الملك بيدرو والأستاذ مصطفى وحرف السين

| عبدالنبي الشعلة

كلما‭ ‬زرت‭ ‬مدينة‭ ‬غرناطة‭ ‬الإسبانية‭ ‬أحرص‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬عروض‭ ‬فن‭ ‬الـ‭ ‬“فلامنكو”‭ ‬الإسباني،‭ ‬الذي‭ ‬تؤديه‭ ‬فرق‭ ‬فنية‭ ‬من‭ ‬غجر‭ ‬إسبانيا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬مرتبطا‭ ‬الآن‭ ‬بالغجر‭ ‬الإسبان‭ ‬دون‭ ‬سواهم،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬بقي‭ ‬وظل‭ ‬مشدودا‭ ‬إلى‭ ‬جذوره‭ ‬الثقافية‭ ‬الموريسكية‭ ‬ذات‭ ‬الأصول‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭.‬

وقد‭ ‬استنتجت‭ ‬وتوصلت‭ ‬جميع‭ ‬الأبحاث‭ ‬والدراسات‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الفلكلوري‭ ‬الغنائي‭ ‬الموسيقي‭ ‬أصله‭ ‬عربي‭ ‬أندلسي،‭ ‬يعتمد‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬النجوى‭ ‬والشكوى‭ ‬والشجن،‭ ‬وتتجسد‭ ‬فيه‭ ‬وبشكل‭ ‬واضح‭ ‬أحاسيس‭ ‬الحزن‭ ‬والحسرة‭ ‬والأسى‭ ‬التي‭ ‬تعكسها‭ ‬التسمية‭ ‬“فلامنكو”،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬محرفة‭ ‬من‭ ‬أصلها‭ ‬العربي‭ ‬“فلاح‭ ‬منكوب”‭ ‬بعد‭ ‬حذف‭ ‬حرفي‭ ‬الحاء‭ ‬والباء‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الفلاحين‭ ‬الموريسكيين‭ ‬الإسبان‭ ‬الذين‭ ‬ينحدرون‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬عربية‭ ‬إسلامية،‭ ‬والذين‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬ملاك‭ ‬الأراضي‭ ‬خلال‭ ‬الحكم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬للأندلس‭ ‬وجردوا‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬ذلك‭ ‬الحكم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ثرواتهم‭ ‬وممتلكاتهم‭ ‬وتحولوا‭ ‬إلى‭ ‬فلاحين‭ ‬يعملون‭ ‬تحت‭ ‬إمرة‭ ‬الملاك‭ ‬الجدد‭ ‬للأراضي‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬الإسبان،‭ ‬فكان‭ ‬انبثاق‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬يشكل‭ ‬مظهرا‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الرفض‭ ‬والاحتجاج‭ ‬والاستياء‭ ‬والسخط‭ ‬وعن‭ ‬المرارة‭ ‬والألم‭ ‬والغبن‭ ‬والحسرة‭ ‬التي‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬هؤلاء‭ ‬البشر‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬حل‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬تنكيل‭ ‬وقتل‭ ‬ونهب‭ ‬وسلب‭ ‬وإبادة‭ ‬لثقافتهم‭ ‬وهويتهم،‭ ‬ولذلك‭ ‬تتجلى‭ ‬عند‭ ‬أداء‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬بوضوح‭ ‬شحنات‭ ‬الغضب‭ ‬والتذمر‭ ‬والانفعال‭ ‬العاطفي‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬عنها‭ ‬الفنانون،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬مصدرًا‭ ‬ومنبعًا‭ ‬زاخرًا‭ ‬ينضح‭ ‬بالمتعة‭ ‬الفنية‭ ‬الراقية‭ ‬والنبيلة‭ ‬والمؤثرة‭ ‬ويتضمن‭ ‬أغاني‭ ‬وألحان‭ ‬حزينة‭ ‬وأخرى‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬مرح‭. ‬

وتتميز‭ ‬مقدمات‭ ‬أغاني‭ ‬الفلامنكو‭ ‬بالأنّات‭ ‬والآهات‭ ‬ومقاطع‭ ‬صوتية‭ ‬قصيرة‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬أي‭ ‬معنى‭ ‬لغوي‭ ‬محدد،‭ ‬ولكنها‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬تبرز‭ ‬كتعابير‭ ‬عميقة‭ ‬قوية‭ ‬عنيفة‭ ‬مثخنة‭ ‬بالجروح‭ ‬ومثقلة‭ ‬بالمرارة‭ ‬والوجع،‭ ‬وهي‭ ‬قريبة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬للمقاطع‭ ‬الصوتية‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬وتتخلل‭ ‬أغاني‭ ‬الغواصين‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬الخليجية‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬“الفجري”،‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬ترديدها‭ ‬بين‭ ‬مقاطع‭ ‬وأبيات‭ ‬الأغنية‭ ‬لتعبر‭ ‬عن‭ ‬اللوعة‭ ‬والأسى‭ ‬لحالهم‭ ‬ومعاناتهم‭ ‬وأوضاعهم‭ ‬المزرية‭ ‬وظروفهم‭ ‬القاسية،‭ ‬وتتضمن‭ ‬أيضًا‭ ‬المناداة‭ ‬والمناجاة‭ ‬وطلب‭ ‬الغوث‭ ‬والخلاص‭ ‬مما‭ ‬يتعرضون‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬وإجحاف‭ ‬واستغلال‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬تجار‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬فأصبحت‭ ‬تلك‭ ‬الأغاني‭ ‬كالأدوات‭ ‬أو‭ ‬القنوات‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬خطاب‭ ‬النقد‭ ‬السياسي‭ ‬ومطالب‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬ضمن‭ ‬نزوع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفئات‭ ‬والشعوب‭ ‬المغلوبة‭ ‬على‭ ‬أمرها‭ ‬والمقهورة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تذمرها‭ ‬واستيائها‭ ‬وسخطها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭. ‬

ولدرء‭ ‬بطش‭ ‬الكنيسة‭ ‬و“محاكم‭ ‬التفتيش”‭ ‬للموريسكيين‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬أغاني‭ ‬الفلامنكو‭ ‬كانت‭ ‬تتضمن‭ ‬تضرعًا‭ ‬والتماسًا‭ ‬واستعطافًا‭ ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬يتضمن‭ ‬إطراء‭ ‬ومديحًا‭ ‬للكنيسة‭ ‬وللملك‭ ‬بهدف‭ ‬إثبات‭ ‬الولاء‭ ‬للنظام‭ ‬والالتزام‭ ‬والتمسك‭ ‬بالدين‭ ‬المسيحي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أجبروا‭ ‬على‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬واعتناق‭ ‬المسيحية‭. ‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬طُرد‭ ‬الموريسكيين‭ ‬من‭ ‬إسبانيا‭ ‬تلقف‭ ‬الغجر‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬وساهموا‭ ‬في‭ ‬تطويره‭ ‬ووجدوه‭ ‬متماهيًا‭ ‬مع‭ ‬تراثهم‭ ‬ويعبر‭ ‬عن‭ ‬حالهم‭ ‬وما‭ ‬يعانونه‭ ‬من‭ ‬تهميش‭ ‬وكبت،‭ ‬وبذلك‭ ‬فقد‭ ‬استمر‭ ‬وظل‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬متميزًا‭ ‬ومتوشحًا‭ ‬بوشاح‭ ‬الحزن‭ ‬والاكتئاب‭ ‬ومتصديًا‭ ‬للاستبداد‭ ‬والفساد‭ ‬والظلم‭ ‬الاجتماعي‭.‬

في‭ ‬زيارتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬لغرناطة‭ ‬حضرت‭ ‬حفلة‭ ‬مميزة‭ ‬خصصت‭ ‬للتعريف‭ ‬بهذا‭ ‬الفن‭ ‬بمشاركة‭ ‬مترجمين‭ ‬متخصصين‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭ ‬أدى‭ ‬مطرب‭ ‬الفرقة‭ ‬أغنية‭ ‬فيها‭ ‬إطراء‭ ‬وإشادة‭ ‬ومديح‭ ‬بالملك‭ ‬بيدرو‭ ‬العادل‭ ‬ملك‭ ‬قشتالة‭ ‬وليون‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬نظامًا‭ ‬إداريًا‭ ‬مركزيًا‭ ‬قويًا‭ ‬لا‭ ‬سابق‭ ‬له،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬المغني،‭ ‬الذي‭ ‬نقل‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬الأسطورة،‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬بيدرو‭ ‬كان‭ ‬وسيمًا‭ ‬طويل‭ ‬القامة‭ ‬مفتول‭ ‬العضلات،‭ ‬أشقر‭ ‬بعيون‭ ‬زرقاء،‭ ‬مهيب‭ ‬الطلعة،‭ ‬مثقفا‭ ‬وقارئًا‭ ‬نهمًا،‭ ‬مولعا‭ ‬ومحبا‭ ‬للموسيقى‭ ‬والشعر‭ ‬والنساء،‭ ‬لكنه‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬لدغة‭ ‬أو‭ ‬لثغة‭ ‬في‭ ‬نطق‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬ويستبدلها‭ ‬بحرف‭ ‬الثاء،‭ ‬ولم‭ ‬يتمكن‭ ‬هو‭ ‬أو‭ ‬يحاول‭ ‬أو‭ ‬يجرؤ‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬إصلاح‭ ‬نطقه‭.‬

كان‭ ‬الملك‭ ‬بيدرو‭ ‬محبوبًا‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬شعبه‭ ‬ويتمتع‭ ‬بتقدير‭ ‬الناس‭ ‬واحترامهم‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الأغنية،‭ ‬فقرر‭ ‬حكماء‭ ‬الدولة‭ ‬وقادة‭ ‬المجتمع‭ ‬ورؤوسه‭ ‬أن‭ ‬يلغوا‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية‭ ‬ويستبدلوه‭ ‬بحرف‭ ‬الثاء‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬الملك‭ ‬شاذًا‭ ‬أو‭ ‬ذا‭ ‬عاهة‭ ‬أو‭ ‬يشعر‭ ‬بالنقص،‭ ‬ولكي‭ ‬يجنبوه‭ ‬أي‭ ‬حرج‭ ‬أو‭ ‬انتقاد،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تغير‭ ‬نطق‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬علماء‭ ‬اللغة،‭ ‬لذا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬نجد‭ ‬غالبية‭ ‬سكان‭ ‬إسبانيا‭ ‬يقولون‭ ‬برثلونة‭ ‬بالثاء‭ ‬وليس‭ ‬برسلونة‭ ‬بالسين‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تُنطق‭ ‬باللغة‭ ‬الإسبانية‭.‬

وقد‭ ‬اختتم‭ ‬المطرب‭ ‬وصلته‭ ‬الغنائية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭ ‬بهذه‭ ‬الكلمات‭: ‬“من‭ ‬أجل‭ ‬حب‭ ‬الملك‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للانحراف‭ ‬بتراثهم‭ ‬وثقافتهم،‭ ‬نعم‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬الملك‭ ‬بيدرو‭ ‬فقد‭ ‬عوج‭ ‬شعب‭ ‬إسبانيا‭ ‬لسانه”‭!‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الحفل‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬عاملا‭ ‬مشتركا‭ ‬كان‭ ‬يجمعني‭ ‬بالملك‭ ‬بيدرو‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬المراحل؛‭ ‬ففي‭ ‬صباي‭ ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬دراستي‭ ‬التحضيرية‭ ‬والابتدائية‭ ‬كنت‭ ‬ألدغ‭ ‬أو‭ ‬ألثغ‭ ‬مثل‭ ‬الملك‭ ‬بيدرو،‭ ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تشويه‭ ‬في‭ ‬نطق‭ ‬الحروف‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬وضوح‭ ‬الكلام،‭ ‬وكانت‭ ‬منتشرة‭ ‬بين‭ ‬الصغار‭ ‬والكبار‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

مثل‭ ‬الملك‭ ‬بيدرو‭ ‬كنت‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬لفظ‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬وأَستبدله‭ ‬بحرف‭ ‬الثاء،‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬والدتي‭ (‬رحمها‭ ‬الله‭) ‬بتدريسي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الخامسة،‭ ‬وحاولت‭ ‬جاهدة‭ ‬تصحيح‭ ‬نطقي،‭ ‬وكعادة‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬استخدمت‭ ‬أشد‭ ‬وأقسى‭ ‬الوسائل،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الضرب‭ ‬بعصا‭ ‬الخيزران‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬بل‭ ‬بالعكس‭ ‬فقد‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬العقدة‭ ‬وتثبيتها‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬علماء‭ ‬التربية‭ ‬وخبراء‭ ‬التعليم‭ ‬وعلماء‭ ‬النفس‭ ‬وحتى‭ ‬أساتذة‭ ‬السياسة،‭ ‬فكلهم‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬الشدة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬المفرطة،‭ ‬لا‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الأغراض‭ ‬والأهداف‭ ‬المبتغاة‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تأتي‭ ‬بنتائج‭ ‬عكسية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يئست‭ ‬والدتي‭ ‬وفقدت‭ ‬الأمل‭ ‬وتركتني‭ ‬على‭ ‬علتي‭ ‬حتى‭ ‬أتممت‭ ‬حفظ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬عند‭ ‬بلوغي‭ ‬التاسعة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اجتزت‭ ‬صراعًا‭ ‬مضنيًا‭ ‬مع‭ ‬نص‭ ‬قدسي‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الإعجاز‭ ‬والبلاغة‭ ‬تكرر‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬فيه‭ ‬6013‭ ‬مرة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬3423‭ ‬آية،‭ ‬فكنت‭ ‬أنطق‭ ‬الاسم‭ ‬“اثمًا”‭ ‬وأصبحت‭ ‬سورة‭ ‬الإسراء‭ ‬“ثورة‭ ‬الإثراء”،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أنبياء‭ ‬الله‭ ‬“عيثى‭ ‬وموثى‭ ‬وإثماعيل‭ ‬ويوثف‭ ‬وإثحاق‭ ‬وثليمان”‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وكانت‭ ‬قراءة‭ ‬سورة‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬“ثورة‭ ‬الناث”‭ ‬كابوسا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬وهي‭ ‬آخر‭ ‬سورة‭ ‬من‭ ‬سور‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭: ‬“بِسْمِ‭ ‬اللّهِ‭ ‬الرَّحْمَنِ‭ ‬الرَّحِيمِ،‭ ‬قُلْ‭ ‬أَعُوذُ‭ ‬بِرَبِّ‭ ‬النَّاس،‭ ‬مَلِكِ‭ ‬النَّاس،‭ ‬إِلَهِ‭ ‬النَّاس،‭ ‬مِن‭ ‬شَرِّ‭ ‬الْوَسْوَاسِ‭ ‬الْخَنَّاس،‭ ‬الَّذِي‭ ‬يُوَسْوِسُ‭ ‬فِي‭ ‬صُدُورِ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْجِنَّةِ‭ ‬وَالنَّاس”‭. ‬ولكم‭ ‬أن‭ ‬تتصوروا‭ ‬كيف‭ ‬أصبحت‭ ‬تلاوة‭ ‬هذه‭ ‬السورة‭ ‬بعد‭ ‬تغيير‭ ‬كل‭ ‬أحرف‭ ‬السين‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬ثاء،‭ ‬أما‭ ‬سورة‭ ‬الكوثر‭ ‬فهي‭ ‬الأسهل‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬فهي‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬حرف‭ ‬سين‭.‬

في‭ ‬مرحلة‭ ‬دراستي‭ ‬الابتدائية‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الغربية‭ ‬بالمنامة‭ ‬التي‭ ‬أصبح‭ ‬اسمها‭ ‬الآن‭ ‬“مدرسة‭ ‬أبوبكر‭ ‬الصديق”‭ ‬كان‭ ‬مدرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬فصلنا‭ ‬رجلا‭ ‬فاضلا‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬اسمه‭ ‬الأستاذ‭ ‬مصطفى،‭ ‬ولا‭ ‬أتذكر‭ ‬الآن‭ ‬اسمه‭ ‬الكامل،‭ ‬وكان‭ ‬أستاذًا‭ ‬متمكنًا‭ ‬ومدرسًا‭ ‬حازمًا‭ ‬شديدًا‭ ‬صارمًا‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬تدريسه،‭ ‬يلجأ‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬معاقبة‭ ‬الطالب‭ ‬المخطئ‭ ‬أو‭ ‬المقصر‭ ‬بالضرب‭ ‬بالعصا‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬يديه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬كل‭ ‬المدرسين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬العقاب‭ ‬بالضرب‭ ‬يعتبر‭ ‬أفضل‭ ‬وسيلة‭ ‬للإصلاح‭ ‬والتربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬لكن‭ ‬الأستاذ‭ ‬مصطفى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعاقبني‭ ‬بالضرب‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أخطئ‭ ‬أو‭ ‬أقصر،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أردد‭ ‬بيتا‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬معروف‭ ‬الرصافي‭ ‬المعنونة‭ ‬“تذكرت‭ ‬في‭ ‬أوطاني‭ ‬الأهلَ‭ ‬والصحبا”‭ ‬وكان‭ ‬البيت‭ ‬مكتظا‭ ‬بحرف‭ ‬السين‭ ‬وهو‭: ‬

تساوى‭ ‬لديها‭ ‬السهل‭ ‬والصعب‭ ‬في‭ ‬السرى‭... ‬فما‭ ‬استسهلت‭ ‬سهلًا‭ ‬ولا‭ ‬استصعبت‭ ‬صعبا‭.‬

فكان‭ ‬الأستاذ‭ ‬مصطفى‭ ‬يكتفي‭ ‬بالاستمتاع‭ ‬والضحك‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬وطريقة‭ ‬لفظي‭ ‬وإلقائي‭ ‬للبيت‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬استبدل‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬بحرف‭ ‬الثاء،‭ ‬وكان‭ ‬زملائي‭ ‬الطلبة‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬يغبطونني‭ ‬ويحسدونني‭ ‬على‭ ‬تمكني‭ ‬من‭ ‬تجنب‭ ‬العقاب‭ ‬بالضرب‭ ‬ويتمنون‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬المشكلة‭ ‬ذاتها‭.‬

لكنني‭ ‬كنت‭ ‬متضايقًا‭ ‬ومهمومًا‭ ‬وقلقًا‭ ‬ومحرجًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬وقد‭ ‬ازداد‭ ‬همي‭ ‬وقلقي‭ ‬عندما‭ ‬علمت‭ ‬أنه‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬فقهاء‭ ‬المسلمين‭ ‬لا‭ ‬تجوز‭ ‬إمامة‭ ‬الرجل‭ ‬الألدغ،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يُحرَم‭ ‬من‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الوظائف‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬نُطقًا‭ ‬صحيحًا،‭ ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬أعالج‭ ‬هذا‭ ‬الخلل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬كانت‭ ‬انحراف‭ ‬أسناني‭ ‬عن‭ ‬وضعها‭ ‬وعدم‭ ‬وضع‭ ‬لساني‭ ‬في‭ ‬موضعه‭ ‬الصحيح‭ ‬عند‭ ‬نطق‭ ‬هذا‭ ‬الحرف،‭ ‬وقد‭ ‬نجحت‭ ‬بعد‭ ‬محاولات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬المشكلة‭ ‬وزالت‭ ‬العقدة‭ ‬وأصبحت‭ ‬ألفظ‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬بالنطق‭ ‬الصحيح‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬يتم‭ ‬نطقه‭ ‬صحيحًا‭ ‬سليمًا‭ ‬عندما‭ ‬تلتقي‭ ‬مقدمة‭ ‬اللسان‭ ‬مع‭ ‬الحافة‭ ‬العليا‭ ‬للثة‭ ‬خلف‭ ‬الأسنان‭ ‬العلوية،‭ ‬أما‭ ‬حرف‭ ‬الثاء‭ ‬فيتم‭ ‬لفظه‭ ‬عندما‭ ‬تلتقي‭ ‬مقدمة‭ ‬اللسان‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬مع‭ ‬أطراف‭ ‬الأسنان‭ ‬العلوية‭.‬

في‭ ‬حصة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وأمام‭ ‬الأستاذ‭ ‬مصطفى‭ ‬أخفيت‭ ‬حقيقة‭ ‬تمكني‭ ‬من‭ ‬لفظ‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬بالنطق‭ ‬الصحيح‭ ‬أو‭ ‬بالشكل‭ ‬الصحيح‭ ‬ولم‭ ‬أبح‭ ‬أو‭ ‬أفصح‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬تجنبًا‭ ‬وخوفًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يضربني‭ ‬الأستاذ‭ ‬مصطفى‭ ‬بالعصا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ارتكابي‭ ‬لأي‭ ‬خطأ‭ ‬أو‭ ‬تقصير،‭ ‬وفضلت‭ ‬بدلًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬بيت‭ ‬شعر‭ ‬معروف‭ ‬الرصافي‭ ‬باللدغة‭ ‬أو‭ ‬اللثغة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمتع‭ ‬الأستاذ‭ ‬مصطفى‭ ‬وتجعله‭ ‬يكتفي‭ ‬بها‭ ‬عوضًا‭ ‬عن‭ ‬ضربي‭ ‬بالعصا‭.‬

العبرة‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬المحرجة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافه‭ ‬ومراميه‭ ‬المشروعة‭ ‬إذا‭ ‬حاول‭ ‬واجتهد،‭ ‬وأن‭ ‬الملك‭ ‬بيدرو‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬صدق‭ ‬ما‭ ‬رواه‭ ‬المطرب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عدله‭ ‬وشجاعته‭ ‬وقوته‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬تنقصه‭ ‬الإرادة‭ ‬والعزيمة‭ ‬والتصميم‭. ‬

وشكرًا‭ ‬للأستاذ‭ ‬مصطفى‭ ‬ورحمه‭ ‬الله‭ ‬حيًا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬ميتًا‭.‬