شبابنا والفن المسرحي المُحاصَر

| عبدالنبي الشعلة

نعاني‭ ‬ونشتكي‭ ‬من‭ ‬انحراف‭ ‬قطاع‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬شبابنا‭ ‬وانزلاقهم‭ ‬إلى‭ ‬هاوية‭ ‬التطرف‭ ‬والعنف‭ ‬وإلى‭ ‬دهاليز‭ ‬الجريمة‭ ‬والرذيلة‭ ‬والإرهاب،‭ ‬ولعل‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بـ‭ ‬“نظرية‭ ‬المؤامرة”‭ ‬يعتقدون،‭ ‬وقد‭ ‬يكونون‭ ‬محقين،‭ ‬بأن‭ ‬ثمة‭ ‬مؤامرة‭ ‬كبرى‭ ‬قد‭ ‬تمت‭ ‬حياكتها‭ ‬والتخطيط‭ ‬لها‭ ‬وتنفيذها‭ ‬بنجاح‭ ‬وإحكام‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تعطيل‭ ‬تقدم‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عرقلة‭ ‬وشل‭ ‬مسيرة‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬فيها‭ ‬وعن‭ ‬طريق‭ ‬محاصرة‭ ‬الشباب‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬ضيقة‭ ‬مظلمة،‭ ‬وإبعادهم‭ ‬عن‭ ‬إشعاع‭ ‬وأنوار‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬وحرمانهم‭ ‬من‭ ‬إشباع‭ ‬حاجاتهم‭ ‬ورغباتهم‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬مزايا‭ ‬وفوائد‭ ‬مختلف‭ ‬تجلياتها،‭ ‬فقيل‭ ‬لهم‭ ‬إن‭ ‬المسرح‭ ‬حرام،‭ ‬والسينما‭ ‬حرام،‭ ‬والموسيقى‭ ‬حرام،‭ ‬والرسم‭ ‬والتصوير‭ ‬حرام،‭ ‬والنحت‭ ‬حرام،‭ ‬وبذلك‭ ‬تتولد‭ ‬لديهم‭ ‬وتنمو‭ ‬حولهم‭ ‬مساحة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الفراغ‭ ‬النفسي‭ ‬والذهني‭ ‬والروحي‭ ‬يتم‭ ‬استغلالها‭ ‬والنفاذ‭ ‬إليها‭ ‬وتلويثها‭ ‬بأفكار‭ ‬التخلف‭ ‬والتعصب‭ ‬والتطرف‭ ‬والانحراف‭ ‬وما‭ ‬يؤدي‭ ‬إليه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬انخراط‭ ‬وانجراف‭ ‬نحو‭ ‬العنف‭ ‬والجريمة‭ ‬والإرهاب‭.‬

إن‭ ‬الذين‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬إبعاد‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭ ‬والمسلم‭ ‬عن‭ ‬الفنون‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬يدركون‭ ‬أنها‭ ‬تشكل‭ ‬نشاطا‭ ‬إبداعيا‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬نواحي‭ ‬الحياة‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬النواحي‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية،‭ ‬وأن‭ ‬الفنون‭ ‬تلعب‭ ‬دورًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي‭ ‬عند‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتنمي‭ ‬مواهبه‭ ‬وتوسع‭ ‬مداركه‭ ‬وتعمق‭ ‬إحساسه‭ ‬بالجانب‭ ‬الجميل‭ ‬في‭ ‬الإنسانية‭ ‬والحياة،‭ ‬وتكسبه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬والحكم‭ ‬والتقييم،‭ ‬وتجعله‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬القبيح‭ ‬والجميل‭ ‬والصواب‭ ‬والخطأ‭ ‬والخير‭ ‬والشر‭ ‬والنافع‭ ‬والضار،‭ ‬وتعزز‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬النبيلة‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬ووجدانه،‭ ‬وعند‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الفنون‭ ‬أو‭ ‬ممارستها‭ ‬تتكسر‭ ‬وتتوارى‭ ‬نوازع‭ ‬العنف‭ ‬والسخط‭ ‬والغضب‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬فتلين‭ ‬وتستقر‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬وسكينة‭ ‬مما‭ ‬ينعكس‭ ‬إيجابيًا‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬الفرد‭ ‬وعلاقته‭ ‬بمحيطه،‭ ‬فينبذ‭ ‬الكراهية‭ ‬والتطرف‭ ‬والعنف‭ ‬وينحاز‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬السلم‭ ‬والمحبة‭ ‬والتعايش‭ ‬والتعاون‭.‬

لذلك‭ ‬تحرص‭ ‬الأنظمة‭ ‬والمجتمعات‭ ‬الراقية‭ ‬على‭ ‬رعاية‭ ‬الفنون‭ ‬ودعمها‭ ‬والارتقاء‭ ‬بها،‭ ‬وتسعى‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬قوى‭ ‬الاستغلال‭ ‬والظلام‭ ‬إلى‭ ‬مطاردتها‭ ‬ومحاصرتها‭ ‬وخنقها‭ ‬وتجريم‭ ‬وتكفير‭ ‬من‭ ‬يتعاطاها‭ ‬أو‭ ‬يقترب‭ ‬منها‭.‬

إن‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬المقدس‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬إشارة‭ ‬صريحة‭ ‬للتحريم‭ ‬المزعوم،‭ ‬خصوصا‭ ‬تحريم‭ ‬الممارسة‭ ‬المسرحية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أصحاب‭ ‬نظرية‭ ‬التحريم‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬تفاسير‭ ‬محددة‭ ‬لأحاديث‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬نبي‭ ‬الأمة‭ ‬عليه‭ ‬أفضل‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭ ‬تحظر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تشخيص‭ ‬أو‭ ‬تصوير‭ ‬فنّي‭ ‬للإنسان،‭ ‬وهي‭ ‬تفاسير‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬أحوالها‭ ‬تعطي‭ ‬الاعتبار‭ ‬للمتن‭ ‬والسند‭ ‬وتراجم‭ ‬الرواة‭ ‬ولا‭ ‬تهتم‭ ‬بالنظرة‭ ‬النقدية‭ ‬والتحليلية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأحاديث‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬اقتضت‭ ‬فيه‭ ‬الضرورة‭ ‬محاربة‭ ‬الوثنية‭ ‬وعبادة‭ ‬الأصنام‭ ‬والخشية‭ ‬من‭ ‬الردة‭ ‬والشرك،‭ ‬ويفسرها‭ ‬فريق‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬المفسرين‭ ‬والعلماء‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تحريم‭ ‬للتشخيص‭ ‬بغرض‭ ‬التبجيل‭ ‬أو‭ ‬لصنع‭ ‬أي‭ ‬تمثال‭ ‬بغرض‭ ‬العبادة‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬صنم‭ ‬للآلهة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬المشركون‭ ‬يعبدونها‭ ‬ويسجدون‭ ‬لها‭ ‬ويقدمون‭ ‬لها‭ ‬القرابين‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬رسم‭ ‬للصلاة‭ ‬أو‭ ‬التبرك،‭ ‬وليس‭ ‬حظرا‭ ‬أوتحريما‭ ‬للأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالرسم‭ ‬أو‭ ‬بنحت‭ ‬التماثيل‭ ‬والمجسمات‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬البعض‭ ‬منا‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬غلاة‭ ‬المشتغلين‭ ‬بالدين،‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬قد‭ ‬حرم‭ ‬ممارسة‭ ‬الفنون‭ ‬البصرية‭ ‬جملة‭ ‬وتفصيلا‭. ‬ونبذ‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬التعاطي‭ ‬معها‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬دعاني‭ ‬للتوقف‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬المحطة‭ ‬وكتابة‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬هو‭ ‬الخبر‭ ‬الذي‭ ‬نُشر‭ ‬مؤخرًا‭ ‬عن‭ ‬فعاليات‭ ‬“مهرجان‭ ‬كلباء‭ ‬للمسرحيات‭ ‬القصيرة”‭ ‬الذي‭ ‬نظمت‭ ‬الدورة‭ ‬الثامنة‭ ‬منه‭ ‬دائرة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬الشارقة‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬لمدينة‭ ‬كلباء‭ ‬الإماراتية؛‭ ‬بهدف‭ ‬تحفيز‭ ‬الإبداع‭ ‬واكتشاف‭ ‬وصقل‭ ‬المواهب‭ ‬الشابة‭ ‬وإثراء‭ ‬المجال‭ ‬المسرحي‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬بالحراك‭ ‬المسرحي‭ ‬العربي‭ ‬نحو‭ ‬آفاق‭ ‬أكثر‭ ‬مواكبة‭ ‬وحداثة،‭ ‬حيث‭ ‬أقيم‭ ‬هذا‭ ‬المهرجان‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬“ملتقى‭ ‬الشارقة‭ ‬للبحث‭ ‬المسرحي”‭.‬

مهرجان‭ ‬كلباء‭ ‬للمسرحيات‭ ‬القصيرة‭ ‬يأتي‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬والفعاليات‭ ‬التي‭ ‬تقام‭ ‬في‭ ‬الشارقة‭ ‬والمتعلقة‭ ‬بالحراك‭ ‬المسرحي‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬وتشمل‭ ‬“مهرجان‭ ‬الشارقة‭ ‬للمسرح‭ ‬الخليجي”،‭ ‬و”ملتقى‭ ‬الشارقة‭ ‬للمسرح‭ ‬العربي”،‭ ‬و”مهرجان‭ ‬الشارقة‭ ‬للمسرح‭ ‬المدرسي”،‭ ‬و”أيام‭ ‬الشارقة‭ ‬المسرحية”،‭ ‬و”مهرجان‭ ‬الشارقة‭ ‬للمسرح‭ ‬الصحراوي”،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬المشابهة‭ ‬التي‭ ‬تقام‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الشيخ‭ ‬الدكتور‭ ‬سلطان‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬القاسمي‭ ‬عضو‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬حاكم‭ ‬الشارقة،‭ ‬والتي‭ ‬تعكس‭ ‬إدراك‭ ‬دولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة‭ ‬لأهمية‭ ‬النشاط‭ ‬المسرحي،‭ ‬والتي‭ ‬ستساهم‭ ‬بشكل‭ ‬محسوس‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬وفك‭ ‬الإهمال‭ ‬أو‭ ‬الحصار‭ ‬المفروض‭ ‬والمضروب‭ ‬حول‭ ‬المسرح‭ ‬في‭ ‬وطننا‭ ‬العربي‭.‬

ولاشك‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مبادرات‭ ‬ومشاريع‭ ‬وبرامج‭ ‬مشابهة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اهتمام‭ ‬دولة‭ ‬الإمارات‭ ‬بالمسرح‭ ‬يبدو‭ ‬أكثر‭ ‬بروزًا‭ ‬ويستحق‭ ‬كل‭ ‬الإكبار‭ ‬والتقدير‭ ‬والإشادة‭ ‬والثناء،‭ ‬فالمسرح‭ ‬تاج‭ ‬الفنون‭ ‬وسمي‭ ‬بـ‭ ‬“أبي‭ ‬الفنون”،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أسمى‭ ‬الفنون‭ ‬التعبيرية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬البشرية‭ ‬واهتمت‭ ‬بها‭ ‬ورعتها‭ ‬بالمساندة‭ ‬والدعم‭ ‬والتجويد‭ ‬والتطوير،‭ ‬وهناك‭ ‬مقولة‭ ‬منسوبة‭ ‬لشكسبير‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭: ‬“أعطني‭ ‬خبزًا‭ ‬ومسرحًا‭ ‬أعطك‭ ‬شعبًا‭ ‬مثقفًا”‭.‬

ولذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المسرح‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬يحتل‭ ‬مرتبة‭ ‬متقدمة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬ويتم‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬التربوية‭ ‬والتنموية‭ ‬والأمنية‭ ‬لهذه‭ ‬الدول،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المسرح‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬وتوفير‭ ‬حلول‭ ‬لمشكلات‭ ‬المجتمع‭.‬

ولننظر‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬تتمتع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬وتقدم‭ ‬ورقي،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أسبابها‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالمسرح‭ ‬ورعاية‭ ‬الفنون‭ ‬المسرحية،‭ ‬ولنَرَ‭ ‬ما‭ ‬يحظى‭ ‬به‭ ‬المسرح‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬رفيعة‭ ‬مرموقة‭ ‬وما‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬الفن‭ ‬المسرحي‭ ‬من‭ ‬تنوع‭ ‬وثراء‭ ‬متميّز،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭ ‬امتدادا‭ ‬واستمرارا‭ ‬لتاريخ‭ ‬وإرث‭ ‬قديم‭ ‬متوارث‭ ‬أرسى‭ ‬قواعده‭ ‬الإغريق‭ ‬والرومان‭ ‬الذين‭ ‬اهتموا‭ ‬بالفنون‭ ‬المسرحية،‭ ‬وشيدوا‭ ‬لها‭ ‬المسارح‭ ‬والمدرجات‭ ‬الكبرى‭.‬

وحتى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬حيث‭ ‬ينغمس‭ ‬وينشغل‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭ ‬بالتكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬ومعظم‭ ‬تجلياتها،‭ ‬ومنها‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فإنهم‭ ‬لم‭ ‬ينسلخوا‭ ‬أو‭ ‬يتخلوا‭ ‬عن‭ ‬تراث‭ ‬وثقافة‭ ‬المسرح،‭ ‬فعندما‭ ‬نزور‭ ‬عواصم‭ ‬ومدن‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬نرى‭  ‬المسارح‭ ‬ودور‭ ‬وصالات‭ ‬العروض‭ ‬تعج‭ ‬بالرواد‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأعمار،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬حيوية‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬ونضجها‭.‬

وسنتوقف‭ ‬للإشارة‭ ‬المختصرة‭ ‬السريعة‭ ‬عند‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬دولتين‭ ‬أوروبيتين‭ ‬فقط،‭ ‬بريطانيا‭ ‬وألمانيا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

فالعاصمة‭ ‬البريطانية‭ ‬لندن‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬عواصم‭ ‬الفن‭ ‬المسرحي‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وهي‭ ‬مألوفة‭ ‬لدى‭ ‬الكثيرين‭ ‬منا،‭ ‬نتردد‭ ‬عليها‭ ‬باستمرار‭ ‬ويشدنا‭ ‬إليها‭ ‬دائمًا‭ ‬ذلك‭ ‬التألق‭ ‬والتعلق‭ ‬بالفن‭ ‬والثقافة،‭ ‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬عامرة‭ ‬دائمًا‭ ‬بمهرجاناتها‭ ‬ومسارحها‭ ‬النشطة‭ ‬وحفلاتها‭ ‬الموسيقية‭ ‬وعروضها‭ ‬الفنية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وأن‭ ‬منطقة‭ ‬“وست‭ ‬إند”‭ ‬فيها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬مساحتها‭ ‬عن‭ ‬18‭ ‬كيلومترا‭ ‬مربعا‭ ‬مكتظة‭ ‬بمسارح‭ ‬عريقة‭ ‬يبلغ‭ ‬عددها‭ ‬40‭ ‬مسرحًا‭. ‬وفي‭ ‬لندن‭ ‬ترعرع‭ ‬ولمع‭ ‬الأديب‭ ‬والروائي‭ ‬والشاعر‭ ‬البريطاني‭ ‬العملاق‭ ‬وليم‭ ‬شكسبير‭ ‬الذي‭ ‬ألف‭ ‬38‭ ‬مسرحية‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬المسرح‭ ‬البريطاني‭ ‬يواصل‭ ‬عرضها‭ ‬باستمرار‭ ‬وبأساليب‭ ‬إبداعية‭ ‬متجددة‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬400‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬وفاة‭ ‬شكسبير‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ ‬أيًا‭ ‬منها‭ ‬روعتها‭ ‬وجاذبيتها‭.‬

وماذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬الإقبال‭ ‬الكثيف‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬على‭ ‬المسرحية‭ ‬الموسيقية‭ ‬المعروفة‭ ‬“فانتوم‭ ‬أوف‭ ‬ذا‭ ‬أوبرا‭ ‬أو‭ ‬شبح‭ ‬الأوبرا”‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬عرضها‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬سنةً‭ ‬دون‭ ‬انقطاع،‭ ‬وهي‭ ‬المسرحية‭ ‬الموسيقية‭ ‬الأشهر‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬المسرحيات‭ ‬الموسيقية‭.‬

وماذا‭ ‬عن‭ ‬المسرحية‭ ‬أو‭ ‬الملحمة‭ ‬الموسيقية‭ ‬الرائعة‭ ‬“لي‭ ‬ميزارابل‭ ‬أو‭ ‬البؤساء”‭ ‬التي‭ ‬عُرضت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1985‭. ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬تجسد‭ ‬رواية‭ ‬البؤساء‭ ‬المشهورة‭ ‬للروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬فيكتور‭ ‬هوغو،‭ ‬وقد‭ ‬شاهد‭ ‬المسرحية‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬55‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬حول‭ ‬العالم‭.‬

أما‭ ‬ألمانيا‭ ‬التي‭ ‬تحفل‭ ‬بالثراء‭ ‬المسرحي،‭ ‬فإنها‭ ‬توصف‭ ‬بأنها‭ ‬جنة‭ ‬المسارح‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬ففيها‭ ‬تمتلك‭ ‬الدولة‭ ‬وترعى‭ ‬وتموّل‭ ‬نحو‭ ‬150‭ ‬دارا‭ ‬للمسرح،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬280‭ ‬مسرحا‭ ‬خاصّا‭ ‬تعنى‭ ‬بمختلف‭ ‬الاتجاهات‭ ‬والتقاليد‭ ‬الفنّية‭ ‬والانتماء‭ ‬الجهوي‭ ‬والثقافي‭. ‬ويتردّد‭ ‬نحو‭ ‬35‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأعمار‭ ‬سنويا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬110‭ ‬آلاف‭ ‬عرض‭ ‬مسرحي‭ ‬وسبعة‭ ‬آلاف‭ ‬حفل‭ ‬موسيقي‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭.‬

لقد‭ ‬حضرت‭ ‬قبل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬أحد‭ ‬العروض‭ ‬الموسيقية‭ ‬المقامة‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭ ‬البافارية‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬ماكسيميليان‭ ‬بمدينة‭ ‬ميونخ،‭ ‬ودار‭ ‬الأوبرا‭ ‬في‭ ‬ميونخ‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أشهر‭ ‬دور‭ ‬المسرح‭ ‬الرائدة‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬ألمانيا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬بأسره،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬المعالم‭ ‬التراثية‭ ‬والمعمارية‭ ‬القديمة،‭ ‬ويستطيع‭ ‬الفرد‭ ‬أن‭ ‬يتنفس‭ ‬ويلمس‭ ‬بداخلها‭ ‬عبق‭ ‬الحضارة‭ ‬وعراقة‭ ‬التاريخ‭ ‬والذوق‭ ‬الرفيع‭ ‬المنعكس‭ ‬في‭ ‬الزخارف‭ ‬واللوحات‭ ‬والإبداع‭ ‬الفني‭ ‬والموسيقي‭. ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستمئة‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬يقصدون‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭ ‬البافارية‭ ‬سنويًا‭ ‬ليستمتعوا‭ ‬بمشاهدة‭ ‬أشهر‭ ‬البرامج‭ ‬تنوعا‭ ‬وإثارة‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

برتولت‭ ‬برخت‭ ‬روائي‭ ‬وكاتب‭ ‬ألماني‭ ‬معروف‭ ‬كتب‭ ‬مسرحية‭ ‬اسمها‭ ‬“99‭ ‬في‭ ‬المئة‭.. ‬الخوف‭ ‬والبؤس‭ ‬في‭ ‬الرايخ‭ ‬الثالث”،‭ ‬وهي‭ ‬مسرحية‭ ‬تعالج‭ ‬أساليب‭ ‬الفاشية‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬الناس،‭ ‬وقد‭ ‬عُرضت‭ ‬المسرحية‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عقد‭ ‬الثلاثينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬النازيين‭ ‬أوقفوا‭ ‬عرضها‭ ‬وطاردوا‭ ‬مؤلفها‭ ‬ما‭ ‬اضطره‭ ‬للهرب‭ ‬من‭ ‬ألمانيا،‭ ‬والآن‭ ‬يتم‭ ‬إعادة‭ ‬عرضها‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬تنامي‭ ‬الحركات‭ ‬الشعبوية‭ ‬واليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬بذور‭ ‬النازية‭ ‬والفاشية‭ ‬الجديدة‭. ‬وهنا‭ ‬أيضًا‭ ‬يبرز‭ ‬دور‭ ‬إمارة‭ ‬الشارقة‭ ‬في‭ ‬ترويج‭ ‬ثقافة‭ ‬المسرح‭ ‬بالوطن‭ ‬العربي‭ ‬عندما‭ ‬باشرت‭ ‬الهيئة‭ ‬العربية‭ ‬للمسرح‭ ‬بالشارقة‭ ‬ترجمة‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أداؤها‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭.‬

فتحية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تحرير‭ ‬عقول‭ ‬شبابنا‭ ‬المنحرف‭ ‬وتخليصهم‭ ‬من‭ ‬قبضة‭ ‬الغواية‭ ‬والتخلف‭ ‬والتضليل،‭ ‬وتشجيعهم‭ ‬على‭ ‬المساهمة‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التحاق‭ ‬أمتنا‭ ‬بركب‭ ‬الرقي‭ ‬والتقدم‭ ‬والتطور‭.‬