العرب‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬والعثمانيون‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب

| عبدالنبي الشعلة

خلال‭ ‬الأعوام‭ ‬الأخيرة‭ ‬أصبحت‭ ‬أتردد‭ ‬بانتظام‭ ‬على‭ ‬إسبانيا‭ ‬وبمعدل‭ ‬أربع‭ ‬زيارات‭ ‬في‭ ‬العام،‭ ‬وأتجول‭ ‬في‭ ‬جنوبها‭ ‬بين‭ ‬أقاليم‭ ‬الأندلس،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الحكم‭ ‬الإسلامي‭ ‬قد‭ ‬تركز‭ ‬عندما‭ ‬حكم‭ ‬العرب‭ ‬المسلمون‭ ‬تلك‭ ‬الديار‭ ‬لثمانمئة‭ ‬عام‭ ‬وجلبوا‭ ‬معهم‭ ‬دينًا‭ ‬وعقيدة‭ ‬وأسلوبا‭ ‬متميزا‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬والحياة،‭ ‬وشيدوا‭ ‬فيها‭ ‬حضارة‭ ‬فارهة‭ ‬وثقافة‭ ‬قوامها‭ ‬الانفتاح‭ ‬والوسطية‭ ‬والاعتدال،‭ ‬فازدهرت‭ ‬فيها‭ ‬المدن‭ ‬والحواضر‭ ‬العربية‭ ‬الأندلسية‭ ‬وخصوصا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وطد‭ ‬الحكم‭ ‬الأموي‭ ‬فيها‭ ‬صقر‭ ‬قريش‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الداخل‭.‬

وخلال‭ ‬زياراتي‭ ‬حرصت‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬مع‭ ‬الإسبانيين‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬من‭ ‬تاريخهم‭. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يعتبر‭ ‬الإسبان‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬فترة‭ ‬احتلال‭ ‬لوطنهم‭ ‬فقدوا‭ ‬فيها‭ ‬سيادتهم‭ ‬على‭ ‬أراضيهم،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يعبر‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬قط‭ ‬عن‭ ‬حنقه‭ ‬واستيائه‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬إحساسه‭ ‬بالمرارة‭ ‬أو‭ ‬الكراهية‭ ‬والحقد‭ ‬تجاه‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬بأن‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬الصحيح،‭ ‬وهم‭ ‬يدركون‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬عندما‭ ‬حكموا‭ ‬إسبانيا‭ ‬لم‭ ‬يعاملوا‭ ‬أهلها‭ ‬بالقسوة‭ ‬والشدة‭ ‬التي‭ ‬هم‭ ‬عاملوا‭ ‬بها‭ ‬سكان‭ ‬الأراضي‭ ‬والبلدان‭ ‬التي‭ ‬استعمروها‭ ‬لاحقًا‭ ‬وحكموها‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬الجنوبية‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولم‭ ‬يذكر‭ ‬أي‭ ‬فرد‭ ‬أو‭ ‬مصدر‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬أن‭ ‬حكم‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬سبب‭ ‬لهم‭ ‬الفقر‭ ‬أو‭ ‬الانغلاق‭ ‬أو‭ ‬التخلف،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك؛‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دعاني‭ ‬ودفعني‭ ‬إلى‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬حكم‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬لإسبانيا‭ ‬وحكم‭ ‬الأتراك‭ ‬العثمانيين‭ ‬لبلاد‭ ‬العرب‭.‬

ولاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بعضا‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التجاوزات‭ ‬أو‭ ‬الممارسات‭ ‬المجحفة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬سكان‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الحكام‭ ‬العرب،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ظلت‭ ‬محدودة‭ ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تسمح‭ ‬به‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬وعند‭ ‬غزو‭ ‬البلدان‭ ‬واحتلالها،‭ ‬وبقيت‭ ‬هامشية‭ ‬وضئيلة‭ ‬إذا‭ ‬قورنت‭ ‬بالجوانب‭ ‬والإنجازات‭ ‬الإيجابية‭ ‬والحضارية‭ ‬التي‭ ‬حققها‭ ‬الحكام‭ ‬العرب‭ ‬لصالح‭ ‬إسبانيا‭ ‬وسكانها‭.‬

لقد‭ ‬خلّف‭ ‬العرب‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس‭ ‬إرثا‭ ‬حضاريا‭ ‬وثقافيًا‭ ‬مشعًا‭ ‬تمثل‭ ‬جزء‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬المنشآت‭ ‬العمرانية‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬شيدوها‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬حكمهم‭ ‬من‭ ‬أبراج‭ ‬وقلاع‭ ‬وحصون‭ ‬منيعة،‭ ‬وقصور‭ ‬جميلة،‭ ‬ومساجد‭ ‬كبيرة،‭ ‬ودور‭ ‬علم‭ ‬كثيرة،‭ ‬وشوارع‭ ‬وأنظمة‭ ‬ري‭ ‬وزراعة‭ ‬وحدائق‭ ‬غطّت‭ ‬جميع‭ ‬أرجاء‭ ‬البلاد،‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬قرطبة‭ ‬وطليطلة‭ ‬وإشبيلية‭ ‬وغرناطة،‭ ‬والتي‭ ‬ظلت‭ ‬بعض‭ ‬صروحها‭ ‬قائمة‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬مثل‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬وقصر‭ ‬جنة‭ ‬العريف‭ ‬في‭ ‬غرناطة،‭ ‬ومدينة‭ ‬الزهراء‭ ‬ومنارة‭ ‬إشبيليا‭ ‬وكاتدرائية‭ ‬مسجد‭ ‬قرطبة،‭ ‬وقنطرة‭ ‬قرطبة‭ ‬الأثرية‭ ‬الشهيرة‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير،‭ ‬كلها‭ ‬ظلت‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬شواهد‭ ‬تنطق‭ ‬بالعظمة‭ ‬والقوة‭ ‬والوقار،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الآن‭ ‬ثروة‭ ‬وطنية‭ ‬قيمة‭ ‬ومعالم‭ ‬باهرة‭ ‬تجذب‭ ‬السياح‭ ‬والزائرين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬وتدر‭ ‬البلايين‭ ‬من‭ ‬اليورات‭ ‬في‭ ‬الخزينة‭ ‬الإسبانية،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬أين‭ ‬وما‭ ‬التركة‭ ‬المشابهة‭ ‬أو‭ ‬المعالم‭ ‬أو‭ ‬الإرث‭ ‬الحضاري‭ ‬والعلمي‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬حكم‭ ‬العثمانيين‭ ‬للدول‭ ‬والشعوب‭ ‬العربية؟

في‭ ‬عهد‭ ‬حكم‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬للأندلس‭ ‬سميت،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬مدينة‭ ‬قرطبة،‭ ‬التي‭ ‬اشتهرت‭ ‬بثرائها‭ ‬وتطورها‭ ‬بـ‭ ‬“عروس‭ ‬المدائن‭ ‬وأم‭ ‬قرى‭ ‬الأندلس‭ ‬ودوحة‭ ‬الأدب‭ ‬ونبراس‭ ‬العلم‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب”،‭ ‬وصارت‭ ‬إحدى‭ ‬أكبر‭ ‬وأهم‭ ‬مُدن‭ ‬العالم،‭ ‬ومركزًا‭ ‬حضاريًا‭ ‬وثقافيًا‭ ‬بارزًا‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وحوض‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬والعالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فأي‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬يمكن‭ ‬مقارنتها‭ ‬بقرطبة؟

في‭ ‬عهد‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬ماذا‭ ‬حدث‭ ‬لوضع‭ ‬دمشق‭ ‬عاصمة‭ ‬الأمويين؟‭ ‬وبغداد‭ ‬عاصمة‭ ‬العباسيين؟‭ ‬والقاهرة‭ ‬عاصمة‭ ‬الفاطميين؟‭ ‬ماذا‭ ‬أضاف‭ ‬العثمانيون‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المدن؟‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الحواضر‭ ‬فقدت‭ ‬بريقها‭ ‬وتألقها‭ ‬ورونقها‭ ‬الحضاري‭ ‬والعلمي‭ ‬عندما‭ ‬وقعت‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني،‭ ‬وهل‭ ‬أسس‭ ‬العثمانيون‭ ‬مدنًا‭ ‬أو‭ ‬مدينة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي؟‭ ‬لقد‭ ‬حظيت‭ ‬مدينة‭ ‬إسطنبول‭ ‬بعناية‭ ‬واهتمام‭ ‬بالغين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السلاطين‭ ‬العثمانيين‭ ‬أعظم‭ ‬وأكبر‭ ‬مما‭ ‬حظيت‭ ‬به‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬والمدينة‭ ‬المنورة‭ ‬اللتان‭ ‬تُركتا‭ ‬دون‭ ‬الرعاية‭ ‬والعناية‭ ‬التي‭ ‬تستحقانها،‭ ‬والتي‭ ‬تليق‭ ‬بهما‭ ‬وبمكانتهما،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءتهما‭ ‬يد‭ ‬الإعمار‭ ‬والتطوير‭ ‬المبهرة‭ ‬عندما‭ ‬عادتا‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬آل‭ ‬سعود‭.‬

ولم‭ ‬يكتف‭ ‬العرب‭ ‬بتطوير‭ ‬الأندلس‭ ‬عمرانيًا،‭ ‬بل‭ ‬حولوها‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬إشعاع‭ ‬وتنوير،‭ ‬فأصبحت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الحكم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬منارة‭ ‬للعلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬وعُرفت‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬بـ‭ ‬“العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للعلم”،‭ ‬إذ‭ ‬انتشرت‭ ‬فيها‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬والمكتبات‭ ‬ودور‭ ‬الترجمة‭ ‬والمعاهد‭ ‬العلمية‭ ‬وازدهر‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر‭ ‬وفن‭ ‬العمارة‭ ‬والهندسة‭.‬

لقد‭ ‬هيأ‭ ‬الحكام‭ ‬العرب‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬الأجواء‭ ‬والظروف‭ ‬والإمكانات‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إثراء‭ ‬وازدهار‭ ‬العلم‭ ‬والفكر‭ ‬والفن،‭ ‬وتشجيع‭ ‬البحث‭ ‬والإبداع‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬نمو‭ ‬العلم‭ ‬والعلماء‭ ‬والمفكرين،‭ ‬فكان‭ ‬لعلماء‭ ‬ومفكري‭ ‬الأندلس‭ ‬المساهمات‭ ‬والإبداعات‭ ‬المميِّزة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬مشهود‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية،‭ ‬وظهر‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬فلاسفة‭ ‬عظام‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬الارتقاء‭ ‬بمستوى‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬باجة‭ ‬وابن‭ ‬طفيل‭ ‬وابن‭ ‬رشد‭ ‬الذي‭ ‬عده‭ ‬الأوروبيون‭ ‬أكبر‭ ‬ممثل‭ ‬لحرية‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬وأنتجت‭ ‬الأندلس‭ ‬أبرز‭ ‬أعلام‭ ‬الفلسفة‭ ‬الصوفية‭ ‬عند‭ ‬المسلمين‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬وأشهر‭ ‬الجراحين‭ ‬وهو‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬الزهراوي،‭ ‬واشتهر‭ ‬ابن‭ ‬البيطار‭ ‬بكتاب‭ ‬“المغني‭ ‬في‭ ‬الأدوية‭ ‬المفردة”‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬يُعرف‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬بلقب‭ ‬“أبوعلم‭ ‬النبات”،‭ ‬وقد‭ ‬ألف‭ ‬أبوعبدالله‭ ‬محمد‭ ‬الإدريسي‭ ‬كتاب‭ ‬“نزهة‭ ‬المشتاق‭ ‬في‭ ‬اختراق‭ ‬الآفاق”‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬أعظم‭ ‬عمل‭ ‬جغرافي‭ ‬عربي‭ ‬منظم‭ ‬في‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬وعالم‭ ‬الفلك‭ ‬والرياضيات‭ ‬مسلمة‭ ‬المجريطي،‭ ‬وعالم‭ ‬الفلك‭ ‬الآخر‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬الأندلسي‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬بكروية‭ ‬الأرض‭.‬

والقائمة‭ ‬طويلة‭ ‬لا‭ ‬يسع‭ ‬المجال‭ ‬لحصرها‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬شهيد‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬عباس‭ ‬بن‭ ‬فرناس،‭ ‬وعلماء‭ ‬فطاحل‭ ‬أمثال‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬وجابر‭ ‬بن‭ ‬الأفلح،‭ ‬وصاعد‭ ‬بن‭ ‬عبدالرحمن،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬السهلي،‭ ‬وابن‭ ‬الزرقالة،‭ ‬وأبوعبيد‭ ‬البكري،‭ ‬وابن‭ ‬زهر،‭ ‬وابن‭ ‬العوام،‭ ‬وابن‭ ‬الرومية،‭ ‬وحسن‭ ‬الرماح،‭ ‬وابن‭ ‬الحاج،‭ ‬والبرزالي،‭ ‬والقلصاوي‭ ‬وغيرهم،‭ ‬فأين‭ ‬هي‭ ‬قائمة‭ ‬العلماء‭ ‬والمفكرين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬أنتجهم‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬واقعًا‭ ‬تحت‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني؟

وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الآثار‭ ‬العلمية‭ ‬والفلسفية‭ ‬والحضارية‭ ‬للعلماء‭ ‬والمفكرين‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬تشكل‭ ‬أهم‭ ‬القواعد‭ ‬والمرتكزات‭ ‬والمنطلقات‭ ‬الفكرية‭ ‬لبناء‭ ‬حضارة‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬بينما‭ ‬كل‭ ‬الشواهد‭ ‬والأدلة‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬شهد‭ ‬تكلسًا‭ ‬حضاريًا‭ ‬وعلميًا‭ ‬خلال‭ ‬حقبة‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬التي‭ ‬دامت‭ ‬لأربعمئة‭ ‬عام،‭ ‬وأن‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬غرقوا‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬والجهل،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المؤرخين‭ ‬والباحثين‭ ‬يؤكدون،‭ ‬بكل‭ ‬تجرد،‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬اتسمت‭ ‬بضيق‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬الاهتمامات‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وتدهور‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬عمومًا‭ ‬وفي‭ ‬الأدب‭ ‬خصوصًا،‭ ‬وتوقف‭ ‬عن‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفلسفي‭ ‬والعلمي‭ ‬والرياضيات،‭ ‬ومَنعت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬دخول‭ ‬الطابعة‭ ‬للأقطار‭ ‬العربية‭ ‬وبذلك‭ ‬حُرم‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أدوات‭ ‬بناء‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة‭ ‬وانتشار‭ ‬المعرفة‭.‬

تحت‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬أصبح‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬التاريخ‭ ‬علمياً‭ ‬وحضارياً‭ ‬وفكرياً،‭ ‬كما‭ ‬فرضت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬على‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬عزلة‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬وتطوراته‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬ومن‭ ‬بعدها‭ ‬الشام‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1798‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إحداث‭ ‬صدمة‭ ‬حضارية،‭ ‬على‭ ‬أثرها‭ ‬استفاق‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬التخلف‭ ‬والجهل‭ ‬الذي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه‭.‬

لقد‭ ‬فتح‭ ‬العرب‭ ‬إسبانيا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬711م‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬والي‭ ‬الأمويين‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير‭ ‬والقائد‭ ‬طارق‭ ‬بن‭ ‬زياد،‭ ‬وظلت‭ ‬ولاية‭ ‬تابعة‭ ‬للدولة‭ ‬الأموية‭ ‬تدفع‭ ‬لها‭ ‬الخراج‭ ‬بانتظام‭ ‬حتى‭ ‬انهيارها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬العباسيين،‭ ‬عندها‭ ‬انتقل‭ ‬حكم‭ ‬الأندلس‭ ‬إلى‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الداخل‭ ‬بعد‭ ‬45‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬فتحها،‭ ‬فانفصلت‭ ‬الأندلس‭ ‬عن‭ ‬مركز‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬وأصبحت‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭ ‬تحتفظ‭ ‬بكافة‭ ‬مواردها‭ ‬وثرواتها‭ ‬وتنفقها‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أوجه‭ ‬التنمية‭ ‬والتطوير،‭ ‬ولم‭ ‬يحاول‭ ‬الحكام‭ ‬العرب‭ ‬تجنيد‭ ‬الإسبان‭ ‬للقتال‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬خارج‭ ‬ديارهم،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬العثمانيون‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬عانى‭ ‬التبعية‭ ‬طوال‭ ‬أربعة‭ ‬قرون‭ ‬لمركز‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬التي‭ ‬استنزفت‭ ‬ثرواته‭ ‬وأرهقت‭ ‬أهله‭ ‬بالجبايات‭ ‬والضرائب‭ ‬العالية‭ ‬الباهظة‭ ‬وجندتهم‭ ‬للموت‭ ‬في‭ ‬حروبها‭ ‬التوسعية‭.‬

ونقل‭ ‬سليم‭ ‬الأول‭ ‬أمهر‭ ‬العمال‭ ‬وأرباب‭ ‬الحرف‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬اسطنبول‭ ‬ما‭ ‬سبب‭ ‬الخراب‭ ‬وانقراض‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬50‭ ‬حرفة‭ ‬وتوقف‭ ‬الصناعات‭ ‬التي‭ ‬اشتهرت‭ ‬بها‭ ‬مصر‭.‬

ولم‭ ‬يورث‭ ‬العثمانيون‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬سوى‭ ‬الضعف‭ ‬والتخلف‭ ‬والهوان‭ ‬والانكسار،‭ ‬ولم‭ ‬يحاولوا‭ ‬تطوير‭ ‬طاقاته‭ ‬وإمكاناته‭ ‬الذاتية،‭ ‬أو‭ ‬تهيئته‭ ‬أو‭ ‬توفير‭ ‬أي‭ ‬سبب‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬القوة‭ ‬والمنعة‭ ‬له‭ ‬لتمكنه‭ ‬من‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬فريسة‭ ‬سهلة‭ ‬للاستعمار‭ ‬الأجنبي‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬تلك‭ ‬الإمبراطورية‭.‬

ويدرك‭ ‬أي‭ ‬طفل‭ ‬عربي‭ ‬وبكل‭ ‬بساطة‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬أو‭ ‬إمكانية‭ ‬حتى‭ ‬للتفكير‭ ‬أو‭ ‬الحلم‭ ‬باستعادة‭ ‬موقع‭ ‬العرب‭ ‬وحكمهم‭ ‬وسيطرتهم‭ ‬على‭ ‬إسبانيا‭ ‬أو‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس،‭ ‬فتلك‭ ‬أيام‭ ‬خلت‭ ‬وأجيال‭ ‬وأمجاد‭ ‬سادت‭ ‬ثم‭ ‬بادت‭ ‬ولا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬عودتها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬كذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬للعثمانيين‭ ‬الجدد‭ ‬الذين‭ ‬يحكمون‭ ‬تركيا‭ ‬الآن‭ ‬والذين‭ ‬يداعبون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأوهام‭ ‬محمومة‭ ‬ويحاولون‭ ‬يائسين‭ ‬استنهاض‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬المقبورة،‭ ‬ويعتقدون‭ ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬إرث‭ ‬شرعي‭ ‬لهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬لفظت‭ ‬إمبراطوريتهم‭ ‬أنفاسها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ويسعون‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬سيطرتهم‭ ‬وبسط‭ ‬نفوذهم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحكموا‭ ‬عقولهم‭ ‬أو‭ ‬ضمائرهم،‭ ‬وأن‭ ‬يعترفوا‭ ‬ويقروا‭ ‬بتلك‭ ‬الحقائق‭ ‬المخجلة‭ ‬المؤلمة،‭ ‬وأن‭ ‬يعتذروا‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬ولشعوبه‭ ‬ويعوضونهم‭ ‬عما‭ ‬ارتكبوه‭ ‬واقترفوه‭ ‬في‭ ‬حقهم‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬وآثام‭ ‬مدمرة،‭ ‬فالأرمن‭ ‬مازالوا‭ ‬يطالبون‭ ‬الأتراك‭ ‬بصلابة‭ ‬وإصرار‭ ‬وبدعم‭ ‬من‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬والمنظمات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬المعنية‭ ‬بالاعتذار‭ ‬والتعويض‭ ‬عن‭ ‬المذابح‭ ‬والمجازر‭ ‬والجرائم‭ ‬التي‭ ‬ارتكبوها‭ ‬بحقهم،‭ ‬وأن‭ ‬جرائم‭ ‬ومجازر‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬وحشية‭ ‬وقسوة‭ ‬عما‭ ‬حدث‭ ‬للأرمن،‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والحجاز‭ ‬والشام‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬تحت‭ ‬حكمهم،‭ ‬ففي‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬وصف‭ ‬المؤرخ‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬ابن‭ ‬إياس‭ ‬يوم‭ ‬دخول‭ ‬الأتراك‭ ‬العثمانيين‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬1517م‭ ‬بقيادة‭ ‬القائد‭ ‬العثماني‭ ‬سليم‭ ‬خان‭ ‬بـ‭ ‬“اليوم‭ ‬المشؤوم”،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“بدائع‭ ‬الزهور‭ ‬في‭ ‬وقائع‭ ‬الدهور”،‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬“وقع‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬المصيبة‭ ‬العظمى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بمثلها‭ ‬فيما‭ ‬تقدم”،‭ ‬وذكر‭ ‬مشاهد‭ ‬وقصص‭ ‬مروعة‭ ‬تتسم‭ ‬بالوحشية‭ ‬والقسوة‭ ‬والظلم‭ ‬التي‭ ‬عاناها‭ ‬المصريون‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الغزاة‭ ‬العثمانيين،‭ ‬حيث‭ ‬وصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬المصريين‭ ‬قتلى‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬وأضاف‭ ‬ابن‭ ‬إياس‭: ‬“إن‭ ‬ابن‭ ‬عثمان‭ ‬انتهك‭ ‬حرمة‭ ‬مصر‭ ‬وما‭ ‬خرج‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬غنم‭ ‬أموالها‭ ‬وقتل‭ ‬أبطالها‭ ‬ويتم‭ ‬أطفالها‭ ‬وأسر‭ ‬رجالها‭ ‬وبدد‭ ‬أحوالها”‭. ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬لذكر‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬الحجاز‭ ‬ونجد‭ ‬والشام‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬العرب،‭ ‬فسلامًا‭ ‬وتحية‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬البكائين‭ ‬على‭ ‬زوال‭ ‬“الخلافة”‭ ‬العثمانية‭ ‬والمنادين‭ ‬بعودتها‭!‬