التظاهرات ومعضلة التنمية في العالم العربي (2)

| سالم الكتبي

إذا‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬قمع‭ ‬شعبه‭ ‬عبر‭ ‬قبضة‭ ‬حديدية‭ ‬للحرس‭ ‬الثوري،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استنساخها‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أخرى،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬سياسات‭ ‬لا‭ ‬مستقبل‭ ‬لها‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬ذاتها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تتصور‭ ‬أن‭ ‬الملالي‭ ‬لسنوات‭ ‬مضت‭ ‬بإمكانهم‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مقدراتها‭ ‬واختطاف‭ ‬واقعها‭ ‬ومستقبلها‭.‬

التظاهرات‭ ‬الغاضبة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬ولبنان‭ ‬وغيرها‭ ‬لم‭ ‬تنتصر‭ ‬لحزب‭ ‬أو‭ ‬فريق‭ ‬سياسي‭ ‬معين‭ ‬بل‭ ‬انتصرت‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية،‭ ‬ورفعت‭ ‬علمها‭ ‬وشعارها،‭ ‬وطالبت‭ ‬بأن‭ ‬يعلو‭ ‬صوت‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عداه‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬الطائفية‭ ‬أو‭ ‬المذهبية‭ ‬أو‭ ‬المصالحية؛‭ ‬والرسالة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للتظاهرات‭ ‬والاحتجاجات‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الشكوى‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬والفساد‭ ‬والبطالة‭ ‬وتدهور‭ ‬الأحوال‭ ‬المعيشية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬بالأساس‭ ‬في‭ ‬رغبة‭ ‬ملايين‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الاحتجاج‭ ‬على‭ ‬الوجوه‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬ثبت‭ ‬فشلها‭ ‬واستعادة‭ ‬دولهم‭ ‬المختطفة‭ ‬وعودتها‭ ‬لممارسة‭ ‬دورها‭ ‬الطبيعي‭.‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرات‭ ‬ليست‭ ‬مفاجئة‭ ‬لمن‭ ‬يتابع‭ ‬أحوال‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬كثب،‭ ‬بل‭ ‬تنذر‭ ‬بها‭ ‬نتائج‭ ‬استطلاعات‭ ‬الرأي‭ ‬التي‭ ‬تجرى‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى،‭ ‬ومنها‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الذي‭ ‬أجرته‭ ‬شبكة‭ ‬“البارومتر‭ ‬العربي”‭ ‬ونشرت‭ ‬“بي‭ ‬بي‭ ‬سي”‭ ‬نتائجه‭ ‬منذ‭ ‬فترة،‭ ‬وأشارت‭ ‬نتائج‭ ‬هذا‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬25‭ ‬ألفاً‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬عشر‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬إلى‭ ‬أمور‭ ‬عدة‭ ‬أولها‭ ‬ارتفاع‭ ‬متوسط‭ ‬نسبة‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬20‭ %‬،‭ ‬والسبب‭ ‬الرئيسي‭ ‬لذلك‭ ‬هو‭ ‬الوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والفساد،‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬العينة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬محددة‭ ‬للإعراب‭ ‬عن‭ ‬رغبتهم‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭!‬

ثمة‭ ‬إشارة‭ ‬لافتة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬النسبة‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬العراقيين‭ ‬واليمنيين‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬الاستطلاع‭ ‬اعتبروا‭ ‬إيران‭ ‬التهديد‭ ‬الأكبر‭ ‬لدولهم‭ (‬31‭ %‬،‭ ‬33‭ ‬‭% ‬على‭ ‬التوالي‭) ‬وهذا‭ ‬يعكس‭ ‬مدى‭ ‬وعي‭ ‬الشعوب‭ ‬واستشعارها‭ ‬بما‭ ‬يهددها‭ ‬من‭ ‬أخطار‭ ‬ربما‭ ‬يتجاهلها‭ ‬الساسة‭ ‬لأسباب‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالوطنية‭ ‬بقدر‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالولاءات‭ ‬الطائفية‭ ‬والمصالحية‭! ‬ماذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يرغب‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭ ‬الذين‭ ‬تقل‭ ‬أعمارهم‭ ‬عن‭ ‬الثلاثين‭ ‬في‭ ‬الهجرة،‭ ‬وأن‭ ‬عدد‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬يتصاعد‭ ‬بشكل‭ ‬ملحوظ‭ ‬مقارنة‭ ‬بنتائج‭ ‬الاستطلاعات‭ ‬السابقة؟‭! ‬هل‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬لوقت‭ ‬تعبر‭ ‬فيه‭ ‬غالبية‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬عن‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬وترك‭ ‬البلاد؟‭! ‬وثمة‭ ‬مؤشر‭ ‬لافت‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬نحو‭ ‬43‭ % ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للسفر‭ ‬بدون‭ ‬أوراق‭ ‬رسمية،‭ ‬أي‭ ‬أنهم‭ ‬جاهزون‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬عمليات‭ ‬لجوء‭ ‬أو‭ ‬هجرة‭ ‬غير‭ ‬شرعية‭!‬

على‭ ‬الحكومات‭ ‬العربية‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬واقع‭ ‬الشعوب‭ ‬جيداً،‭ ‬فهناك‭ ‬متغيرات‭ ‬طارئة‭ ‬يجب‭ ‬التعامل‭ ‬معها،‭ ‬فنصف‭ ‬مستخدمي‭ ‬الإنترنت‭ ‬في‭ ‬عشر‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬يرون‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬محلاً‭ ‬للثقة،‭ ‬ويفضلونها‭ ‬كمصدر‭ ‬لأية‭ ‬معلومات‭ ‬عند‭ ‬ورود‭ ‬أخبار‭ ‬عاجلة‭. ‬وموقع‭ ‬“فيسبوك”‭ ‬هو‭ ‬المنصة‭ ‬الأكثر‭ ‬استخداماً‭ ‬عربياً‭ ‬بعدد‭ ‬مستخدمين‭ ‬يبلغ‭ ‬حوالي‭ ‬164‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬ارتفاعاً‭ ‬من‭ ‬56‭ ‬مليونا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2013،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬بيئة‭ ‬خصبة‭ ‬للتثوير‭ ‬ونشر‭ ‬الغضب‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬لحظة‭.‬

العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬معظمه‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حلول‭ ‬وسياسات‭ ‬علاجية‭ ‬عاجلة‭ ‬لمعالجة‭ ‬الأوضاع‭ ‬التنموية،‭ ‬فالسوس‭ ‬الذي‭ ‬ينخر‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬بسبب‭ ‬عوامل‭ ‬طائفية‭ ‬وآيديولوجية‭ ‬ومتاجرة‭ ‬بالدين‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬فساد‭ ‬وسوء‭ ‬إدارة‭ ‬وتغييب‭ ‬للتنمية‭ ‬الحقيقية،‭ ‬يتطلب‭ ‬استعادة‭ ‬لدور‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬كي‭ ‬تقوم‭ ‬بواجباتها‭ ‬ودورها‭ ‬حيال‭ ‬مواطنيها‭.  ‬“إيلاف”‭.‬