الديمقراطية تتراجع في الغرب وتتألق في إسرائيل!

| عبدالنبي الشعلة

بقرار‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وفي‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬يحتفل‭ ‬العالم‭ ‬بـ‭ ‬“اليوم‭ ‬الدولي‭ ‬للديمقراطية”،‭ ‬والهدف‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفال‭ ‬هو‭ ‬إتاحة‭ ‬الفرصة‭ ‬لبني‭ ‬البشر‭ ‬لاستعراض‭ ‬حالة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭.‬

والديمقراطية‭ ‬حسب‭ ‬مفردات‭ ‬منظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬هي‭ ‬نظام‭ ‬يوفر‭ ‬“البيئة‭ ‬الطبيعية‭ ‬اللازمة‭ ‬لحماية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وإعمالها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يتسم‭ ‬بالكفاءة‭. ‬وهذه‭ ‬القيم‭ ‬واردة‭ ‬في‭ ‬الإعلان‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬مذكورة‭ ‬بالتفصيل‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الدولي‭ ‬الخاص‭ ‬بالحقوق‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬الذي‭ ‬يكرس‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والحريات‭ ‬المدنية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تساند‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الهادفة”،‭ ‬ولاحظوا‭ ‬كلمة‭ ‬“الهادفة”‭.‬

وفي‭ ‬بداية‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬صدرت‭ ‬قوائم‭ ‬“مؤشر‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لسنة‭ ‬2018”‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬16‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬20‭ ‬دولة‭ ‬عربية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬كلها،‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬هذه‭ ‬القوائم،‭ ‬وصنفتها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬دول‭ ‬غير‭ ‬ديمقراطية‭ ‬وأنها‭ ‬“شمولية‭ ‬وسلطوية”،‭ ‬في‭ ‬حين،‭ ‬بل‭ ‬والأدهى‭ ‬والأمَرُّ‭  ‬هو‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل،‭ ‬الدولة‭ ‬القمعية‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬انتهاك‭ ‬الحريات‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬صُنفت‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬حلت‭ ‬الأولى‭ ‬بلا‭ ‬منازع‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وبواقع‭ ‬30‭ ‬ضمن‭ ‬الترتيب‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬167‭ ‬دولة‭ ‬رصدها‭ ‬المؤشر،‭ ‬متقدمة‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬مثل‭ ‬بلجيكا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬والهند،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬قتل‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ (‬2018‭) ‬ما‭ ‬مجموعه‭ ‬295‭ ‬فلسطينيًا‭ ‬أعزل‭ ‬ممن‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬أدنى‭ ‬مستويات‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والكرامة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وأُصيبَ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬29‭ ‬ألف‭ ‬فلسطيني‭ ‬آخرين‭ ‬بجروح‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها،‭ ‬كما‭ ‬هدمت‭ ‬السلطات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬أو‭ ‬صادرت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬459‭ ‬مبنًى‭ ‬يعود‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬وواصلت‭ ‬إسرائيل‭ ‬حصارها‭ ‬البري‭ ‬والبحري‭ ‬والجوي‭ ‬الذي‭ ‬تفرضه‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬بحجة‭ ‬المخاوف‭ ‬الأمنية،‭ ‬وجرى‭ ‬تحديد‭ ‬نحو‭ ‬1‭.‬3‭ ‬مليون‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬أو‭ ‬68‭ % ‬من‭ ‬سكانه،‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬انعدام‭ ‬الأمن‭ ‬الغذائي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2018،‭ ‬وهو‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬صُنفت‭ ‬فيه‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭!‬

من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬وفي‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬أساسًا‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ ‬بدأت‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬بمفهومها‭ ‬أو‭ ‬بنسختها‭ ‬الغربية،‭ ‬تفقد‭ ‬بريقها‭ ‬وجاذبيتها‭ ‬وتتراجع‭ ‬أمام‭ ‬صراع‭ ‬قوى‭ ‬المجتمعات‭ ‬وتحت‭ ‬ضربات‭ ‬الموجات‭ ‬الشعبوية‭ ‬والوطنية‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬والعصبيات‭ ‬القومية‭ ‬والدينية‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬نظريًا‭ ‬ومثاليًا‭ ‬تعني‭ ‬ذلك‭ ‬المفهوم‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬ضمان‭ ‬الحريات‭ ‬السياسية‭ ‬والمدنية،‭ ‬ونظام‭ ‬حكم‭ ‬يحترم‭ ‬التعددية‭ ‬وتداول‭ ‬السلطة‭ ‬سلميًا،‭ ‬ويحقق‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة‭ ‬بين‭ ‬الجميع،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مقوماتها‭ ‬الانفتاح‭ ‬والتسامح‭ ‬الديني‭ ‬والثقافي،‭ ‬فإن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬تبدو‭ ‬الآن‭ ‬عارية‭ ‬وعاجزة‭ ‬عن‭ ‬صون‭ ‬وتحقيق‭ ‬جوهرها،‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬المستجدات‭ ‬والتحديات‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تحاصرها‭. ‬

ثلاثة‭ ‬عناصر‭ ‬أو‭ ‬تحديات‭ ‬أساسية‭ ‬هددت‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬وحاصرتها،‭ ‬أولها‭ ‬العولمة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إثارة‭ ‬خوف‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬الذوبان،‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬فيها،‭ ‬وهي‭ ‬القاعدة‭ ‬والركيزة‭ ‬الأساسية‭ ‬للنظام‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأزمات‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بهذه‭ ‬الدول‭ ‬كالأزمة‭ ‬المالية‭ ‬العالمية‭ ‬للعام‭ ‬2008،‭ ‬وأزمات‭ ‬الديون‭ ‬والبطالة‭ ‬وغيرها،‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأزمات‭ ‬والتطورات‭ ‬زعزعت‭ ‬وهزت‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬أركان‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬وأحدثت‭ ‬تصدعًا‭ ‬في‭ ‬أسس‭ ‬وقيم‭ ‬مجتمعاتها‭.‬

التحدي‭ ‬الثاني‭ ‬كان‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬النزوح‭ ‬والهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬ديموغرافية‭ ‬أو‭ ‬التركيبة‭ ‬السكانية‭ ‬لمجتمعات‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬وإلى‭ ‬انتشار‭ ‬البطالة‭ ‬وإلى‭ ‬القلق‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬ضياع‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬والهوية‭ ‬العرقية‭ ‬والهوية‭ ‬العقائدية‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬نمو‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإسلاموفوبيا‭ ‬وارتفاع‭ ‬موجة‭ ‬معادات‭ ‬المهاجرين‭.‬

التحدي‭ ‬الثالث‭ ‬والأكبر‭ ‬والأخطر‭ ‬هو‭ ‬الإرهاب‭ ‬الذي‭ ‬أرعب‭ ‬وهدد‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية،‭ ‬وخلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الهلع‭ ‬والخوف‭ ‬على‭ ‬الأرواح‭ ‬والممتلكات‭ ‬والمكتسبات‭.‬

هذه‭ ‬التحديات‭ ‬أنتجت‭ ‬الإحساس‭ ‬بالخوف‭ ‬وعدم‭ ‬الأمان‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬نمو‭ ‬التيارات‭ ‬والحركات‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وكشفت‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬أو‭ ‬عجز‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬وضعف‭ ‬فاعليته‭ ‬وكفاءته‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬التحديات‭ ‬والتصدي‭ ‬لها،‭ ‬فأصبحت‭ ‬الحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬ومفروضة‭ ‬لتوفير‭ ‬الأمن‭ ‬والحماية‭ ‬للمجتمعات،‭ ‬والذي‭ ‬تطلب‭ ‬بدوره‭ ‬التضييق‭ ‬على‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬العامة‭ ‬وهي‭ ‬العمود‭ ‬الفقري‭ ‬للديمقراطية‭.‬

فصارت‭ ‬الدول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬وغيرها‭ ‬تجاهر‭ ‬وتسعى‭ ‬وتؤكد‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعاظم‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬الأمني‭ ‬ضمن‭ ‬قوانين‭ ‬تكبح‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الرأي‭ ‬وتعطي‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المعلومة‭ ‬وتضييق‭ ‬الحريات‭ ‬الشخصية‭ ‬عمومًا‭ ‬كالقوانين‭ ‬التي‭ ‬أقرت‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬تفجيرات‭ ‬“11‭ ‬سبتمبر”‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬تشريع‭ ‬مراقبة‭ ‬وتسجيل‭ ‬الاتصالات‭ ‬الشخصية‭ ‬والمعاملات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬منع‭ ‬التسريبات‭ ‬الحكومية‭ ‬وملاحقة‭ ‬مصادر‭ ‬التقارير‭ ‬الإعلامية‭ ‬ومحاكمتها،‭ ‬ومتابعة‭ ‬المواقع‭ ‬الإلكترونية‭ ‬المعنية‭ ‬بنشر‭ ‬الوثائق‭ ‬السرية‭ ‬مثل‭ ‬موقع‭ ‬“ويكيليكس”،‭ ‬وازدياد‭ ‬القيود‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬النشر‭ ‬الإلكتروني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حظر‭ ‬المواقع‭ ‬والمعلومات‭ ‬وملاحقة‭ ‬الناشرين‭ ‬ومعاقبتهم‭.‬

وأمام‭ ‬أعين‭ ‬حكومات‭ ‬الدول‭ ‬المتطورة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬تنمو‭ ‬وتتسع‭ ‬الآن‭ ‬فيها‭ ‬تجارة‭ ‬وتوزيع‭ ‬برامج‭ ‬المراقبة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وتطبيقاتها‭ ‬حتى‭ ‬الصوتية‭ ‬منها،‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬وتصديرها‭ ‬للخارج‭ ‬دون‭ ‬قيد‭ ‬أو‭ ‬شرط،‭ ‬ويتم‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬وفي‭ ‬الدول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الأخرى‭ ‬وغيرها‭ ‬رصد‭ ‬ومراقبة‭ ‬توجهات‭ ‬وميول‭ ‬المواطنين‭ ‬عمومًا‭ ‬باستخدام‭ ‬الخوارزميات‭ ‬الحاسوبية‭ ‬هدفها‭ ‬الظاهر‭ ‬أغراض‭ ‬اقتصادية‭ ‬وتجارية‭ ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬أغراض‭ ‬استخباراتية‭ ‬وأمنية‭ ‬منها‭ ‬ملاحقة‭ ‬وتعقب‭ ‬الأفراد‭ ‬المراقبين‭ ‬أو‭ ‬المشكوك‭ ‬فيهم‭.‬

ولطالما‭ ‬تعرضت‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬ومنها‭ ‬الأنظمة‭ ‬والدول‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬لضغوط‭ ‬متزايدة‭ ‬وصلت‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التهديد‭ ‬والابتزاز‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬ذاتها‭ ‬ومن‭ ‬قوى‭ ‬ومنظمات‭ ‬دولية‭ ‬تابعة‭ ‬لها‭ ‬كانت‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تدفعها‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬أن‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬تبني‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬بنسخته‭ ‬الغربية‭ ‬المتمحورة‭ ‬حول‭ ‬الحرية‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬تصطدم‭ ‬بحرية‭ ‬الآخرين‭.‬

هذه‭ ‬الضغوط‭ ‬بدأت‭ ‬بالانحسار‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬دولنا‭ ‬وأنظمتنا‭ ‬الحاكمة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬مقاومتها‭ ‬والصد‭ ‬عنها،‭ ‬وفي‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬مجاراتها‭ ‬شكليًا‭ ‬أو‭ ‬الالتفاف‭ ‬حولها،‭ ‬وربما‭ ‬تكون‭ ‬معذورة‭ ‬أو‭ ‬محقة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وبالأخص‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬نجوم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬كما‭ ‬رأينا،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬كما‭ ‬قلنا‭ ‬يفرز‭ ‬قيحه‭ ‬وصديده‭ ‬ويتراجع‭ ‬ويتم‭ ‬محاصرته‭ ‬في‭ ‬معاقله‭ ‬المحكمة‭ ‬وضربه‭ ‬في‭ ‬صميمه،‭ ‬وهي‭ ‬الحريات‭ ‬الشخصية‭ ‬وحرية‭ ‬التعبير‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬أعمدة‭ ‬المبادئ‭ ‬والقيم‭ ‬الديمقراطية‭.‬

وليس‭ ‬دفاعًا‭ ‬عن‭ ‬أنظمتنا‭ ‬الحاكمة‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬بأنها‭ ‬ليست‭ ‬وحدها‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬تنكرنا‭ ‬وعدم‭ ‬تقبلنا‭ ‬للديمقراطية‭ ‬“الهادفة”،‭ ‬فنحن‭ ‬الذين‭ ‬وفرنا‭ ‬لها‭ ‬المسوغات‭ ‬التي‭ ‬تبرر‭ ‬ذلك،‭ ‬فأنظمتنا‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬وفي‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إنما‭ ‬تستمد‭ ‬هذه‭ ‬المقاومة‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الصد‭ ‬والممانعة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬المتمترسة‭ ‬خلف‭ ‬ما‭ ‬صاغته‭ ‬وحاكته‭ ‬من‭ ‬موانع‭ ‬ومعوقات‭ ‬فكرية‭ ‬وتراثية‭ ‬مناوئة‭ ‬للديمقراطية‭. ‬

فقد‭ ‬أسسنا‭ ‬وكرسنا‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬بيئة‭ ‬يسودها‭ ‬الاستقطاب‭ ‬واحتكار‭ ‬الحقيقة‭ ‬والعدوانية‭ ‬تجاه‭ ‬الاختلاف،‭ ‬بيئة‭ ‬مناهضة‭ ‬وطاردة‭ ‬للديمقراطية‭ ‬وذلك‭ ‬بتشبثنا‭ ‬وتمسكنا‭ ‬بثقافة‭ ‬التعصب‭ ‬وعدم‭ ‬التسامح‭ ‬والكراهية‭ ‬وعدم‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭ ‬والخوف‭ ‬منه‭ ‬وإقصائه،‭ ‬وهي‭ ‬خصائص‭ ‬تتنافى‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬ومبادئ‭ ‬التعددية‭ ‬والتنوع‭ ‬والحرية‭ ‬الدينية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬جوهر‭ ‬الديمقراطية‭. ‬

كما‭ ‬وأننا‭ ‬قد‭ ‬انحرفنا‭ ‬بديننا‭ ‬الحنيف،‭ ‬وجردناه‭ ‬من‭ ‬قِيَمه‭ ‬السامية‭ ‬الناصعة‭ ‬مثل‭ ‬التسامح‭ ‬والتعايش‭ ‬والأخوة‭ ‬والمحبة،‭ ‬وألبسناه‭ ‬ثوب‭ ‬التشدد‭ ‬والتعصب‭ ‬والكراهية،‭ ‬وحمَّلنا‭ ‬الإسلام‭ ‬وزر‭ ‬قراءتنا‭ ‬الخاطئة‭ ‬لنصوص‭ ‬تراثنا‭ ‬الديني،‭ ‬فأصبحنا‭ ‬لقرون‭ ‬طويلة‭ ‬نُخَطئ‭ ‬ونلعن‭ ‬ونكفر‭ ‬الآخرين‭ ‬بأعلى‭ ‬أصواتنا‭ ‬من‭ ‬يهود‭ ‬ونصارى‭ ‬وغيرهم،‭ ‬رغم‭ ‬أمره‭ ‬جلت‭ ‬قدرته‭: ‬“وَلَا‭ ‬تُجَادِلُوا‭ ‬أَهْلَ‭ ‬الْكِتَابِ‭ ‬إِلَّا‭ ‬بِالَّتِي‭ ‬هِيَ‭ ‬أَحْسَنُ”،‭ ‬ثم‭ ‬ضيقنا‭ ‬أو‭ ‬وسعنا‭ ‬الدائرة‭ ‬بلعن‭ ‬وتكفير‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضًا،‭ ‬رغم‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭: ‬“وَاعْتَصِمُوا‭ ‬بِحَبْلِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬جَمِيعًا‭ ‬وَلَا‭ ‬تَفَرَّقُوا‭ ‬ۚ”‭ ‬فكم‭ ‬قيل‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬السُنة‭ ‬كُفار‭ ‬وملعونون،‭ ‬وكم‭ ‬سمعنا‭ ‬أن‭ ‬الشيعة‭ ‬كُفار‭ ‬وملعونون،‭ ‬ولا‭ ‬يقر‭ ‬أي‭ ‬منا‭ ‬للآخر‭ ‬بالوجود،‭ ‬وكل‭ ‬منا‭ ‬يدعي‭ ‬احتكار‭ ‬الحقيقة‭ ‬وحصرها،‭ ‬بل‭ ‬عصرها‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬دون‭ ‬الآخر،‭ ‬إننا‭ ‬بذلك‭ ‬نخالف‭ ‬ونتحدى‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬وإدراك‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬“ولو‭ ‬شاء‭ ‬ربك‭ ‬لجعل‭ ‬الناس‭ ‬أمة‭ ‬واحدة‭ ‬ولا‭ ‬يزالون‭ ‬مختلفين”‭.‬

والآن‭ ‬الكل‭ ‬يدرك‭ ‬أننا‭ ‬أصبحنا‭ ‬نقبع‭ ‬محصورين‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬مأزق‭ ‬حضاري‭ ‬وسياسي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سقط‭ ‬سياسيًا‭ ‬شعار‭ ‬“الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل”،‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬ويتطلب‭ ‬سرعة‭ ‬استنهاض‭ ‬همم‭ ‬المفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬العرب؛‭ ‬لبلورة‭ ‬رؤية‭ ‬وصيغة‭ ‬حضارية‭ ‬وسياسية‭ ‬مرتكزة‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬الحداثة‭ ‬ومنبثقة‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬ومبادئ‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المسؤولة‭ ‬الهادفة‭.‬