قهوة الصباح

“الفيلوفوبيا” والدراما في الشخصية العربية (29)

| سيد ضياء الموسوي

نحن‭ ‬عاطفيون‭ ‬بحكم‭ ‬البيئة‭ ‬والثقافة‭. ‬بين‭ ‬عنترة‭ ‬السياسي،‭ ‬وشبق‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬الهلالي،‭ ‬وبلعم‭ ‬بن‭ ‬باعورا‭ ‬الديني‭. ‬نعشق‭ ‬الدراما‭ ‬وتهويل‭ ‬الوقائع‭ ‬وصناعة‭ ‬“الآكشن”‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬علاقاتنا،‭ ‬لذلك‭ ‬علاقاتنا‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬أنيميا‭ ‬فرح‭. ‬نعشق‭ ‬نثر‭ ‬الملح‭ ‬على‭ ‬الجروح،‭ ‬وتنغيص‭ ‬الفرح‭ ‬ببهارات‭ ‬حارة‭ ‬من‭ ‬البكائيات‭. ‬الشخصية‭ ‬الدرامية‭ ‬شخصية‭ ‬عاطفية‭ ‬مندفعة،‭ ‬ومتوترة‭ ‬وتحب‭ ‬المغامرات‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬للعواقب‭. ‬دراميون‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬سلسلة‭ ‬أفلام‭ (‬Fast and Furious‭)‬،‭ ‬نقفز‭ ‬بالعلاقات‭ ‬العاطفية‭ ‬نحو‭ ‬المجهول،‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬أبراج‭ ‬وناطحات‭ ‬سحاب‭. ‬نغامر‭ ‬بمصائر‭ ‬الناس‭ ‬سياسيا‭ ‬ثم‭ ‬نرميها‭ ‬على‭ ‬الحظ‭ ‬العاثر‭ ‬والقدر‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬حروب‭ ‬المماليك‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬بأوروبا‭. ‬نتكاثر‭ ‬كالأرانب‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬للواقع‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬ثم‭ ‬نردد‭ ‬الرزق‭ ‬على‭ ‬الله‭. ‬زواجنا‭ ‬كرمية‭ ‬نرد‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬كئيبة‭ ‬بين‭ ‬عجوزين‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬قديم‭ ‬قد‭ ‬يصيب‭ ‬وقد‭ ‬يخيب‭. ‬وإذا‭ ‬دخلنا‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬ولو‭ ‬مع‭ ‬قطة‭ ‬نلغي‭ ‬كل‭ ‬العالم‭ ‬لنجعل‭ ‬من‭ ‬“جولييت”‭ ‬الشرقية‭ ‬هذه‭ ‬تاج‭ ‬محل‭. ‬نبالغ‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬ونفجر‭ ‬في‭ ‬الخصومة‭. ‬نستدعي‭ ‬الأعراض‭ ‬لتكديس‭ ‬الشتيمة‭. ‬الدراما‭ ‬سمة‭ ‬بارزة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الغرامية‭. ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬السياسين‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭ ‬والجمهور‭ ‬مع‭ ‬السياسيين‭. ‬التشدد‭ ‬هو‭ ‬سيد‭ ‬الموقف‭. ‬حتى‭ ‬علاقاتنا‭ ‬مع‭ ‬تراثنا‭ ‬الديني‭ ‬علاقة‭ ‬مشوبة‭ ‬بالدراما‭ ‬والمبالغات‭ ‬ووضع‭ ‬البهارات‭ ‬الحارة‭ ‬وزيادة‭ ‬الخرافات‭. ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬الدراما‭ ‬أننا‭ ‬نظل‭ ‬نستمر‭ ‬في‭ ‬العشق‭ ‬المرضي‭ ‬السياسي‭ ‬مع‭ ‬الزعيم‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬يقودنا‭ ‬للموت،‭ ‬وبيع‭ ‬الأوهام‭ ‬وتوزيع‭ ‬شهادات‭ ‬الوفاة‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬لمقتدى‭ ‬الصدر‭ ‬أو‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬أو‭ ‬مسلم‭ ‬البراك‭ ‬والقائمة‭ ‬تطول‭. ‬ومستعدون‭ ‬لتكرار‭ ‬التجارب،‭ ‬فكما‭ ‬نرث‭ ‬أمراضنا‭ ‬الوراثية‭ ‬نرث‭ ‬أمراضنا‭ ‬السياسية‭ ‬جيلا‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬دون‭ ‬الدخول‭ ‬لمستشفى‭ ‬العقل‭ ‬النقدي،‭ ‬فكأنما‭ ‬تركة‭ ‬التضحيات‭ ‬تركة‭ ‬جميلة،‭ ‬ومحل‭ ‬إغراء،‭ ‬وحسد‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬لنا‭ ‬“كم‭ ‬نحن‭ ‬محظوظون‭ ‬بتوريث‭ ‬ثقافة‭ ‬الضحايا‭ ‬ودفع‭ ‬الفواتير‭ ‬السياسية”‭. ‬علاقاتنا‭ ‬الغرامية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الدراما‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬والأفلام‭ ‬الرومانسية‭ ‬التي‭ ‬ازداد‭ ‬بها‭ ‬أصحابها‭ ‬غنى،‭ ‬وازددنا‭ ‬بها‭ ‬اكتئابا‭. ‬والغريب‭ ‬أننا‭ ‬مستعدون‭ ‬لمواصلة‭ ‬هذه‭ ‬الدراما‭ ‬وآلامها‭ ‬وأوجاعها‭ ‬رغم‭ ‬حجم‭ ‬الوجع‭ ‬المتزايد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭. ‬اتركوا‭ ‬ثقافة‭ ‬الدراما‭ ‬والحزن‭ ‬في‭ ‬العلاقات،‭ ‬فالحزن‭ ‬قاتل‭. ‬وأنا‭ ‬أشاهد‭ ‬مسلسل‭ (‬The Spanish Princess‭) ‬وردت‭ ‬عبارة‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬ملك‭ ‬إنجلترا،‭ ‬وكان‭ ‬مكتئبا‭ ‬لفراق‭ ‬حبيبته‭ ‬وزوجته‭ ‬قائلا‭ ‬“الحزن‭ ‬محيط‭ ‬يغرق‭ ‬كل‭ ‬شيء‭: ‬المرح،‭ ‬الشهية،‭ ‬الضحك،‭ ‬وحتى‭ ‬الإيمان‭. ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬المحيط‭... ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬يتمسك‭ ‬به‭ ‬ليخرجه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المحيط”‭. ‬يحذر‭ ‬علماء‭ ‬النفس‭ ‬“من‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬المليئة‭ ‬بالألم‭ ‬والاستفزاز‭ ‬وسوء‭ ‬الظن،‭ ‬فصبرك‭ ‬عليها‭ ‬سيفتك‭ ‬بصحتك‭ ‬نفسيا‭ ‬وعصبيا،‭ ‬وسيقتلك‭ ‬تدريجيا”‭. ‬نتعامل‭ ‬بعاطفة‭ ‬عقائدية‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬الدراما‭. ‬فالعالم‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬المصالح،‭ ‬وما‭ ‬يحرك‭ ‬الحروب‭ ‬والتحالفات‭ ‬هو‭ ‬المال‭ ‬والمصالح‭ ‬القومية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬نحن‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬سيناريو‭ ‬عالمي‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬أزمات‭ ‬عالمية‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬اقتصادية‭ ‬بطيبة‭ ‬الفلاح‭ ‬أو‭ ‬العقائدي‭ ‬الذي‭ ‬يحلل‭ ‬العالم‭ ‬وفق‭ ‬خطبة‭ ‬عاطفية‭ ‬عابرة‭ ‬لخطيب‭ ‬أو‭ ‬لي‭ ‬عنق‭ ‬أية‭ ‬مبتورة‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬رأي‭ ‬المفكر‭ ‬السوري‭ ‬محمد‭ ‬شحرور،‭ ‬وتطبيقها‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬رأي‭ ‬محمد‭ ‬أركون‭. ‬

اليوم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬علم،‭ ‬الحب‭ ‬علم،‭ ‬الاقتصاد‭ ‬علم،‭ ‬السياسة‭ ‬علم،‭ ‬التفاوض‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬علم،‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬علم،‭ ‬هناك‭ ‬علم‭ ‬السلوك‭ ‬وعلم‭ ‬الطاقة‭ ‬وعلم‭ ‬الاجتماع‭ ‬وعلم‭ ‬النفس‭. ‬وعلم‭ ‬الإعلام،‭ ‬والسؤال‭: ‬أليست‭ ‬كل‭ ‬علاقاتنا‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الدراما؟‭ ‬هل‭ ‬تدار‭ ‬علاقاتنا‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬قواعد‭ ‬وتقنيات‭ ‬علمية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬اليانصيب؟‭ ‬ولماذا‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬تأسيس‭ ‬علاقة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؟‭ ‬ثم‭ ‬هل‭ ‬رجالات‭ ‬السياسة‭ ‬أو‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬وحتى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يمتلكون‭ ‬ثقافة‭ ‬الأنثربولوجيا‭ (‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭) ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات؟‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬الدراما‭ ‬حاضرة‭ ‬وبقوة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬سلوك‭ ‬أو‭ ‬علاقة؟‭ ‬مر‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬بشخصيات‭ ‬مجنونة‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬الدراما‭ ‬تمتلك‭ ‬مصائر‭ ‬أمم‭ ‬وشعوب‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬يعانون‭ ‬إعاقة‭ ‬فكرية‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬العالم‭ ‬وإعاقة‭ ‬نفسية‭. ‬عندما‭ ‬ننبش‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬سوف‭ ‬نكتشف‭ ‬حجم‭ ‬الجنون‭ ‬والأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬زعماء‭ ‬بلدان‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬هتلر‭ ‬وزعماء‭ ‬جماهير‭. ‬لقد‭ ‬باتت‭ ‬مسالة‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬العقلية‭ ‬ضرورة‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬يدها‭ ‬مصائر‭ ‬أمم‭ ‬وشعوب‭. ‬

الأزمات‭ ‬السياسية‭ ‬والانتكاسات‭ ‬سببت‭ ‬أمراضا‭ ‬لنا‭ ‬منها‭ ‬البارونويا،‭ ‬وهو‭ ‬الارتياب‭ ‬والشك‭ ‬والأخطر‭ ‬مرض‭ ‬الفيلوفوبيا‭ ‬أو‭ ‬“رهاب‭ ‬الغرام”‭ ‬هو‭ ‬مرض‭ ‬يجعل‭ ‬المصابين‭ ‬به‭ ‬يخشون‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬الحبّ‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؛‭ ‬لأنهم‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬سبيلا‭ ‬لربط‭ ‬حياتهم‭ ‬ومصيرهم‭ ‬بشخصٍ‭ ‬معين‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬علاقة‭ ‬سابقة،‭ ‬فالذكريات‭ ‬المتوترة،‭ ‬والعلاقة‭ ‬الفاشلة‭ ‬السابقة‭ ‬تقود‭ ‬الطرف‭ ‬للخوف‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬إعادة‭ ‬الخنجر‭ ‬والجرح،‭ ‬والسؤال‭: ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬تبادل‭ ‬الغرام‭ ‬والعلاقة‭ ‬بين‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬والجماهير،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بالربيع‭ ‬العربي‭ ‬وإلى‭ ‬متى؟‭ ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬العلاقة‭ ‬بتقوية‭ ‬الترابط‭ ‬ووضع‭ ‬إستراتيجية‭ ‬إدارة‭ ‬فن‭ ‬عودة‭ ‬المياه‭ ‬إلى‭ ‬مجاريها‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الدراما‭ ‬أو‭ ‬الفيلو‭ ‬فوبيا‭.‬