قهوة الصباح

الفِطام النفسي ...همنجواي مثالا (28)

| سيد ضياء الموسوي

عندما‭ ‬نتداعى‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬نظل‭ ‬متمسكين‭ ‬بالفطام‭ ‬العاطفي؛‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬الضياع‭. ‬مادمت‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬فأنت‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬رضاعة‭ ‬عاطفية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬وحتى‭ ‬اقتصادية،‭ ‬وعلى‭ ‬جميع‭ ‬المستويات؛‭ ‬لأن‭ ‬ثقافتنا‭ ‬تركز‭ ‬الارتباط‭ ‬القاتل‭. ‬السياسي‭ ‬والجمهور‭ ‬يرفضون‭ ‬الفطام‭ ‬من‭ ‬بعض‭.‬‭ ‬الجماهير‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬زعيم‭ ‬سياسي،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬مؤهلات‭ ‬الزعامة‭ ‬مادام‭ ‬سيغذيها‭ ‬بحليب‭ ‬الرضاعة،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬مغشوشا‭ ‬أو‭ ‬بودرة‭ ‬مصنعة‭ ‬تسبب‭ ‬ضعف‭ ‬العظام‭. ‬وأصبحت‭ ‬متلازمة‭ ‬“دون‭ ‬كيشوت”‭ ‬تتعملق‭ ‬فينا،‭ ‬وهي‭ ‬تصيب‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬تنتفخ‭ ‬فيه‭ ‬الأنوية‭ ‬لدرجة‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬ذاته‭ ‬مقياسا‭ ‬للحق‭ ‬والباطل،‭ ‬ويظل‭ ‬يحارب،‭ ‬ويتحدى‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬حارب‭ ‬دون‭ ‬كيشوت،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬أحمق‭ ‬ظن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬مقدسة،‭ ‬وراح‭ ‬يواجه‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬شياطين،‭ ‬والتي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬ألقته‭ ‬أرضا‭. ‬

فالأسطورة‭ ‬الإسبانية‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬كيشوت‭ ‬ظن‭ ‬نفسا‭ ‬فارسا‭ ‬عظيما،‭ ‬وهو‭ ‬الهزيل‭ ‬ذو‭ ‬الفرس‭ ‬الضعيف‭. ‬إنها‭ ‬تعكس‭ ‬انتفاخ‭ ‬الوهم‭ ‬أمام‭ ‬عملقة‭ ‬سطوة‭ ‬الواقع‭. ‬وهذه‭ ‬بعض‭ ‬أوهام‭ ‬الشيوعيين‭ ‬سابقا‭. ‬إن‭ ‬التصحر‭ ‬العاطفي‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات،‭ ‬فالسياسيون‭ ‬يعانون‭ ‬تصحرا‭ ‬عاطفيا‭ ‬داخل‭ ‬الأسرة،‭ ‬فيعوضونه‭ ‬باللهث‭ ‬وراء‭ ‬الحنان‭ ‬الجماهير‭ ‬وغرامها،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬سبغت‭ ‬عليهم‭ ‬صفات‭ ‬الآلهة‭ ‬لإشباع‭ ‬الظمأ‭ ‬كمحاولة‭ ‬احتيال‭ ‬للالتفاف‭ ‬على‭ ‬النقص‭ ‬الداخلي‭. ‬ويمكنك‭ ‬بسهولة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الضعف‭ ‬الداخلي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬الإشارات‭ ‬العابرة،‭ ‬ولغة‭ ‬الجسد،‭ ‬والتضخم‭ ‬في‭ ‬الصراخ،‭ ‬والثقة‭ ‬المفرطة‭. ‬فالحاجة‭ ‬للعاطفة‭ ‬الملحة‭ ‬تعكس‭ ‬وجود‭ ‬هشاشة‭ ‬وانكسارا‭ ‬داخليا‭ ‬وانهيارا‭ ‬نفسيا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬علاجه‭ ‬إلا‭ ‬بالإشباع‭ ‬الذاتي‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬لا‭ ‬الآخرين‭. ‬هل‭ ‬تعتقدون‭ ‬شاوشيسكو‭ ‬كان‭ ‬إنسانا‭ ‬متوازنا؟‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬استالين‭ ‬أو‭ ‬عبدالكريم‭ ‬قاسم‭ ‬أصحاء‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬العقلية‭ ‬والنفسية؟‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يلهث‭ ‬وراء‭ ‬حنان‭ ‬الآخر،‭ ‬أي‭ ‬آخر،‭ ‬ولو‭ ‬شيئا‭ ‬جامدا،‭ ‬ولو‭ ‬جدارا‭ ‬ولو‭ ‬كلبا‭ ‬أو‭ ‬قطة‭ ‬هو‭ ‬يعاني‭ ‬نقصا‭ ‬وتصحرا‭ ‬ويرفض‭ ‬الفطام‭ ‬العاطفي‭. ‬والفوبيا‭ ‬من‭ ‬الفطام‭ ‬مآلها‭ ‬عذاب‭ ‬مستمر‭. ‬يقول‭ ‬شكسبير‭: (‬لا‭ ‬تبالغ‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الأشياء،‭ ‬ستؤذيك‭ ‬يوما‭ ‬ما‭.. ).‬

هناك‭ ‬حنان‭ ‬جماهيري،‭ ‬وحنان‭ ‬ديني،‭ ‬وحنان‭ ‬مالي‭... ‬إلخ‭. ‬وأكبر‭ ‬مشكلة‭ ‬هي‭ ‬أزمة‭ ‬التصحر‭ ‬العاطفي‭ ‬وخوف‭ ‬الفطام‭ ‬العاطفي‭. ‬فمن‭ ‬تورط‭ ‬بحب‭ ‬مغشوش،‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬إجراء‭ ‬فحص‭ ‬شامل‭ ‬على‭ ‬مركبة‭ ‬هذا‭ ‬الحب؛‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬اكتشاف‭ ‬مرارة‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فهو‭ ‬يفضل‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬مخدة‭ ‬الخديعة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬شمس‭ ‬الحقيقة‭. ‬كلنا‭ ‬جوعى،‭ ‬بعضنا‭ ‬جائع‭ ‬لإبراز‭ ‬ثرثرته‭ ‬في‭ ‬السوشل‭ ‬ميديا،‭ ‬وبعضنا‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬باحتضان‭ ‬رصيف‭ ‬في‭ ‬سفر،‭ ‬وآخر‭ ‬متعلق‭ ‬بمال‭. ‬كي‭ ‬تسعد‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تفطم‭ ‬نفسك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬خصوصا‭ ‬الفطام‭ ‬النفسي‭. ‬أغلب‭ ‬العظماء‭ ‬الذين‭ ‬قرات‭ ‬سيرهم‭ ‬عانوا‭ ‬معاناة‭ ‬كبيرة،‭ ‬ولكن‭ ‬أغلبهم،‭ ‬بل‭ ‬الأكثر‭ ‬كان‭ ‬يكره‭ ‬الفطام‭ ‬من‭ ‬الحبيبة‭. ‬لم‭ ‬أقتنع‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬الاكتئاب‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعيشه‭ ‬أسطورة‭ ‬الأدب‭ ‬الأمريكي‭ ‬همنجواي‭ ‬بسبب‭ ‬فقط‭ ‬ذكريات‭ ‬الحروب،‭ ‬حتى‭ ‬اكتشفت‭ ‬مؤخرا‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬معاناته‭ ‬من‭ ‬تورطه‭ ‬بغرام‭ ‬فتاة‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬نقله‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الحروب‭ ‬إلى‭ ‬الرومانسية،‭ ‬وهنا‭ ‬كتب‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ (‬وداعا‭ ‬للسلاح‭). ‬عاش‭ ‬معها‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬مصابا‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬علقت‭ ‬بقلبه،‭ ‬لكن‭ ‬القدر‭ ‬حال‭ ‬بينهما،‭ ‬فتزوجت‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬ثري،‭ ‬وبقيت‭ ‬عالقة‭ ‬كمرض‭ ‬بقلبه‭. ‬ظل‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وجدها‭ ‬في‭ ‬قصرها‭ ‬الباذخ‭. ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬مقتلها،‭ ‬ولا‭ ‬دليل‭. ‬

لكن‭ ‬بقيت‭ ‬قصاصة‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬لها‭ ‬تعكس‭ ‬عدم‭ ‬الفطام‭ : ‬“لم‭ ‬أعد‭ ‬أحتمل‭.. ‬إنها‭ ‬تلاحقني‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭.. ‬في‭ ‬عينيها‭ ‬الجميلتين‭ ‬نظرة‭ ‬عتابٍ‭ ‬مروعة‭!!.. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خائفةً‭ ‬مني‭!!.. ‬كم‭ ‬كنت‭ ‬نذلًا‭!!.. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أقصد‭ ‬يا‭ ‬آجي‭!!.. ‬أنتِ‭ ‬تعرفين‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أقصد‭!‬”‭. ‬أنا‭ ‬ضد‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭. ‬وضد‭ ‬ملاحقة‭ ‬الحب‭ ‬الهارب؛‭ ‬لأنه‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬حبا‭ ‬ما‭ ‬هرب،‭ ‬وظل‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭. ‬أكبر‭ ‬جريمة‭ ‬يقترفها‭ ‬الإنسان‭ ‬ضد‭ ‬نفسه‭ ‬عندما‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬شي‭ ‬يكمله‭. ‬لم‭ ‬يخلق‭ ‬الإنسان‭ ‬ناقصا‭ ‬لتبحث‭ ‬عن‭ ‬البدائل‭. ‬اهجر‭ ‬الحب‭ ‬إذا‭ ‬هجرك‭. ‬اهجر‭ ‬حتى‭ ‬المكان‭. ‬الأسماك‭ ‬تهاجر‭. ‬الطيور‭ ‬تهاجر‭. ‬الهجرة‭ ‬ظاهرة‭ ‬شجع‭ ‬عليها‭ ‬الله‭. ‬اهجر‭ ‬القلوب‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تقدرك‭. ‬

هناك‭ ‬مقولة‭ ‬جميلة‭ ‬تقول‭: (‬الإنسانُ‭ ‬الذي‭ ‬يعتمدُ‭ ‬عَلى‭ ‬الآخرينَ‭ ‬في‭ ‬رَفع‭ ‬معنويّاته،‭ ‬يفقدُ‭ ‬نفسَه‭ ‬حين‭ ‬يفقدهم‭). ‬اعتب‭ ‬على‭ ‬همنجواي‭ ‬الهرولة‭ ‬نحو‭ ‬العشيقة،‭ ‬واقتحام‭ ‬حياتها‭ ‬والإصرار‭ ‬عليها‭ ‬بأن‭ ‬ترجع‭ ‬له‭. ‬هذا‭ ‬يعكس‭ ‬اضطرابا‭ ‬عاطفيا‭ ‬وعدم‭ ‬انفطام‭. ‬أنا‭ ‬ضد‭ ‬ثقافة‭ ‬الحب‭ ‬الغبية‭ ‬التي‭ ‬تروج‭ ‬في‭ ‬المسلسلات‭ ‬والأفلام‭ ‬والقصائد‭. ‬هي‭ ‬تكرس‭ ‬جلادا‭ ‬ساديا‭ ‬وضحية‭ ‬مازوخية‭. ‬لا‭ ‬تتصل‭ ‬بمن‭ ‬لا‭ ‬يتصل‭. ‬لا‭ ‬تعرض‭ ‬بضاعتك‭ ‬العاطفية‭ ‬فترخص‭. ‬لا‭ ‬تتسول‭ ‬صدقات‭ ‬العاطفة‭ ‬ولا‭ ‬تنظر‭ ‬الوتساب‭ ‬كل‭ ‬دقيقة‭. ‬هذه‭ ‬عبودية‭ ‬نفسية،‭ ‬ولا‭ ‬تقحم‭ ‬نفسك‭ ‬بحياتهم‭. ‬بعض‭ ‬الحشرات،‭ ‬الذكر‭ ‬لا‭ ‬يقترب‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬أعطته‭ ‬الأنثى‭ ‬إشارة‭ ‬موافقة،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬إذا‭ ‬هربت‭. ‬ما‭ ‬أجمل‭ ‬كلام‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬مصيدة‭ ‬حينما‭ ‬قال‭ ‬“عندما‭ ‬تريدون‭ ‬الرحيل‭ ‬ارحلوا،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬تعودوا‭ ‬أبدا‭ .. ‬كونوا‭ ‬للرحيل‭ ‬أوفياء‭ ‬لعلنا‭ ‬نكون‭ ‬أيضا‭ ‬لنسيانكم‭ ‬مخلصين”‭. ‬لا‭ ‬تتمسكوا‭ ‬بالأشياء‭. ‬فيكتور‭ ‬هوجو‭ ‬فقد‭ ‬حبيبته‭ ‬جولييت‭ ‬التي‭ ‬يعتبرها‭ ‬ترياقا‭ ‬لقتل‭ ‬الضجر،‭ ‬والتي‭ ‬كتب‭ ‬لها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬ألف‭ ‬رسالة،‭ ‬وبادلته‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬بالحب،‭ ‬حيث‭ ‬قالت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬“أُقبّل‭ ‬قدميكَ‭ ‬العزيزتين‭ ‬الصغيرتين‭ ‬المزنّرتين‭ ‬بغبار‭ ‬النجوم”‭. ‬فرجينا‭ ‬وولف‭ ‬فقدت‭ ‬حبيبها‭. ‬وهمنجوي‭ ‬فقد‭ ‬عشيقته‭ ‬وهكذا‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭. ‬لا‭ ‬تتمسكوا‭ ‬بالأشياء‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬زائل‭. ‬تحرروا‭ ‬من‭ ‬الفطام‭ ‬النفسي‭.‬