إحياء ذكرى عاشوراء في البحرين... شهادة ورأي

| عبدالنبي الشعلة

نقف‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬العزيزة‭ ‬علينا‭ ‬جميعًا،‭ ‬والمستقرة‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬ووجداننا؛‭ ‬لنسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق‭ ‬والمعلومات‭ ‬الموثقة‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬أنّ‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬كانوا،‭ ‬وما‭ ‬يزالون،‭ ‬يتمتعون‭ ‬بحرية‭ ‬كاملة،‭ ‬ليست‭ ‬منقوصة،‭ ‬لتأدية‭ ‬وممارسة‭ ‬شعائرهم‭ ‬الدينية؛‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬توضيح‭ ‬بعض‭ ‬جوانب‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬والمساهمة‭ ‬المتواضعة‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الأخوة‭ ‬واللحمة‭ ‬والوحدة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وترسيخ‭ ‬مكانة‭ ‬البحرين‭ ‬نموذجًا‭ ‬ومنارة‭ ‬للحرية‭ ‬الدينية‭ ‬والتعايش‭ ‬والتسامح‭.‬

إن‭ ‬أُمّ‭ ‬هذه‭ ‬الحقائق‭ ‬وأولها‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬البحرينيين‭ ‬يعتزون‭ ‬ويفخرون‭ ‬عندما‭ ‬تُحيي‭ ‬بلادهم‭ ‬رسميًا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬وعلى‭ ‬مرّ‭ ‬السنين،‭ ‬ذكرى‭ ‬كارثة‭ ‬عاشوراء‭ ‬المفجعة،‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬1400‭ ‬سنة،‭ ‬والتي‭ ‬استشهد‭ ‬فيها‭ ‬صفوة‭ ‬من‭ ‬آل‭ ‬بيت‭ ‬المصطفى‭ ‬عليه‭ ‬أفضل‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬سبطه‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬أصحابه،‭ ‬والتي‭ ‬يحزن‭ ‬ويتألم‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬المسلمين،‭ ‬وليس‭ ‬شيعتهم‭ ‬فقط‭ ‬كما‭ ‬يحاول‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬يدَّعي،‭ ‬فالمسلمون‭ ‬جميعًا‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬المرير‭ ‬بكل‭ ‬الأسى‭ ‬واللوعة،‭ ‬ويعتبرونه‭ ‬صفحة‭ ‬سوداء‭ ‬في‭ ‬تاريخهم،‭ ‬حيث‭ ‬تجسدت‭ ‬فيه‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أبشع‭ ‬صور‭ ‬القسوة‭ ‬والظلم‭ ‬والعنف‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسانية‭.‬

ولعلَّ‭ ‬كثيرين‭ ‬لا‭ ‬يعلمون‭ ‬أن‭ ‬البحرين‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬بلد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كثافة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لعدد‭ ‬المآتم‭ ‬والحسينيات‭ ‬مقارنة‭ ‬بمساحتها‭ ‬وعدد‭ ‬سكانها،‭ ‬إذ‭ ‬يبلغ‭ ‬عدد‭ ‬المسجلين‭ ‬وغير‭ ‬المسجلين‭ ‬منها‭ ‬1500‭ ‬مأتم،‭ ‬بحسب‭ ‬أكثر‭ ‬المصادر‭ ‬تحفظًا،‭ ‬شُيد‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬منها،‭ ‬وأكاد‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬وأجزم‭ ‬90‭ % ‬منها،‭ ‬بعد‭ ‬تولي‭ ‬أسرة‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬الكرام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العام‭ ‬1783م،‭ ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬البحريني‭ ‬عبدالله‭ ‬سيف‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“المآتم‭ ‬في‭ ‬البحرين”‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1995م‭ ‬أنه‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬3500‭ ‬مأتم‭ ‬في‭ ‬البحرين‭.‬

ويوجد‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬كذلك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬750‭ ‬مسجدًا‭ ‬للشيعة‭ ‬مقارنة‭ ‬بـ‭ ‬596‭ ‬مسجدًا‭ ‬للسنة،‭ ‬بحسب‭ ‬سجلات‭ ‬إدارتي‭ ‬الأوقاف‭ ‬السنية‭ ‬والجعفرية‭.‬

والبحرين‭ ‬هي‭ ‬الدولة‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬يومي‭ ‬التاسع‭ ‬والعاشر‭ ‬من‭ ‬محرم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬عطلة‭ ‬رسمية‭ ‬للعاملين‭ ‬كافة،‭ ‬البحرينيين‭ ‬منهم‭ ‬والأجانب،‭ ‬والمسلمين‭ ‬وغيرهم،‭ ‬في‭ ‬القطاعين‭ ‬العام‭ ‬والخاص،‭ ‬وفي‭ ‬باقي‭ ‬مرافق‭ ‬الخدمات‭ ‬الأخرى،‭ ‬فتُغلق‭ ‬الوزارات‭ ‬والدوائر‭ ‬وكل‭ ‬المؤسسات‭ ‬والمحلات‭ ‬والمصارف‭ ‬والمصانع‭ ‬والأسواق،‭ ‬وتتوقف‭ ‬الحركة‭ ‬التجارية‭ ‬وعجلة‭ ‬الإنتاج‭.‬

وحتى‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬الكارثة،‭ ‬ويرقد‭ ‬فيه‭ ‬شهداء‭ ‬المعركة،‭ ‬ويزور‭ ‬عتباته‭ ‬المقدسة‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الشيعة‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬وتحكمه‭ ‬الآن‭ ‬حكومة‭ ‬شيعية،‭ ‬فإنّ‭ ‬الدولة‭ ‬العراقية‭ ‬تمنح‭ ‬يوما‭ ‬واحدا‭ ‬فقط،‭ ‬وهو‭ ‬يوم‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬محرم‭ ‬عطلة‭ ‬رسمية‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كثافة‭ ‬الوجود‭ ‬الشيعي‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وسيطرة‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬الشيعي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المفاصل‭ ‬فيها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬اللبنانية‭ ‬تمنح‭ ‬يوم‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬محرم‭ ‬فقط‭ ‬عطلة‭ ‬رسمية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬تمنح‭ ‬عطلا‭ ‬رسمية‭ ‬كثيرة‭ ‬لمناسبات‭ ‬دينية‭ ‬لباقي‭ ‬الأديان‭ ‬والطوائف،‭ ‬مثل‭ ‬عطلة‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭ ‬عند‭ ‬الطوائف‭ ‬الأرمنية‭ ‬والأرثوذكسية،‭ ‬وعطلة‭ ‬أخرى‭ ‬لعيد‭ ‬ميلاد‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭ ‬عند‭ ‬الطوائف‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬وعطلة‭ ‬عيد‭ ‬مار‭ ‬مارون،‭ ‬وعطلة‭ ‬عيد‭ ‬البشارة،‭ ‬وعطلة‭ ‬عيد‭ ‬انتقال‭ ‬السيدة‭ ‬العذراء،‭ ‬وعطلة‭ ‬جمعة‭ ‬الأم‭ ‬عند‭ ‬الطوائف‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬وعطلة‭ ‬أخرى‭ ‬لجمعة‭ ‬الأم‭ ‬عند‭ ‬الطوائف‭ ‬الأرمنية‭ ‬والأرثوذكسية،‭ ‬وعطلة‭ ‬عيد‭ ‬القيامة‭ ‬وغيرها‭.‬

وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية‭ ‬قاطبة‭ ‬والعالم‭ ‬بأسره،‭ ‬فإنّ‭ ‬البحرين‭ ‬تبرز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬كدولة‭ ‬لا‭ ‬تماثلها‭ ‬أو‭ ‬تجاريها‭ ‬إلا‭ ‬إيران‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬عطلة‭ ‬رسمية‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬عاشوراء‭ ‬مدتها‭ ‬يومين،‭ ‬ولعل‭ ‬مرد‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬المقتضيات‭ ‬التي‭ ‬يفرضها‭ ‬دستورها‭ ‬الذي‭ ‬تنص‭ ‬المادة‭ ‬12‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬“الدين‭ ‬الرسمي‭ ‬لإيران‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭ ‬والمذهب‭ ‬الجعفري‭ ‬الاثني‭ ‬عشري،‭ ‬وهذه‭ ‬المادة‭ ‬تبقى‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للتغيير”‭.‬

نعم‭ ‬يفتخر‭ ‬البحرينيون‭ ‬ويعتزون‭ ‬بتخليد‭ ‬بلادهم‭ ‬لذكرى‭ ‬عاشوراء‭ ‬ويعتبرون‭ ‬ذلك‭ ‬ظاهرة‭ ‬إيجابية‭ ‬ناصعة‭ ‬وانعكاسًا‭ ‬ساطعًا‭ ‬لالتزام‭ ‬المجتمع‭ ‬البحريني‭ ‬برمته‭ ‬بقيم‭ ‬التعايش‭ ‬والتسامح‭ ‬وقبول‭ ‬الآخر‭.‬

وفي‭ ‬العهد‭ ‬الزاهر‭ ‬لآل‭ ‬خليفة،‭ ‬الذين‭ ‬تنتمي‭ ‬أسرتهم‭ ‬إلى‭ ‬المذهب‭ ‬المالكي‭ ‬الكريم،‭ ‬فإن‭ ‬الدولة‭ ‬كانت‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬ترعى‭ ‬وتحتضن‭ ‬مناسبة‭ ‬عاشوراء‭ ‬وتُوجه‭ ‬مؤسساتها‭ ‬المعنية‭ ‬لتقديم‭ ‬أفضل‭ ‬خدماتها‭ ‬للمشاركين‭ ‬في‭ ‬تأدية‭ ‬شعائرها،‭ ‬فيتم‭ ‬تجنيد‭ ‬قوى‭ ‬الأمن‭ ‬لتنظيم‭ ‬الحركة‭ ‬المرورية‭ ‬وتوفير‭ ‬الحراسة‭ ‬الأمنية،‭ ‬وتباشر‭ ‬البلديات‭ ‬تكثيف‭ ‬عمليات‭ ‬التنظيف‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬تقام‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬الشعائر،‭ ‬وتحرص‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الخدمات‭ ‬الطبية‭ ‬ووضع‭ ‬إمكانات‭ ‬وخدمات‭ ‬الطوارئ‭ ‬تحت‭ ‬أهبة‭ ‬الاستعداد،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأطقم‭ ‬الطبية‭ ‬وسيارات‭ ‬الإسعاف،‭ ‬وتُوضع‭ ‬فرق‭ ‬الإطفاء‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬استنفار؛‭ ‬لمواجهة‭ ‬أي‭ ‬طارئ‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬العناية‭ ‬والرعاية‭ ‬والاهتمام‭.‬

ومن‭ ‬المآتم‭ ‬وخلال‭ ‬أيام‭ ‬وليالي‭ ‬عاشوراء‭ ‬تنطلق‭ ‬المسيرات‭ ‬ومواكب‭ ‬العزاء‭ ‬إلى‭ ‬الطرقات‭ ‬والشوارع‭ ‬الرئيسة‭ ‬بكل‭ ‬حرية،‭ ‬وحسب‭ ‬ما‭ ‬يختاره‭ ‬ويقرره‭ ‬منظموها‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اعتراض‭ ‬أو‭ ‬تدخل‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬أجهزتها‭ ‬المعنية‭ ‬تتكفل‭ ‬بتسهيل‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬البحرينيين‭ ‬أو‭ ‬المقيمين‭ ‬يبدي‭ ‬أي‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬التذمر‭ ‬أو‭ ‬الاستياء؛‭ ‬لما‭ ‬قد‭ ‬يسببه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬عرقلة‭ ‬وإرباك‭ ‬للحركة‭ ‬المرورية‭ ‬وتعطيل‭ ‬لمصالح‭ ‬الآخرين‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬محاولات‭ ‬تسييس‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬قيام‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1979‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأشقاء‭ ‬من‭ ‬أتباع‭ ‬مذهب‭ ‬أهل‭ ‬السنة‭ ‬والجماعة‭ (‬السنة‭) ‬يأتون‭ ‬لمشاهدة‭ ‬المسيرات‭ ‬والمواكب‭ ‬ويشاركون‭ ‬دون‭ ‬حرج‭ ‬أو‭ ‬حساسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬ويدخلون‭ ‬المآتم‭ ‬ويحضرون‭ ‬مجالس‭ ‬العزاء‭.‬

وفي‭ ‬خمسينات‭ ‬وستينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬كنا‭ ‬كصبية‭ ‬نرى‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬الحاكمة‭ ‬يأتون‭ ‬إلى‭ ‬المآتم‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تقديرهم‭ ‬ومواساتهم،‭ ‬وعلمت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬عندما‭ ‬سمعتها‭ ‬مباشرة‭ ‬ولمرات‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الموقر،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬والده‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬صاحب‭ ‬العظمة‭ ‬الشيخ‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬حاكمًا‭ ‬للبلاد‭ ‬كان‭ ‬يحضه‭ ‬ويحض‭ ‬إخوته‭ ‬على‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬المناسبة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬مشاركتهم‭ ‬ومواساتهم‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬قادرًا‭ ‬وقتها‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬أو‭ ‬تحديد‭ ‬أو‭ ‬تمييز‭ ‬الوجوه،‭ ‬لكنني‭ ‬رأيت‭ ‬بأم‭ ‬عيني‭ ‬في‭ ‬المنامة‭ ‬وأنا‭ ‬صبي‭ ‬صغير‭ ‬نفرا‭ ‬من‭ ‬“الشيوخ”‭ ‬يرتدون‭ ‬ملابس‭ ‬مميزة‭ ‬ويقفون‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬القديم‭ ‬للمرحوم‭ ‬حسين‭ ‬يتيم،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬عند‭ ‬تقاطع‭ ‬طريقين‭ ‬بين‭ ‬زوايا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تسمى‭ ‬سابقًا‭ ‬“أرض‭ ‬الباخشة”‭ ‬أو‭ ‬مدرسة‭ ‬الزهراء‭ ‬لاحقًا،‭ ‬ومدرسة‭ ‬العجم،‭ ‬ومحطة‭ ‬إطفاء‭ ‬الحريق،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تخني‭ ‬الذاكرة،‭ ‬كان‭ ‬يقال‭ ‬لنا‭ ‬إنهم‭ - ‬أي‭ ‬الشيوخ‭ - ‬جاؤوا‭ ‬للمشاركة‭ ‬ومشاهدة‭ ‬مواكب‭ ‬العزاء‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬في‭ ‬عاشوراء‭ ‬لم‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬عبور‭ ‬الشارع‭ ‬المقابل‭ ‬لمأتم‭ ‬القصاب‭ ‬بسهولة،‭ ‬وقيل‭ ‬لنا‭ ‬إنّ‭ ‬أبناء‭ ‬الحاكم‭ ‬جاؤوا‭ ‬للمشاركة‭ ‬وكانوا‭ ‬جالسين‭ ‬داخل‭ ‬المأتم‭ ‬برفقة‭ ‬المرحوم‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬العلوي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬وقتها‭ ‬ومن‭ ‬وجهاء‭ ‬الشيعة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭.‬

يذكر‭ ‬ويكرر‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬أمام‭ ‬زوار‭ ‬مجلسه‭ ‬العامر،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬شبابه‭ ‬بعض‭ ‬رؤساء‭ ‬المآتم‭ ‬يفدون‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬والده‭ ‬الحاكم‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬الشيخ‭ ‬سلمان‭ ‬في‭ ‬القضيبية‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬شهر‭ ‬محرم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ليشكروه‭ ‬على‭ ‬اهتمامه‭ ‬ورعايته،‭ ‬ويطلبوا‭ ‬منه‭ ‬كعادة‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬تزويدهم‭ ‬وإعارتهم‭ ‬القدور‭ ‬الكبيرة‭ ‬لطبخ‭ ‬الولائم‭ ‬للمعزين‭ ‬وعددا‭ ‬من‭ ‬الخيول‭ ‬لاستخدامها‭ ‬في‭ ‬مواكب‭ ‬العزاء،‭ ‬وعددا‭ ‬من‭ ‬السيوف‭ ‬لاستخدامها‭ ‬لتزيين‭ ‬الخيول‭ ‬ولأداء‭ ‬عادة‭ ‬“التطبير”،‭ ‬فكان‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬يوفر‭ ‬لهم‭ ‬كل‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يطلبونه،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬السيوف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬مواكب‭ ‬العزاء‭ ‬لأداء‭ ‬“التطبير”‭ ‬أو‭ ‬“ضرب‭ ‬القامة”،‭ ‬وهي‭ ‬عادة‭ ‬يمارسها‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬مواسم‭ ‬العزاء‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬ضرب‭ ‬وجرح‭ ‬الرؤوس‭ ‬والجباه‭ ‬بالسيوف‭ ‬لإسالة‭ ‬الدماء‭ ‬تعبيرًا،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم،‭ ‬عن‭ ‬مواساتهم‭ ‬لما‭ ‬أصاب‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬من‭ ‬أذى‭ ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬1400‭ ‬عام،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يدور‭ ‬بين‭ ‬فقهاء‭ ‬وعلماء‭ ‬الشيعة‭ ‬بشأن‭ ‬تحريم‭ ‬وعدم‭ ‬جواز‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬العادة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬حكام‭ ‬البحرين‭ ‬يتجنبون‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف‭ ‬أو‭ ‬الجدل؛‭ ‬تقديرًا‭ ‬واحترامًا‭ ‬منهم‭ ‬لحرية‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬لممارسة‭ ‬شعائره‭ ‬وطقوسه‭ ‬الدينية‭ ‬حسب‭ ‬اعتقاده‭ ‬وقناعته‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬التعدي‭ ‬على‭ ‬حريات‭ ‬الآخرين‭ ‬وحقوقهم‭ ‬أو‭ ‬الإضرار‭ ‬أو‭ ‬المساس‭ ‬بمعتقداتهم‭ ‬أو‭ ‬مقدساتهم‭ ‬أو‭ ‬رموزهم،‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬صاحب‭ ‬الجلالة‭ ‬الملك‭ ‬المفدى‭ ‬حمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه‭ ‬سائرًا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬وملتزمًا‭ ‬بذات‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬التي‭ ‬سنها‭ ‬وأرساها‭ ‬آباؤه‭ ‬وأجداده،‭ ‬فجلالته‭ ‬وصاحب‭ ‬السمو‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬يحرصان‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬الاجتماع‭ ‬برؤساء‭ ‬المآتم‭ ‬والمعنيين‭ ‬بشؤون‭ ‬المواكب‭ ‬الحسينية‭ ‬للاستفسار‭ ‬عن‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬ومتطلباتهم‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إصدار‭ ‬أوامرهما‭ ‬للجهات‭ ‬المعنية‭ ‬لتوفيرها،‭ ‬كما‭ ‬يحرصان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الاجتماعات‭ ‬على‭ ‬تأكيد‭ ‬قدسية‭ ‬ونقاء‭ ‬المناسبة‭ ‬وضرورة‭ ‬صونها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الشوائب‭ ‬والمنغصات‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬وجريًا‭ ‬على‭ ‬عادة‭ ‬جلالته‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬الديوان‭ ‬الملكي‭ ‬قبل‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬بتوزيع‭ ‬المنحة‭ ‬الملكية‭ ‬السنوية‭ ‬للجمعيات‭ ‬الخيرية‭ ‬والمآتم‭ ‬الحسينية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إدارتي‭ ‬الأوقاف‭ ‬السنية‭ ‬والجعفرية‭.‬

أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أختم‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬بالتأكيد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬والشهادة‭ ‬أن‭ ‬قيادتنا‭ ‬الرشيدة‭ ‬تحرص‭ ‬كل‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الشيعة‭ ‬لشعائرهم‭ ‬الدينية‭ ‬بحرية‭ ‬كاملة،‭ ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬وترسخ‭ ‬كأحد‭ ‬أهم‭ ‬أركان‭ ‬سياستها،‭ ‬وأن‭ ‬هناك‭ ‬إجماعا‭ ‬واتفاقا‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬توافر‭ ‬الحرية‭ ‬الدينية‭ ‬لكل‭ ‬الطوائف‭ ‬والمذاهب‭ ‬والأديان‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬المذهب‭ ‬الشيعي‭.‬

حفظ‭ ‬الله‭ ‬البحرين‭ ‬وقيادتها‭ ‬وشعبها‭ ‬وأدام‭ ‬عليها‭ ‬نعمة‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬وحدة‭ ‬وطنية‭ ‬وتعايش‭ ‬ومحبة‭ ‬واحترام‭ ‬متبادل‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬وشرائح‭ ‬مجتمعها‭ ‬كافة‭.‬