بعض الحكايا “3”: اللصوص

| سعيد محمد

إنهم‭ ‬“اللصوص”‭.. ‬كانت‭ ‬الصرخة‭ ‬مدوية‭ ‬للغاية،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬واحد‭.. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬والشباب‭ ‬والأطفال‭ ‬يصرخون‭ ‬بأعلى‭ ‬أصواتهم‭ :‬”إنهم‭ ‬اللصوص”‭.. ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬تلك‭ ‬الصرخات‭ ‬في‭ ‬دويها‭ ‬ومرورها‭ ‬وانتشارها‭ ‬البلدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬ليخرج‭ ‬الناس‭ ‬وتجتمع‭ ‬صرخاتهم‭ ‬معًا‭ :‬”نعم‭.. ‬هم‭ ‬اللصوص”‭.‬

ومع‭ ‬اقتران‭ ‬الصرخات‭ ‬بصرخات‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬موعد‭.. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬أبدًا‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬“اللصوص”‭ ‬أنهم‭ ‬“هم‭ ‬اللصوص”؟‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬“بعض‭ ‬اللصوص”‭ ‬هتفوا‭ ‬“ضد‭ ‬اللصوص”‭! ‬لن‭ ‬يختلط‭ ‬الحابل‭ ‬بالنابل،‭ ‬واللص‭ ‬السارق‭ ‬لن‭ ‬يخدع‭ ‬“المسروق”‭ ‬المسكين‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬يخشى‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬وحياة‭ ‬عياله‭.. ‬فالجوع‭ ‬يضاعف‭ ‬الجوع‭ ‬والسرقات‭ ‬تتبعها‭ ‬سرقات‭ ‬فيما‭ ‬الناس‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬بصيص‭ ‬أمل‭ ‬يعيد‭ ‬إليها‭ ‬بضع‭ ‬لقيمات‭ ‬تؤمن‭ ‬لها‭ ‬أبسط‭ ‬حقوقهم‭ ‬في‭ ‬العيش‭.. ‬ولو‭ ‬على‭ ‬الكفاف‭.‬

واحد‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتقنون‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬لحن‭ ‬النداءات‭ ‬والشعارات‭ ‬والخطابات‭ ‬الرنانة،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬وسيلة‭ ‬ليتخفى‭ ‬وراء‭ ‬سرقاته‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هتافهم‭ ‬ضد‭ ‬اللصوص،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذكيًا‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬يكفي‭ ‬لأن‭ ‬يجعله‭ ‬يدرك‭ ‬بأن‭ ‬جيوبه‭ ‬المليئة‭ ‬بالسرقات‭ ‬كانت‭ ‬ظاهر‭ ‬وواضحة‭ ‬للهاتفين‭ ‬الغاضبين‭.. ‬وقف‭ ‬ليشارك‭ ‬الناس‭ ‬هاتفًا‭ ‬ضد‭ ‬اللصوص‭ :‬”نعم‭.. ‬لا‭ ‬ولن‭ ‬نصمت‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعدًا‭ ‬عن‭ ‬اللصوص‭.. ‬السراق‭..‬عن‭ ‬الفاسدين‭.. ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬يملأون‭ ‬جيوبهم‭ ‬ويفرغون‭ ‬جيوبنا‭.. ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬يغمرون‭ ‬الدنيا‭ ‬بالوعود‭ ‬والأحلام‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬أفواه‭ ‬عيالنا‭ ‬حتى‭ ‬الفتات‭.. ‬سنقف‭ ‬معًا‭ ‬وسنعريهم‭ ‬ونكشفهم”‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬والناس‭ ‬ينظرون‭ ‬إليه‭ ‬باستغراب‭ ‬واشمئزاز،‭ ‬فاجأته‭ ‬صرخت‭ ‬امرأة‭ ‬طاعنة‭ ‬في‭ ‬السن‭ :‬”يا‭ ‬يبه‭ ‬مو‭ ‬أنت‭ ‬أولهم”‭.. ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬مفاجأته‭ ‬أكبر‭ ‬عندما‭ ‬سمع‭ ‬ذات‭ ‬العبارة‭ ‬ولكن‭ ‬بلهجة‭ ‬أخرى‭ :‬”هيك‭.. ‬كلهن‭ ‬كلهن”‭.. ‬وأنت‭ ‬وهو‭ ‬وهم‭ ‬منهم‭.. ‬كم‭ ‬هو‭ ‬غريب‭ ‬أن‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬صرخات‭ ‬بلهجات‭ ‬مختلفة‭ ‬لكن‭ ‬المعنى‭ ‬هو‭ ‬هو‭.. ‬والمقصود‭ ‬هو‭ ‬هو‭.. ‬إذن،‭ ‬اللصوص‭ ‬“هم‭ ‬هم”‭.. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬رجليه‭ ‬للريح‭ ‬هاربًا،‭ ‬شد‭ ‬قبضته‭ ‬على‭ ‬جيوبه‭ ‬المليئة‭ ‬بالسرقات‭ ‬وولى‭ ‬هاربًا‭ ‬هو‭ ‬وحاشيته‭ ‬ولعنات‭ ‬الناس‭ ‬تلاحقهم‭.‬

كان‭ ‬“اللصوص”‭ ‬يتفننون‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬الهرب‭.. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬محالة‭! ‬فكل‭ ‬الدروب‭ ‬والطرقات‭ ‬مليئة‭ ‬بالهاتفين‭ ‬ضدهم‭.. ‬الغاضبين‭ ‬عليهم‭.. ‬وماذا‭ ‬بعد؟‭ ‬إذن،‭ ‬هو‭ ‬الحل‭ ‬السحري‭.. ‬قال‭ ‬أحد‭ ‬اللصوص‭ ‬لنفسه‭.. ‬يجب‭ ‬تقديم‭ ‬كل‭ ‬اللصوص‭ ‬إلى‭ ‬العدالة‭.. ‬أي‭ ‬نعم‭.. ‬كلهم‭! ‬فيما‭ ‬الهتاف‭ ‬المباغت‭ ‬كان‭ ‬أقوى‭ :‬”وأنت‭ ‬منهم‭.. ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نثق‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬منكم‭.. ‬لقد‭ ‬قررنا‭ ‬الوقوف‭ ‬لكي‭ ‬نعيش‭ ‬ويعيش‭ ‬عيالنا‭.. ‬ننهض‭ ‬لكي‭ ‬تنهض‭ ‬كل‭ ‬بلدة‭ ‬جائعة‭.. ‬ولن‭ ‬تهربوا‭ ‬بسرقاتكم”‭... ‬الهتاف‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مدويًا‭.. ‬من‭ ‬يدري،‭ ‬ربما‭ ‬سيصل‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬نقطة‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬الجوع‭ ‬على‭ ‬خارطة‭ ‬البشر‭.‬