وَخْـزَةُ حُب

نتوخى الحيادية... لكننا لا نبلغها!

| د. زهرة حرم

إنني‭ ‬من‭ ‬المؤمنين‭ ‬–‭ ‬تمامًا‭ ‬–‭ ‬بأن‭ ‬موضوع‭ ‬الحياد‭ ‬العلمي،‭ ‬الذي‭ ‬يُطالبُ‭ ‬به‭ ‬الباحثون،‭ ‬لا‭ ‬يعدو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محضَ‭ ‬وهْمٍ؛‭ ‬فهو‭ ‬يعني‭ ‬–‭ ‬فيما‭ ‬يَعني‭ ‬–‭ ‬ألاّ‭ ‬نغلِّب‭ ‬الهوى،‭ ‬أو‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬كتاباتنا،‭ ‬وأن‭ ‬ننتصر‭ ‬للمنهج‭ ‬العلمي‭ ‬أو‭ ‬النظرية‭ ‬العلمية،‭ ‬اللذين‭ ‬نهتدي‭ ‬بهديهما‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬البحث‭.‬

إذ‭ ‬ذاك؛‭ ‬شغلَنا‭ ‬موضوعُ‭ ‬ألا‭ ‬نكون‭ ‬نحن؛‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هوانا‭ ‬غالب،‭ ‬وأن‭ ‬نكون‭ ‬حياديين؛‭ ‬فلا‭ ‬ننتصر‭ ‬لمصلحة‭ ‬شخصية،‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬ما،‭ ‬وأن‭ ‬نقتفي‭ ‬منهجًا‭ ‬لا‭ ‬نحيد‭ ‬عنه،‭ ‬وكأن‭ ‬المطلوب‭ ‬منا؛‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حرف؛‭ ‬أن‭ ‬ننتصر‭ ‬للحقيقة؛‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬العدل‭ ‬البحثيّ‭ ‬المطلق؛‭ ‬لننتهي‭ ‬بنقادٍ‭ ‬أو‭ ‬حُكّام‭ ‬يصنفون‭ ‬بحوثنا‭ ‬بالصلاحية‭ ‬من‭ ‬عدمها‭! ‬أو‭ ‬بالقبول‭ ‬من‭ ‬سواه‭!‬

نعم؛‭ ‬توخّي‭ ‬الصدق‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬مسألة‭ ‬مهمة،‭ ‬ولكن،‭ ‬ألا‭ ‬تتفقون‭ ‬معي‭ ‬أن‭ ‬الحياد‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬نتغنى‭ ‬به،‭ ‬يجافي‭ ‬الصدق‭ ‬التام‭! ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬جاء؟‭ ‬وكيف‭ ‬طُرح؟‭ ‬وهنا‭ ‬لن‭ ‬أقف‭ ‬على‭ ‬تاريخه،‭ ‬أو‭ ‬مكانه‭ ‬الأول؛‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬سألفتُ‭ ‬إلى‭ ‬مصدره‭ ‬الإنساني؛‭ ‬المجتمعي‭! ‬وما‭ ‬كان‭ ‬كذلك،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬مُطلقا‭ ‬أو‭ ‬مُنزّها؟‭!‬

علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬أو‭ ‬دارسوه‭ ‬يَعرِفون‭ ‬جيدًا‭ ‬أن‭ ‬المرء‭ ‬محكوم‭ ‬بشروطه‭ ‬المجتمعية؛‭ ‬عقيدةً،‭ ‬وأخلاقًا،‭ ‬وتوجهاتٍ‭ ‬سياسية‭... ‬إلى‭ ‬آخره‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬الجماعة،‭ ‬وكلما‭ ‬كبر‭ ‬الفرد‭ ‬منا؛‭ ‬نمتْ‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭/ ‬المفاهيم؛‭ ‬كبذرة‭ ‬تأتي‭ ‬أكلُها‭ ‬في‭ ‬عقولنا،‭ ‬فكيف‭ ‬فجأة‭: ‬ندّعي‭ ‬الحياد‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬غيره؟‭!‬

قال‭ ‬بعضهم‭: ‬إن‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬عصية‭ ‬على‭ ‬الحيادية،‭ ‬وأنها‭ ‬فيها‭ ‬مستحيلة‭! ‬وأكد‭ ‬آخرون‭ ‬أن‭ ‬العلوم‭ ‬الرياضية‭ ‬التجريبية‭ ‬حيادية‭ ‬تمامًا‭. ‬فكيف‭ ‬ذا؟‭ ‬كيف‭ ‬والعلوم‭ ‬كلها‭ ‬إنسانية‭! ‬ألم‭ ‬يخرج‭ ‬الرياضيون‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬حل‭ ‬لمسائلهم‭ ‬الرياضية‭! ‬ألم‭ ‬يطلع‭ ‬علينا‭ ‬اللغويون‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬إعرابي‭! ‬ألا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة‭ ‬تمامًا،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬كذلك‭ ‬–‭ ‬نسبيًا‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬الحجة‭ ‬أو‭ ‬الدليل،‭ ‬أو‭ ‬السند‭ ‬الذي‭ ‬نستند‭ ‬عليه،‭ ‬أيا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬أو‭ ‬ذاك؟‭!‬

هنا‭ ‬مربط‭ ‬الفرس؛‭ ‬فما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬فرضيتي‭ ‬قابلة‭ ‬للعلمية‭ ‬من‭ ‬عدمها،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬بحث‭ ‬ما‭ ‬علميًا؛‭ ‬هو‭ ‬كيفية‭ ‬أو‭ ‬كمية‭ ‬الاستدلال‭ ‬اللذان‭ ‬يسوقهما‭ ‬الباحث‭ ‬للتدليل،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬منطقيا،‭ ‬مقبولا،‭ ‬موافقا‭ ‬للنظرية‭ ‬التي‭ ‬يطرحها،‭ ‬وبصورة‭ ‬أكثر‭ ‬عمقا،‭ ‬موافقا‭ ‬للنظرية‭ (‬الجمعية‭) ‬التي‭ ‬اتُفق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أشخاص‭/‬بشر‭. ‬توافقت‭ ‬عقولهم،‭ ‬ورغباتهم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم؛‭ ‬أهواؤهم‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬النظرية‭. ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬جئتم‭ ‬بالحيادية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭! ‬إنْ‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬تعبير‭ ‬مجازيّ،‭ ‬قابل‭ ‬للخلخلة،‭ ‬والتفكيك‭!‬

إن‭ ‬الباحث‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬فهو‭ ‬نتاج‭ ‬تراكمات‭ ‬معرفية،‭ ‬وعُرفيّة،‭ ‬ومعتقدات،‭ ‬ومفاهيم،‭ ‬لن‭ ‬يغربلها‭ ‬منخل‭ ‬ما،‭ ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬أو‭ ‬سنة‭ ‬ما؛‭ ‬فيتخلص‭ ‬منها‭ ‬فجأة‭! ‬إن‭ ‬الباحث‭ ‬يُقارب‭ ‬أو‭ ‬يتوخى‭ (‬الحيادية‭)‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬لن‭ ‬يكونها،‭ ‬فذاك‭ ‬دونه‭ ‬المستحيل‭!.‬