‭ ‬أو‭ ‬محللا‭ ‬سياسيا‭ ‬أو‭ ‬وزيرا‭. ‬

الشخصية‭ ‬المتطرفة‭ ‬في‭ ‬العدائية‭ ‬غير‭ ‬سوية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬والعقلية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وكلما‭ ‬وجدت‭ ‬تطرفا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬موقع‭ ‬وأي‭ ‬وظيفة‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬وراءها‭ ‬إنسانا‭ ‬يعاني‭ ‬عطبا‭ ‬نفسيا،‭ ‬واختلالا‭ ‬عقليا‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬جمال‭ ‬المنظر‭ ‬والسكون‭ ‬المكثث‭ ‬بمكياج‭ ‬الاطمئنان‭ ‬الظاهر‭ ‬على‭ ‬الصورة،‭ ‬أو‭ ‬تنوع‭ ‬الابتسامات‭ ‬في‭ ‬اللقاءات‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬فاكثر‭ ‬المبتسمين‭ ‬على‭ ‬الشاشات‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬داخلي‭ ‬يتم‭ ‬التعويض‭ ‬أو‭ ‬التحايل‭ ‬عليه‭ ‬بالمظاهر‭ ‬الخارجية‭ ‬الممكيجة‭. ‬يفتقد‭ ‬باسيل‭ ‬حتى‭ ‬اللغة‭ ‬البرغماتية‭ ‬والدوبلوماسية،‭ ‬فوزير‭ ‬يعاني‭ ‬بلاده‭ ‬من‭ ‬اقتصاد‭ ‬هش‭ ‬مثقل‭ ‬بديون‭ ‬تفوق‭ ‬الـ‭ ‬85‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬باستفزاز‭ ‬دول‭ ‬كالخليج‭ ‬سياسيا،‭ ‬وهو‭ ‬المحتاج‭ ‬لها‭. ‬إن‭ ‬الدلال‭ ‬السياسي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬القلعة‭ ‬لذلك‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الشروخ‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬القلعة‭ (‬العونية‭) ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬جاءت‭ ‬نتيجة‭ ‬للدلال‭ ‬السياسي‭ ‬والمناصبي‭ ‬المورث‭ ‬الذي‭ ‬أعطاه‭ ‬عون‭ ‬لباسيل،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬“ما‭ ‬هو‭ ‬أغلى‭ ‬من‭ ‬الولد‭ ‬ولد‭ ‬الولد”،‭ ‬فإن‭ ‬الرئيس‭ ‬المتكئ‭ ‬على‭ ‬الحليف‭ ‬الأوحد،‭ ‬قلب‭ ‬المعادلة‭ ‬ليصبح‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أعز‭ ‬من‭ ‬الولد‭ ‬والوطن‭ ‬زوج‭ ‬البنت‭.‬

ولأن‭ ‬اللبنانيين‭ ‬ليسوا‭ ‬من‭ ‬المغرمين‭ ‬بخزعبلات‭ ‬الأيديولوجيين،‭ ‬ويعشقون‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التفرد‭ ‬بحصارهم‭ ‬في‭ ‬زنزانات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬فالكائن‭ ‬اللبناني‭ ‬معروف‭ ‬بنزعة‭ ‬التمرد،‭ ‬وحب‭ ‬الحياة‭ ‬وأكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يرفض‭ ‬الحرية‭ ‬ويقبل‭ ‬بتحسين‭ ‬شروط‭ ‬العبودية‭. ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬سقوط‭ ‬الشعار‭ ‬الديماغوجي‭ ‬وانكشاف‭ ‬الخطاب‭ ‬الانتقائي‭ ‬هي‭ ‬الدعوات‭ ‬الانتقائية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬من‭ ‬دعوات‭ ‬إيران‭ ‬للعراق‭ ‬ولبنان‭ ‬بالامتناع‭ ‬عن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬إسقاط‭ ‬الدولة‭ ‬والالتجاء‭ ‬إلى‭ ‬الاحتجاج‭ ‬عبر‭ ‬القنوات‭ ‬الدستورية‭ ‬والقانونية‭. ‬فجأة‭ ‬تحولت‭ ‬إيران‭ ‬والمعروفة‭ ‬بدعواتها‭ ‬للانقلاب‭ ‬والثورة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الدول،‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الشعار‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬كالعراق‭ ‬ولبنان،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬تحت‭ ‬نفوذها‭ ‬تدعو‭ ‬المتظاهرين‭ ‬إلى‭ ‬الحنان‭ ‬مع‭ ‬دولهم‭ ‬والرجوع‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬القنوات‭ ‬الدستورية،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬هي‭ ‬لعبة‭ ‬الأغنياء‭ ‬لموت‭ ‬الفقراء،‭ ‬تُستبدل‭ ‬الجلود‭ ‬والمسالخ‭ ‬والمصالح،‭ ‬ويبقى‭ ‬دم‭ ‬الفقير‭ ‬واحدًا‭.‬

‭ ‬أقول‭: (‬الباستيلية‭) ‬ظاهرة‭ ‬تاريخية‭ ‬تتكرر‭ ‬كثيرا،‭ ‬لكنها‭ ‬تنتهي‭ ‬سريعا؛‭ ‬لأنها‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬توازن‭ ‬لحظي‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬دمع‭ ‬الشعب‭ ‬أو‭ ‬حزن‭ ‬المهمشين‭ ‬كلبنان‭ ‬مثالًا،‭ ‬أكثر‭ ‬توازنا‭ ‬مع‭ ‬الكون‭ ‬والإله‭ ‬ليبقى‭ ‬الأخير‭ ‬وتتلاشى‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬غياهب‭ ‬النسيان‭ ‬والعدمية،‭ ‬فمحدودية‭ (‬الأنا‭) ‬تنهار‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬اختبار‭ ‬أمام‭ ‬أبدية‭ ‬توازن‭ ‬الكون‭ ‬وسرمديته‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬ثابت‭ ‬إلا‭ ‬المتحول‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والسياسة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والإعلام‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬الحب‭. ‬ستنتهي‭ (‬الباستيلية‭)‬،‭ ‬وسينعم‭ ‬لبنان‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬بالحرية‭.‬