وَخْـزَةُ حُب

قد تتفذلك عقولنا علينا!

| د. زهرة حرم

عقل‭ ‬الإنسان‭ ‬مُركَّب‭ ‬بشكل‭ ‬ذكي‭ ‬جدا؛‭ ‬فهو‭ ‬مُجهّز‭ ‬لاستقبال‭ ‬كميات‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬والمفاهيم‭ ‬والتصورات‭ ‬والقيم،‭ ‬بدءا‭ ‬بمراحل‭ ‬الإنسان‭ ‬المبكرة‭ ‬وانتهاء‭ ‬بآخرها‭! ‬يُسجل،‭ ‬ويحفظ،‭ ‬ويُنقّح،‭ ‬ويُصنف،‭ ‬ويُرتب،‭ ‬ويقوم‭ ‬بأدوار‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬ولكن‭ ‬بشرط‭ ‬واحد‭: ‬الاستيعاب‭ ‬والوعي؛‭ ‬فالمعارف‭ ‬والخبرات‭ ‬تمر‭ ‬علينا‭ ‬جميعًا؛‭ ‬ولكن،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬مُدركين‭ ‬لأهمية‭ ‬الإبقاء‭ ‬عليها،‭ ‬أو‭ ‬تخزينها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملية‭ ‬التكرار‭ ‬وتركيز‭ ‬الاهتمام؛‭ ‬فإن‭ ‬عقولنا‭ ‬ستركنها‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬بعيدة،‭ ‬وسنُفاجأ‭ ‬بأننا‭ ‬لا‭ ‬نتذكرها‭ ‬حين‭ ‬نحتاج‭ ‬إليها،‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭ ‬موجودة‭!‬

والحقيقة‭ ‬أنها‭ ‬موجودة‭ ‬بالفعل؛‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نحيطها‭ ‬بالعناية‭ ‬اللازمة‭ ‬التي‭ ‬تجعلها‭ ‬حاضرة‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬الدوام؛‭ ‬بحيث‭ ‬تسمح‭ ‬باستحضارها‭ ‬وقتما‭ ‬نشاء،‭ ‬وبالكيفية‭ ‬التي‭ ‬نريد‭! ‬لذلك‭ ‬نشتكي‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬النسيان،‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬المعلومة‭ ‬أو‭ ‬تلك؛‭ ‬مرت‭ ‬بنا‭ ‬سابقًا؛‭ ‬غير‭ ‬أننا‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تذكرها‭ ‬أو‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭ ‬حال‭ ‬الحاجة‭! ‬فما‭ ‬الفائدة؟‭ ‬تمامًا‭ ‬كالطالب‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬للامتحان؛‭ ‬وينجح‭ ‬بتفوق‭ ‬ساحق؛‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬انقضى‭ ‬وقت‭ ‬هذا‭ ‬الامتحان‭ ‬بفترة‭ ‬وجيزة،‭ ‬وطُلِبت‭ ‬منه‭ ‬الإجابة‭ ‬على‭ ‬الأسئلة‭ ‬نفسها؛‭ ‬وجدناه‭ ‬يُخفق‭ ‬بدرجة‭ ‬مؤلمة،‭ ‬ومزعجة،‭ ‬فمن‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬كله؟‭!‬

إنه‭ ‬العقل‭ ‬نفسه‭ ‬ولا‭ ‬شك،‭ ‬المستعصي‭ ‬على‭ ‬المخادعة،‭ ‬واللعب‭ ‬بالذيل‭ ‬كما‭ ‬نقول؛‭ ‬إذْ‭ ‬لم‭ ‬تصله‭ ‬رسائل‭ ‬حقيقية‭ ‬تقول‭ ‬له‭: ‬إن‭ ‬ثمة‭ ‬معلومات‭ ‬قادمة‭ ‬إليك،‭ ‬وهي‭ ‬مهمة،‭ ‬وأرجو‭ ‬منك‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بها،‭ ‬واستخدامها‭ ‬وقت‭ ‬الطلب‭! ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬الرسالة‭ ‬كالآتي‭: ‬لديك‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ (‬كذا‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬عليك‭ ‬سوى‭ ‬صبّ‭ ‬المعلومة‭ ‬في‭ ‬القالب‭ ‬المطلوب،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬انتهى‭ ‬الوقت؛‭ ‬أَعدِمها‭ ‬أو‭ ‬تصرف‭ ‬بها‭ (‬لا‭ ‬يهم‭)! ‬باختصار‭ ‬عقلك‭ ‬لا‭ ‬يخدمك‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬البعيد‭ ‬–‭ ‬إذا‭ ‬تعمّدت‭ ‬قاصدًا‭ ‬أن‭ ‬ُتوصل‭ ‬إليه‭ ‬رغبات‭ ‬براجماتية‭ ‬آنية‭! ‬لذلك‭ ‬يصعب‭ ‬عليه‭ ‬–‭ ‬بعدها‭ - ‬استخراج‭ ‬ركام‭ ‬المعلومات‭ ‬من‭ ‬تلكم‭ ‬الزاوية‭ ‬المغلقة،‭ ‬حين‭ ‬تُقرر‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭!‬

ماذا‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نفعل‭ ‬إذا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬عقول‭ ‬نمتلكها‭ ‬–‭ ‬فيزيائيًا‭ ‬–‭ ‬لكنها‭ ‬تتفذلك‭ ‬علينا،‭ ‬ولا‭ ‬تكاد‭ ‬تخدمنا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭!‬؟‭ ‬إنني‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬الإجابات‭ ‬تتمحور‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التركيز‭ ‬العميق؛‭ ‬الذي‭ ‬يأخذك‭ ‬إلى‭ ‬المستويات‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬السطح؛‭ ‬بحيث‭ ‬تتأمل‭ ‬ما‭ ‬تقرأ،‭ ‬تفكر‭ ‬فيه،‭ ‬تعالجه‭ ‬في‭ ‬دماغك،‭ ‬تُسائِل‭ ‬ما‭ ‬تقرأ،‭ ‬تنتبه‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الجوانب؛‭ ‬جمالية‭ ‬أو‭ ‬فكرية‭... ‬حينها‭ ‬ستصل‭ ‬الرسالة‭ ‬واضحة‭ ‬إلى‭ ‬عقلك،‭ ‬ولن‭ ‬تنسى‭ ‬أبدا‭ ‬فحوى‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬عليك‭ ‬أيًا‭ ‬يكن‭!‬

الجميع‭ ‬يقرأ،‭ ‬والكثير‭ ‬ينسى،‭ ‬لكن‭ ‬الفرق‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬طريقتك‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬أو‭ ‬تلقي‭ ‬المعلومة،‭ ‬فهل‭ ‬تقرأ‭ ‬لغاية‭ ‬وقتية،‭ ‬بهدف‭ ‬إشباع‭ ‬سريع،‭ ‬أم‭ ‬لتتلقف‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬بهدف‭ ‬إشباع‭ ‬دائم؛‭ ‬حينها‭ ‬سيذهلك‭ ‬عقلك؛‭ ‬كيف‭ ‬يستحضر‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬في‭ ‬سرعة‭ ‬خرافية،‭ ‬وكأنك‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭ ‬أبدًا‭!.‬