الشيعة العرب والنظام الحاكم في إيران

| عبدالنبي الشعلة

لاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬الشيعة‭ ‬قد‭ ‬تعزز‭ ‬إدراكهم‭ ‬الآن‭ ‬وترسخت‭ ‬قناعتهم‭ ‬بأن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬ليس‭ ‬مؤهلًا‭ ‬أو‭ ‬مخولًا‭ ‬أو‭ ‬قادرًا‭ ‬أو‭ ‬راغبًا‭ ‬في‭ ‬حمايتهم‭ ‬والدفاع‭ ‬عنهم‭ ‬أو‭ ‬جادًا‭ ‬في‭ ‬إدعائه‭ ‬بذلك،‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬افترضنا‭ ‬جزافًا‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬أو‭ ‬دفاع‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تدخلت‭ ‬فيها‭ ‬إيران‭ ‬بحجة‭ ‬نصرة‭ ‬وحماية‭ ‬الشيعة‭ ‬فيها‭ ‬أصبح‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشيعة‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬أمرّ‭ ‬وأصعب‭ ‬الظروف،‭ ‬ويكفينا‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬كمثال‭ ‬واحد‭ ‬فقط،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬الأحوال‭ ‬المتردية‭ ‬للملايين‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬الشيعة‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬كمواطنين‭ ‬إيرانيين‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الجمهورية‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتحت‭ ‬رعايتها‭.‬

وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬ادعاء‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬بالقدسية‭ ‬الدينية،‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬حسن‭ ‬نواياه‭ ‬أو‭ ‬سوئها،‭ ‬فإن‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬يبقى،‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال،‭ ‬نظاما‭ ‬سياسيا‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬مصالحه‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬وفوق‭ ‬أي‭ ‬اعتبار،‭ ‬ومن‭ ‬يعتقد‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنه‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬نفسه،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬فإن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬لن‭ ‬يكترث‭ ‬أو‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬وعاء‭ ‬خططه‭ ‬ومشاريعه‭ ‬ومصالحه‭ ‬وأهدافه‭ ‬الوطنية‭ ‬المشروعة‭ ‬منها‭ ‬وغير‭ ‬المشروعة،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬أي‭ ‬اهتمام‭ ‬منه‭ ‬بشيعة‭ ‬أذربيجان،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬الذين‭ ‬تتجاوز‭ ‬نسبتهم‭ ‬70‭ % ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬أو‭ ‬بشيعة‭ ‬الباكستان‭ ‬أو‭ ‬غيرهم‭ ‬مقارنة‭ ‬بانشغاله‭ ‬واهتمامه‭ ‬المنصب‭ ‬على‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬وحمل‭ ‬ألوية‭ ‬وعناوين‭ ‬حمايتهم‭ ‬والدفاع‭ ‬عنهم‭ ‬دون‭ ‬تفويض‭ ‬أو‭ ‬دعوة‭ ‬منهم‭ ‬إليه‭ ‬للقيام‭ ‬بهذا‭ ‬الدور؛‭ ‬وذلك‭ ‬لغرض‭ ‬واضح‭ ‬وهو‭ ‬محاولة‭ ‬استقطابهم‭ ‬واستدراجهم‭ ‬واستخدامهم‭ ‬كأدوات‭ ‬وأذرع‭ ‬له‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافه‭ ‬ومآربه‭ ‬التوسعية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يخفيها‭ ‬ولا‭ ‬ينكرها،‭ ‬والتي‭ ‬تضع‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية،‭ ‬بحسب‭ ‬مفرداته،‭ ‬ضمن‭ ‬دائرة‭ ‬“مناطق‭ ‬نفوذه”،‭ ‬وهو‭ ‬يكرر‭ ‬ذلك‭ ‬بكل‭ ‬صراحة‭ ‬ووضوح،‭ ‬مستخدمًا‭ ‬مزاعم‭ ‬وشعارات‭ ‬براقة‭ ‬مثل‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وتحرير‭ ‬القدس،‭ ‬ونصرة‭ ‬المستضعفين‭ ‬والمظلومين،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأراجيز،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬“سواد‭ ‬عيون‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب”‭ ‬ليس‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أحد‭ ‬أهداف‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭.‬

اسمعوا‭ ‬ماذا‭ ‬يقول‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬أعمدة‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬فيها،‭ ‬وهو‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬أحمد‭ ‬علم‭ ‬الهدى‭ ‬إمام‭ ‬جامع‭ ‬مدينة‭ ‬مشهد‭ ‬المقدسة‭ ‬وعضو‭ ‬مجلس‭ ‬خبراء‭ ‬القيادة،‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬الهيئة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني،‭ ‬والذي‭ ‬عهد‭ ‬إليه‭ ‬الدستور‭ ‬مهمة‭ ‬تعيين‭ ‬وعزل‭ ‬قائد‭ ‬الثورة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬مؤخرًا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬خطبه‭ ‬المسجلة‭ ‬بالصوت‭ ‬والصورة‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬“إيران‭ ‬اليوم‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬إيران،‭ ‬ليست‭ ‬محدودة‭ ‬بالحدود‭ ‬الجغرافية،‭ ‬اليوم‭ ‬الحشد‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬هو‭ ‬إيران،‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬هو‭ ‬إيران،‭ ‬أنصار‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬هم‭ ‬إيران،‭ ‬الجبهة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬هي‭ ‬إيران،‭ ‬الجهاد‭ ‬الإسلامي‭ ‬وحماس‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬هما‭ ‬إيران،‭ ‬جميعهم‭ ‬باتوا‭ ‬إيران،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬إيران‭ ‬فقط‭ ‬نحن،‭ ‬سيد‭ ‬المقاومة‭ (‬نصر‭ ‬الله‭) ‬أعلن‭ ‬أن‭ ‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لها‭ ‬إمام‭ ‬واحد‭ ‬وهذا‭ ‬الإمام‭ ‬هو‭ ‬المرشد‭ ‬الأعلى‭ ‬للثورة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬هل‭ ‬تريدون‭ ‬أن‭ ‬تعرفوا‭ ‬أين‭ ‬هي؟‭ ‬أليس‭ ‬جنوب‭ ‬لبنان‭ ‬هو‭ ‬إيران؟‭ ‬أليس‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬هو‭ ‬إيران؟‭ ‬طائرات‭ ‬الدرون‭ ‬اليمنية‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬بأضرار‭ ‬كهذه‭ ‬للسعودية‭ ‬أليست‭ ‬إيران‭ ‬هناك؟‭ ‬تقولون‭ ‬إن‭ ‬طائرات‭ ‬الدرون‭ ‬أتت‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الجنوب،‭ ‬شمال‭ ‬أو‭ ‬جنوب‭ ‬ما‭ ‬الفرق؟‭ ‬إيران‭ ‬هي‭ ‬الاثنان،‭ ‬شمالكم‭ ‬وجنوبكم”‭.‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬لن‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬عن‭ ‬استخدامهم‭ ‬كورقة‭ ‬للمزايدة‭ ‬والمقايضة،‭ ‬ولن‭ ‬يتردد‭ ‬عن‭ ‬التخلي‭ ‬عنهم‭ ‬عندما‭ ‬تقتضي‭ ‬مصلحته‭ ‬ذلك،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬ترامب‭ ‬مؤخرًا‭ ‬مع‭ ‬أكراد‭ ‬سوريا‭.‬

والشيعة‭ ‬العرب،‭ ‬ولاشك،‭ ‬يدركون‭ ‬أيضًا‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تضارب‭ ‬أي‭ ‬قضية‭ ‬خاصة‭ ‬بهم‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬مصالح‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬ومشاريعه،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬على‭ ‬أتم‭ ‬الاستعداد‭ ‬للانقلاب‭ ‬عليهم‭ ‬والتضحية‭ ‬بهم‭ ‬وبقضيتهم،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬وبديهي‭ ‬ومتوقع‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬بالفعل‭ ‬مؤخرًا‭ ‬عندما‭ ‬تنكر‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬ولم‭ ‬ينتصر‭ ‬لحقوق‭ ‬الشيعة‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬ولبنان‭ ‬ومطالبتهم‭ ‬السلمية‭ ‬بالعدالة‭ ‬والحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬والتصدي‭ ‬لمشكلة‭ ‬الفقر‭ ‬والبطالة‭ ‬المتفاقمة‭ ‬ومحاربة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والفساد،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬اصطف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة‭ ‬الفاسدة‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬وبيروت‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬المتظاهرين‭ ‬من‭ ‬الشيعة‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬والمدن‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬والبصرة‭ ‬وكربلاء‭ ‬المقدسة‭ ‬وقَمْعهم‭ ‬والبطش‭ ‬بهم‭ ‬والتعامل‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬خصوصًا‭ ‬بلغة‭ ‬الرصاص‭ ‬الحي‭ ‬والغاز‭ ‬المسيل‭ ‬للدموع‭ ‬وخراطيم‭ ‬المياه‭ ‬الحارة‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬إزهاق‭ ‬أرواح‭ ‬المئات‭ ‬وجرح‭ ‬الآلاف‭ ‬منهم،‭ ‬عند‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬كلهم‭ ‬أو‭ ‬غالبيتهم‭ ‬العظمى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬العراقيين‭ ‬العرب‭ ‬الشيعة‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬يتبناها‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬ليست‭ ‬وليدة‭ ‬الساعة،‭ ‬فقد‭ ‬اتضحت‭ ‬معالمها‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اشتعلت‭ ‬فيها‭ ‬شرارة‭ ‬ثورة‭ ‬الخميني‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬خرداد‭ ( ‬5‭ ‬يونيو‭ ‬1963‭) ‬وتجلت‭ ‬وتألقت‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬فور‭ ‬نجاح‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1979‭ ‬عندما‭ ‬تبنى‭ ‬قادة‭ ‬الثورة‭ ‬فيها‭ ‬وبشكل‭ ‬واضح‭ ‬وصريح‭ ‬إستراتيجية‭ ‬“تصدير‭ ‬الثورة”،‭ ‬وهي‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬لينين‭ ‬لتصدير‭ ‬الشيوعية‭ ‬إلى‭ ‬مختلف‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬ومعها‭ ‬النفوذ‭ ‬والهيمنة‭ ‬السوفيتية‭ ‬ضمن‭ ‬شعارات‭ ‬“يا‭ ‬عمال‭ ‬العالم‭ ‬اتحدوا”‭ ‬و”ليس‭ ‬للعمال‭ ‬وطن”‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬“العبرة‭ ‬في‭ ‬النهاية”‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬شكسبير،‭ ‬فإن‭ ‬الشيوعية‭ ‬انهارت‭ ‬بكل‭ ‬شعاراتها‭ ‬وبيارقها‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬70‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬انتصارها‭ ‬فقط‭.‬

إن‭ ‬كل‭ ‬الذين‭ ‬يطمحون‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬إستراتيجياتهم‭ ‬هم‭ ‬يسعون‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬بسط‭ ‬نفوذهم‭ ‬وهيمنتهم‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬المستهدفة،‭ ‬لقد‭ ‬أدرك‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬ومنذ‭ ‬البداية‭ ‬الإمام‭ ‬موسى‭ ‬الصدر‭ ‬رئيس‭ ‬المجلس‭ ‬الإسلامي‭ ‬الشيعي‭ ‬الأعلى‭ ‬بلبنان‭ ‬ورئيس‭ ‬حركة‭ ‬أمل‭.‬

ومنذ‭ ‬البداية‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬تعارض‭ ‬واسع‭ ‬بين‭ ‬فكر‭ ‬الإمام‭ ‬موسى‭ ‬الصدر‭ ‬وفكر‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني،‭ ‬فمرجعيات‭ ‬الصدر‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬مرجعيات‭ ‬الخميني،‭ ‬وقد‭ ‬حافظ‭ ‬الصدر‭ ‬على‭ ‬تقليده‭ ‬للسيد‭ ‬محسن‭ ‬الحكيم‭ ‬وبعده‭ ‬الإمام‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬الخوئي،‭ ‬رافضا‭ ‬مرجعية‭ ‬الخميني،‭ ‬والسيد‭ ‬الصدر‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بنظرية‭ ‬“ولاية‭ ‬الفقيه”،‭ ‬وأعطى‭ ‬أولوية‭ ‬للخصوصية‭ ‬وللانتماء‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬فكر‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬بضرورة‭ ‬تجاوز‭ ‬الهويات‭ ‬الوطنية‭ ‬وتفتيتها‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لاختراقها‭ ‬ولعبورها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تطبيق‭ ‬نظرية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬وإستراتجية‭ ‬تصدير‭ ‬الثورة،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬الإمام‭ ‬موسى‭ ‬الصدر‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬أتباع‭ ‬“خط‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني”‭ ‬مؤمنًا‭ ‬ومقتنعًا‭ ‬بأن‭ ‬مصلحة‭ ‬شيعة‭ ‬لبنان‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬بقائهم‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الوطنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬العربية‭.‬

وقد‭ ‬سعى‭ ‬الإمام‭ ‬الصدر‭ ‬جاهدًا‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬الروح‭ ‬والفلسفة‭ ‬الوطنية‭ ‬وتفعيلها‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الشيعية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬وبرز‭ ‬للكثيرين‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وخارجها‭ ‬كبارقة‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬المسلمين‭ ‬وفي‭ ‬تعايش‭ ‬التشيع‭ ‬مع‭ ‬المعاصرة‭ ‬وتفاعله‭ ‬مع‭ ‬واقع‭ ‬الحياة،‭ ‬وبذلك‭ ‬أصبح‭ ‬عائقًا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬مشاريع‭ ‬التطرف‭ ‬والهيمنة‭ ‬وبات‭ ‬اختفاؤه‭ ‬أمرًا‭ ‬ضروريًا‭ ‬وملحًا‭.‬

وفي‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬صرح‭ ‬إلى‭ ‬وكالة‭ ‬أنباء‭ ‬“فارس”‭ ‬رجل‭ ‬الدين‭ ‬الإيراني‭ ‬المعروف‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬فارسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬مستشارًا‭ ‬للمرشد‭ ‬الإيراني‭ ‬السابق‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني‭ ‬بأن‭ ‬الإمام‭ ‬موسى‭ ‬الصدر‭ ‬كان‭ ‬“يجب‭ ‬أن‭ ‬يُقتل”‭ ‬بسبب‭ ‬تصريحات‭ ‬له‭ ‬حول‭ ‬توحد‭ ‬الأديان‭ ‬والمذاهب،‭ ‬ولأنه‭ ‬قال‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتوحد‭ ‬مع‭ ‬المسيحيين‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬الشيخ‭ ‬إلى‭ ‬الكنيسة‭ ‬والقس‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬إلى‭ ‬المسجد،‭ ‬وأضاف‭ ‬فارسي‭: ‬“صدر‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬منه‭ ‬وكان‭ ‬يستوجب‭ ‬الوقوف‭ ‬ضده”‭.‬

وقبل‭ ‬تصريح‭ ‬فارسي‭ ‬وإضافة‭ ‬إليه،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬رواية‭ ‬جديدة‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2016‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬نُشر‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬بعنوان‭:‬

The Fall of Heaven‭: ‬The Pahlavis and the Final Days of Imperial Iran”

أو‭ ‬“سقوط‭ ‬السماء‭.. ‬البهلويون‭ ‬والأيام‭ ‬الأخيرة‭ ‬للأمبراطورية”‭ ‬للكاتب‭ ‬أندرو‭ ‬سكوت‭ ‬كوبر،‭ ‬الذي‭ ‬ادعى‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬ضلوع‭ ‬رجال‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬إخفاء‭ ‬الصدر،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يرون‭ ‬فيه‭ ‬التهديد‭ ‬الأكبر‭ ‬لوصول‭ ‬الملالي‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬وتأسيس‭ ‬نظام‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬في‭ ‬إيران”،‭ ‬والعهدة‭ ‬على‭ ‬الراوي‭.‬

ليس‭ ‬ثمة‭ ‬شيء‭ ‬مستغرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬فقد‭ ‬أوردنا‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الحقائق‭ ‬اليسيرة‭ ‬والموثقة‭ ‬بإيجاز‭ ‬لنؤكد‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني،‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬تام‭ ‬لإزاحة‭ ‬أي‭ ‬فرد‭ ‬أو‭ ‬طرف‭ ‬أو‭ ‬فئة‭ ‬أو‭ ‬طائفة‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬عقبة‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬مصالحه‭ ‬وطموحاته‭ ‬وتطلعاته‭ ‬وأطماعه‭.‬

وهكذا،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1978‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬نجاح‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬وتسلمها‭ ‬زمام‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬اختفى‭ ‬الإمام‭ ‬الصدر‭ ‬خلال‭ ‬زيارة‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬ليبيا،‭ ‬وتولى‭ ‬نظام‭ ‬القذافي‭ ‬مهمة‭ ‬تصفيته‭ ‬وإخفاء‭ ‬أثره‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬والملالي‭ ‬حماة‭ ‬الشيعة‭ ‬والمدافعون‭ ‬عنهم‭ ‬لم‭ ‬يحاولوا‭ ‬إنقاذ‭ ‬الإمام‭ ‬الصدر‭ ‬وتركوه‭ ‬يلقى‭ ‬حتفه‭ ‬الأليم‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الرئيس‭ ‬القذافي‭.‬

لم‭ ‬تضغط‭ ‬حكومة‭ ‬الجمهورية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬على‭ ‬ليبيا‭ ‬لمعرفة‭ ‬مصير‭ ‬الإمام‭ ‬الصدر‭ ‬المفقود،‭ ‬ولم‭ ‬تساند‭ ‬أو‭ ‬تتعاون‭ ‬مع‭ ‬حركة‭ ‬أمل‭ ‬والحكومة‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عنه،‭ ‬فقد‭ ‬باع‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬دم‭ ‬الإمام‭ ‬الصدر‭ ‬والثمن‭ ‬كان‭ ‬دعم‭ ‬الحكومة‭ ‬الليبية‭ ‬وتمويل‭ ‬قيمة‭ ‬شراء‭ ‬الأسلحة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬حربها‭ ‬مع‭ ‬العراق‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬لثماني‭ ‬سنوات‭.‬

وبعد‭ ‬اختفاء‭ ‬الإمام‭ ‬الصدر‭ ‬ظلت‭ ‬حركة‭ ‬أمل‭ ‬وفية‭ ‬وأمينة‭ ‬ومتمسكة‭ ‬بمبادئه‭ ‬ومواقفه،‭ ‬وحريصة‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هويتها‭ ‬العربية‭ ‬واستقلالها،‭ ‬منحازة‭ ‬لوحدة‭ ‬الوطن‭ ‬وسلامته،‭ ‬رافضة‭ ‬التبعية‭ ‬وخطط‭ ‬التفتيت‭ ‬ومشروع‭ ‬“دولة‭ ‬داخل‭ ‬الدولة”‭.‬

عندها‭ ‬سارع‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬البديل،‭ ‬فكان‭ ‬تأسيس‭ ‬“حزب‭ ‬الله”‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1982،‭ ‬وتتردد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬كلمات‭ ‬أمينه‭ ‬العام‭ ‬السيد‭ ‬حسن‭ ‬نصر‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬خطبة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬مسجلة‭ ‬بالصوت‭ ‬والصورة‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬“مشروعنا‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬خيار‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتبنى‭ ‬غيره،‭ ‬كوننا‭ ‬مؤمنين‭ ‬عقائديين‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وحكم‭ ‬الإسلام،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬لبنان‭ ‬ليس‭ ‬جمهورية‭ ‬إسلامية‭ ‬واحدة،‭ ‬وإنما‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الجمهورية‭ ‬الإسلامية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬يحكمها‭ ‬صاحب‭ ‬الزمان‭ ‬ونائبه‭ ‬بالحق‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني”‭.‬

وقبل‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬قال‭ ‬السيد‭ ‬حسن‭ ‬نصر‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬خطبة‭ ‬له‭ ‬أيضًا،‭ ‬“أقول‭ ‬للعالم‭ ‬كله‭ ‬نحنا‭ ‬يا‭ ‬خيّ‭ ‬على‭ ‬راس‭ ‬السطح؛‭ ‬موازنة‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬ومعاشاته‭ ‬ومصاريفه‭ ‬وأكله‭ ‬وشربه‭ ‬وسلاحه‭ ‬وصواريخه‭ ‬من‭ ‬الجمهورية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬إيران”‭.‬

إن‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬يدركون‭ ‬كل‭ ‬الإدراك‭ ‬أيضًا‭ ‬بأنهم‭ ‬وأوطانهم‭ ‬العربية‭ ‬ليسوا‭ ‬المتضررين‭ ‬الوحيدين‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬ومغامرات‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أكبر‭ ‬المتضررين‭ ‬وأكبر‭ ‬الخاسرين‭ ‬هو‭ ‬الشعب‭ ‬الإيراني‭ ‬الجار‭ ‬العزيز،‭ ‬كان‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عونه‭.‬