الحرب التجارية الأميركية الصينية.. بين انتظار اتفاق وصراع طويل في الآفاق

| د. أنيس الخياطي

رغم‭ ‬امتدادها‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬ظلت‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين‭ ‬مركز‭ ‬الاهتمام‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الدولي،‭ ‬وبقي‭ ‬العالم‭ ‬يواكب‭ ‬تطورات‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬التجاري‭ ‬ويترقب‭ ‬مآلاته،‭ ‬ظاهريا،‭ ‬كان‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬نشأت‭ ‬بسبب‭ ‬سعي‭ ‬الإدارة‭ ‬الأميركية‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬العجز‭ ‬التجاري‭ ‬الكبير‭ ‬مع‭ ‬الصين،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬دفع‭ ‬الصين‭ ‬للقيام‭ ‬بحماية‭ ‬أكبر‭ ‬لحقوق‭ ‬الملكية‭ ‬الفردية،‭ ‬لكن‭ ‬السبب‭ ‬الهيكلي‭ ‬العميق‭ ‬لهذه‭ ‬الحرب‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬تحول‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الصين‭ ‬أكبر‭ ‬مصدر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬2009‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تحوز‭ ‬لقب‭ ‬أكبر‭ ‬اقتصاد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬متتالية‭ ‬منذ‭ ‬2014‭.‬

لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬جوهر‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬الأميركية‭ ‬الصينية‭ ‬هو‭ ‬أولاً‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬معركة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نظام‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬هو‭ ‬نزاع‭ ‬حول‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فان‭ ‬التساؤل‭: ‬هل‭ ‬سيخضع‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬للسيطرة‭ ‬التقليدية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬كقوة‭ ‬عظمى،‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬الصين،‭ ‬كقوة‭ ‬ناشئة‭ ‬جديدة‭. ‬ومن‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬هذه،‭ ‬تبدو‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬هيكلية‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منها‭.‬

وقد‭ ‬لمست‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬التحدي‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬الصعود‭ ‬المستمر‭ ‬للصين‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ما‭ ‬أشعرها‭ ‬بالضغط‭ ‬المستمرعلى‭ ‬معدلات‭ ‬نموها‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬فقد‭ ‬انتقل‭ ‬تدريجيا‭ ‬إطار‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬من‭ ‬اقتصاد‭ ‬مكمل‭ ‬إلى‭ ‬تنافسي،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬قطاعات‭ ‬الصناعات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬ذات‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة‭ ‬العالية،‭ ‬ويتجلى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬خصوصا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشروع‭ ‬“صنع‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬2025”‭ ‬الذي‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أكبر‭ ‬تهديد‭ ‬لهيمنتها‭ ‬الاقتصادية‭. ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬أحدثت‭ ‬المواقف‭ ‬والتحركات‭ ‬الصينية‭ ‬تغيرات‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الحوكمة‭ ‬العالمية،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬تعددية‭ ‬الأطراف‭ ‬النمط‭ ‬السائد‭ ‬للتعاون،‭ ‬المعترف‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عدد‭ ‬متزايد‭ ‬من‭ ‬الدول‭. ‬ويمثل‭ ‬مشروع‭ ‬“طريق‭ ‬الحرير”‭ ‬أبرز‭ ‬علاماته،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أضعف‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬الموقف‭ ‬المهيمن‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬النظم‭ ‬المختلفة‭. ‬وعلى‭ ‬المدى‭ ‬القصير،‭ ‬يعتبر‭ ‬الصينيون‭ ‬والأميركيون‭ ‬أكبر‭ ‬ضحايا‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استمرت‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬وازدادت،‭ ‬فلن‭ ‬يكون‭ ‬تأثيرها‭ ‬مقصورًا‭ ‬على‭ ‬الصين‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭.‬‭ ‬

فبسبب‭ ‬الحجم‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الضخم‭ ‬للبلدين،‭ ‬ستكون‭ ‬هناك‭ ‬آثار‭ ‬مؤكدة‭ ‬لتباطؤ‭ ‬وتيرة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنع‭ ‬البلدين‭ ‬من‭ ‬التعبيرعن‭ ‬نيتهما‭ ‬التمادي‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬مدى،‭ ‬ففي‭ ‬مواجهة‭ ‬ترامب‭ ‬“الأبيض”‭ ‬صاحب‭ ‬شعار‭ ‬“أميركا‭ ‬أولا”،‭ ‬لا‭ ‬تتوانى‭ ‬الصين‭ ‬بدورها‭ ‬عن‭ ‬تبني‭ ‬إجراءات‭ ‬انتقامية‭ ‬مماثلة،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬العالم‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬قطبين‭ ‬اقتصاديين‭ ‬يتصارعان‭ ‬بإمكانيات‭ ‬هائلة‭ ‬ومتقاربة‭. ‬فالحرب‭ ‬التجارية‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬صراع‭ ‬على‭ ‬الزعامة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تتصاعد‭ ‬وتيرتها‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬المقبلة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬محتمل،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬لأسباب‭ ‬مرحلية‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬قرب‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأميركية‭. ‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أسواق‭ ‬بديلة،‭ ‬من‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬البلدان‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬تحالفات‭ ‬واتفاقيات‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬وأن‭ ‬يقوما‭ ‬بضغوطات‭ ‬على‭ ‬الشركاء‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استمالتهم‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭.‬

هذه‭ ‬التداعيات‭ ‬قد‭ ‬تؤدي‭ ‬تدريجيا‭ ‬إلى‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬باردة‭ ‬جديدة،‭ ‬اقتصادية‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬ولعلها‭ ‬تكون‭ ‬حربا‭ ‬أشد‭ ‬وقعا‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬الأفكار‭ ‬الآيديولوجية،‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬مراكز‭ ‬القوى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وتؤثر‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الحالي‭.‬

“هل‭ ‬سيخضع‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬للسيطرة‭ ‬التقليدية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬كقوة‭ ‬عظمى،‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬الصين،‭ ‬كقوة‭ ‬ناشئة‭ ‬جديدة”‭.‬