قهوة الصباح

“لولا دا سلفا”... الفقير الذي وزع البسكويت

| سيد ضياء الموسوي

منذ‭ ‬أمد،‭ ‬وأنا‭ ‬أتابع‭ ‬قصة‭ ‬البطل‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬منارة‭ ‬جمال‭ ‬ووجود،‭ ‬لولا‭ ‬دا‭ ‬سيلفا،‭ ‬البرازيلي‭ ‬الطيب‭ ‬ذي‭ ‬الذكاء‭ ‬اللامع،‭ ‬والمتواضع‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬العمال،‭ ‬الذي‭ ‬أخرج‭ ‬البرازيل‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬وتراكم‭ ‬الدين‭ ‬العام‭ ‬والعجز‭ ‬والجريمة‭ ‬والجهل‭ ‬إلى‭ ‬سابع‭ ‬اقتصاد‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭. ‬

إنه‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬استثار‭ ‬عقلي‭ ‬وأيقظ‭ ‬حواسي‭ ‬لشراهة‭ ‬معرفة‭ ‬الكثير‭ ‬عنه،‭ ‬والتسلل‭ ‬إلى‭ ‬تاريخه‭ ‬والتقاط‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬يثري‭ ‬معلوماتي‭ ‬المتوهجة‭ ‬عنه‭. ‬ربما‭ ‬تخطئ‭ ‬الحواس‭ ‬لكن‭ ‬الكيمياء‭ ‬لا‭ ‬تخطئ‭ ‬في‭ ‬اقتناص‭ ‬الشخصيات‭ ‬الاستثنائية‭. ‬

لا‭ ‬أعلم،‭ ‬أشعر‭ ‬بوهج‭ ‬الصلاة‭ ‬كلما‭ ‬تسمرت‭ ‬عيناي،‭ ‬وأنا‭ ‬أشاهد‭ ‬هذه‭ ‬القامة‭ ‬اليسارية‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬كدح‭ ‬العمال‭ ‬والبروتاريين‭ ‬والكادحين‭ ‬من‭ ‬غابات‭ ‬البرازيل‭. ‬أشعر‭ ‬فيه‭ ‬عبادة‭ ‬الروح،‭ ‬ووهج‭ ‬ترابية‭ ‬الزعيم‭ ‬الذي‭ ‬يحاكي‭ ‬خبز‭ ‬الفقراء؛‭ ‬لذلك‭ ‬أرادوا‭ ‬اغتيال‭ ‬سمعته‭ ‬وإلغاء‭ ‬وجوده‭. ‬“The mechanism”‭ ‬مسلسل‭ ‬في‭ ‬“نيتفلكس”‭. ‬شاهدته‭ ‬بنهم؛‭ ‬لأنه‭ ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬البرازيل‭ ‬في‭ ‬المشاريع‭ ‬وفي‭ ‬النفط‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬شي‭ ‬وانتفاخ‭ ‬الفساد‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الناس‭. ‬

كنت‭ ‬حذرا،‭ ‬وأنا‭ ‬أشاهد‭ ‬المسلسل‭ ‬رغم‭ ‬إعجابي‭ ‬به‭ ‬لكني‭ ‬وجدته‭ ‬يضع‭ ‬الرئيس‭ ‬البرازيلي‭ ‬السابق،‭ ‬والمسجون‭ ‬حاليا‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬الاتهام‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬درامي‭ ‬ومؤثر‭. ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أثق‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬الأميركان‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬ونقاء‭ ‬كف‭ ‬الشخصيات‭ ‬خصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬يتناولون‭ ‬شخصية‭ ‬يسارية‭ ‬أو‭ ‬وثورية‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شخصية‭ ‬لها‭ ‬شعبية‭ ‬كبري‭ ‬كقامة‭ ‬لولا‭ ‬دا‭ ‬سلفا‭ ‬ومتابعتي‭ ‬للاقتصاد‭ ‬السياسي‭ ‬يختصر‭ ‬علي‭ ‬حلم‭ ‬أميركا‭ ‬النفطي‭ ‬وشراهتها‭ ‬في‭ ‬مصالح‭ ‬دولة‭ ‬كالبرازيل،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬لولا‭ ‬دا‭ ‬سلفا‭ ‬البرازيل‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬شافيز‭ ‬فينزويلا‭ ‬قلبا‭ ‬وقالبًا‭. ‬

الزعيم‭ ‬الذي‭ ‬غير‭ ‬البرازيل،‭ ‬وقاد‭ ‬الفقراء‭ ‬إلى‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬الجامعات،‭ ‬لهذا‭ ‬كره‭ ‬الأغنياء‭ ‬والقطط‭ ‬المنتفخة‭ ‬فسادا‭ ‬في‭ ‬البرازيل،‭ ‬لأني‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬سيكولوجية‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأغنياء‭ ‬يكثرون‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬فقير‭ ‬أن‭ ‬يزاحمهم‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬نوعية‭ ‬عطر‭ ‬يرشوه‭ ‬على‭ ‬ثيابهم؛‭ ‬لهذا‭ ‬نجد‭ ‬الأديب‭ ‬الروسي‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬الأغنياء‭ ‬“إنهم‭ ‬يتسامرون‭ ‬ويهمسون‭ ‬بينهم‭ ‬ليطمئنوا‭ ‬أنفسهم‭ (‬أمازال‭ ‬الفقراء‭ ‬بخير‭) (‬وما‭ ‬أوسع‭ ‬القرص‭ ‬في‭ ‬جيب‭ ‬الغير‭)‬”‭. ‬المسلسل‭ ‬هو‭ ‬خلاصة‭ ‬كتاب‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬وقوة‭ ‬وتماسك‭ ‬النص‭ ‬وإبداع‭ ‬الإثارة‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬سقط‭ ‬سقطة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬انحيازه‭ ‬لليمين‭ ‬البرازيلي‭ ‬على‭ ‬اليسار‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬لولا‭ ‬دا‭ ‬سيلفا‭. ‬

كمتابع‭ ‬ومراقب‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬السياسي،‭ ‬أعرف‭ ‬جيدا‭ ‬كيف‭ ‬بإمكان‭ ‬الإعلام‭ ‬والصحافة‭ ‬والقضاء‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬كدول‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬أن‭ ‬تتلاعب‭ ‬بأوراق‭ ‬أي‭ ‬قضية‭ ‬لاغتيال‭ ‬زعيم‭ ‬مثل‭ ‬سلفا‭. ‬

سلفا‭ ‬هو‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬القلائل‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬أوجاع‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬اليسارية‭ ‬ومازالت‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬العقلانية‭ ‬والنضج‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬وألم‭ ‬الواقع‭ ‬وفن‭ ‬إدارة‭ ‬الحكم‭. ‬سوف‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬إنجازات‭ ‬سلفا‭ ‬وكيف‭ ‬حوّل‭ ‬البرازيل‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬مدينة‭ ‬إلى‭ ‬دائنة‭ ‬من‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬الديون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقرض‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الصندوق‭ ‬“اقترض”‭ ‬من‭ ‬البرازيل‭ ‬14‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬أثناء‭ ‬الأزمة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬2008،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬5‭ ‬سنين‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬“لولا‭ ‬دا‭ ‬سيلفا”‭. ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬الصندوق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يشهر‭ ‬“إفلاس”‭ ‬البرازيل‭ ‬في‭ ‬2002،‭ ‬ورفض‭ ‬إقراضها‭ ‬لتسدد‭ ‬فوائد‭ ‬القروض‭.! ‬بفضل‭ ‬تركيز‭ ‬دا‭ ‬سيلفا‭ ‬على‭ ‬4‭ ‬أمور‭: ‬الصناعة،‭ ‬التعدين،‭ ‬والزراعة،‭ ‬وطبعا‭ ‬التعليم،‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬تحويل‭ ‬مناطق‭ ‬الفقراء‭ ‬إلى‭ ‬ورش‭ ‬عمل‭ ‬وكيف‭ ‬صنع‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬البرازيل‭ ‬ورفع‭ ‬الاقتصاد‭. ‬

دراسة‭ ‬ماذا‭ ‬فعل‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الكبير‭ ‬ضرورة‭ ‬للبنان‭ ‬والعراق‭ ‬وعالمنا‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬لنفهم‭ ‬كيف‭ ‬باستطاعة‭ ‬رجب‭ ‬أيقونة‭ ‬كان‭ ‬يمسح‭ ‬الأحذية‭ ‬إلى‭ ‬منديل‭ ‬بشري‭ ‬يكفكف‭ ‬دموع‭ ‬الفقراء‭. ‬بإمكان‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للأغنياء‭ ‬وللفقراء‭ ‬أيضا‭.‬