وَخْـزَةُ حُب

أنا أشك... إذا أنا مُنهك!

| د. زهرة حرم

قد‭ ‬تدل‭ ‬حالة‭ ‬الشك‭ ‬على‭ ‬التفكير؛‭ ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الفيلسوف‭ ‬ديكارت،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬التفكير‭ ‬المُتعِب،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬وجودك‭ ‬بالمعنى‭ ‬الإيجابي‭ - ‬في‭ ‬المطلق‭- ‬بل‭ ‬على‭ ‬المعنى‭ ‬النقيض؛‭ ‬حيث‭ ‬التفكير‭ ‬المزعج،‭ ‬غير‭ ‬المريح،‭ ‬والذي‭ ‬تتقلقل‭ ‬فيه‭ ‬الروح،‭ ‬وتُحرم‭ ‬من‭ ‬استقرارها‭ ‬وسكينتها‭! ‬الشك‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬الذي‭ ‬يُخلخل‭ ‬الثوابت،‭ ‬ويدّك‭ ‬أعمدة‭ ‬اليقينيات‭ ‬والمعتقدات،‭ ‬وحين‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة؛‭ ‬بحيث‭ ‬يستبدل‭ ‬بشكه‭ ‬يقينًا؛‭ ‬فإنه‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬هذا‭ ‬الشك؛‭ ‬تطحن‭ ‬فيه‭ ‬طحن‭ ‬الرحى،‭ ‬وتنهش‭ ‬في‭ ‬روحه‭ ‬التي‭ ‬تغدو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تعليق‭ ‬دائم؛‭ ‬لا‭ ‬هي‭ ‬رضيت‭ ‬بالموجود،‭ ‬ولا‭ ‬أوجدت‭ ‬غيره‭ ‬واستكانت‭ ‬أو‭ ‬استراحت‭!‬

كثيرون‭ ‬يعيشون‭ - ‬هذه‭ ‬الأيام‭ - ‬حالات‭ ‬من‭ ‬الشكوك‭: ‬في‭ ‬المعتقد،‭ ‬في‭ ‬العُرف،‭ ‬في‭ ‬التقاليد،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬التوجهات،‭ ‬والنظريات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وهي‭ ‬حالات‭ ‬ظاهرها‭ ‬الرحمة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬باطنها‭ ‬يختزن‭ ‬عذابا‭ ‬روحيا‭ ‬شديدا؛‭ ‬فهي‭ - ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬الشكلي‭ - ‬تدل‭ ‬على‭ ‬إعمال‭ ‬الفكر،‭ ‬والمرونة،‭ ‬وعدم‭ ‬الانصياع‭ ‬للجامد‭ ‬القديم،‭ ‬أو‭ ‬الجاهز‭ ‬الذي‭ ‬يُشكل‭ ‬حصيلة‭ ‬فكر‭ ‬الآخرين،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬هلاك‭ ‬صاحبها‭ - ‬معنويًا‭ - ‬فهو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬لشق‭ ‬عصا‭ ‬جماعته‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬عاجز‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬بلوغ‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭! ‬وهكذا‭ ‬يقوده‭ ‬شكه‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬كبير،‭ ‬وتيه‭ ‬بعد‭ ‬تيه،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬وسط‭ ‬سراب،‭ ‬وحالة‭ ‬عطش‭ ‬مستمرة‭!‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬التسليم‭ ‬بأي‭ ‬شيء،‭ ‬وليكن‭ ‬المعتقد‭ ‬مثالا؛‭ ‬سلامة‭ ‬للنفس‭ ‬والروح،‭ ‬وصكّ‭ ‬قبول‭ ‬بين‭ ‬الجماعة‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭ ‬الواحد‭ ‬منا؛‭ ‬فشعور‭ ‬الرفض‭ ‬مؤلم‭ ‬ومُوجع،‭ ‬ويعني‭ ‬فيما‭ ‬يعني‭ ‬قطع‭ ‬الجذور،‭ ‬أو‭ ‬بتر‭ ‬العلاقة‭ ‬بهذه‭ ‬الجماعة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم؛‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الاغتراب،‭ ‬أو‭ ‬النفي‭ ‬والإبعاد،‭ ‬وعيش‭ ‬الوحدة،‭ ‬والفراغ‭ ‬الروحي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يقتل‭ ‬أي‭ ‬آدمي؛‭ ‬بوصفه‭ ‬كائنا‭ ‬اجتماعيا،‭ ‬ينمو‭ ‬ويترعرع‭ ‬ويسمو‭ ‬ويتقدم‭ ‬وسط‭ ‬جماعته،‭ ‬لا‭ ‬خارجها‭!‬

وفي‭ ‬الواقع؛‭ ‬إن‭ ‬أكثر‭ (‬الشكاكين‭)‬؛‭ ‬يدركون‭ ‬جيدا‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لذلك؛‭ ‬فإنهم‭ ‬يتسترون‭ ‬على‭ ‬حالات‭ ‬شكوكهم،‭ ‬ويحتفظون‭ ‬بها‭ ‬لأنفسهم،‭ ‬فإذا‭ ‬أعلنوها؛‭ ‬فلفئة‭ ‬قليلة‭ ‬جدا؛‭ ‬ممن‭ ‬يثقون‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬لمن‭ ‬يُماثلهم‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ (‬الشكيّة‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬قلق‭ ‬وخوف؛‭ ‬خشية‭ ‬افتضاح‭ ‬أمر‭ ‬خروجهم‭ ‬عن‭ ‬سراط‭ ‬الجماعة‭ ‬وتقاليدها،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يقوون‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬أوزاره‭ ‬أو‭ ‬تبعاته‭!‬

في‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬يندر‭ ‬وجود‭ (‬الشكاكين‭) ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الجرأة؛‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يجاهرون‭ ‬بالرفض‭ ‬أو‭ ‬اهتزاز‭ ‬اليقينيات‭ ‬على‭ ‬الملأ،‭ ‬وإنْ‭ ‬وُجدوا؛‭ ‬تراهم‭ ‬مذمومين،‭ ‬ملعونين،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬شكهم‭ ‬صحيحا‭ ‬منطقيا‭ ‬أو‭ ‬عقليا‭ ‬أو‭ ‬قاد‭ ‬إلى‭ ‬نظرية‭ ‬تحمل‭ ‬حقائق‭ ‬معينة‭! (‬أنا‭ ‬أشك‭ ‬يا‭ ‬ديكارت‭ ‬تعني‭ ‬اليوم‭: ‬أنا‭ ‬خارج‭ ‬الجماعة‭! ‬وتفكيري‭ - ‬بعيدا‭ ‬عنهم‭ - ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه،‭ ‬وشكّي‭ ‬انزياح‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬الجمعي،‭ ‬وانتهاء‭ ‬لوجودي‭ ‬وليس‭ ‬إثباتًا‭ ‬له‭)!.‬