أيهما يسبق الآخر: رعاية الاقتصاد أم التربية؟

| د. خالد الباكر

تربط‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتربية‭ ‬علاقة‭ ‬قديمة‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬خارطة‭ ‬رسم‭ ‬السياسات‭ ‬بنفس‭ ‬الوضوح‭ ‬الذي‭ ‬ظهرت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فقلما‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬سياسيٍ‭ ‬أوتوجٍه‭ ‬إستراتيجيٍ،‭ ‬أوأجندٍة‭ ‬وطنيٍة‭ ‬ذات‭ ‬خطة‭ ‬متوسطة،‭ ‬أو‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد،‭ ‬قد‭ ‬خلت‭ ‬من‭ ‬ربط‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بالتربية‭. ‬ولذلك‭ ‬ظهرت‭ ‬توجهات‭ ‬تربوية‭ ‬عديدة‭ ‬مرتكزة‭ ‬في‭ ‬أساسها‭ ‬الأولي‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬النظريات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الحديثة،‭ ‬منها‭ ‬مفاهيم‭ ‬العائد‭ ‬التربوي‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬والاستثمار‭ ‬في‭ ‬العنصر‭ ‬البشري،‭ ‬والكفاءة‭ ‬والفاعلية‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬دورا‭ ‬بارزا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬سياسات‭ ‬الدول‭ ‬مفهوم‭ ‬التأثير‭ ‬التبادلي‭ ‬بين‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتربية،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬معين‭ ‬كانت‭ ‬التربية‭ ‬ذات‭ ‬التأثير‭ ‬الأكبر‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬وفي‭ ‬أزمنة‭ ‬أخرى‭ ‬يكون‭ ‬العكس‭. ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬المعلم‭ ‬والإدارة‭ ‬المدرسية‭ ‬يقررون‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬أركان‭ ‬المدرسة‭ ‬وتفاصيل‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسي،‭ ‬وسط‭ ‬توقعات‭ ‬بأن‭ ‬خريجي‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬سيكونون‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الكفاءة،‭ ‬وسد‭ ‬الاحتياج‭ ‬المحلي‭ ‬من‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬الماهرة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تزايد‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬ومهارات‭ ‬الخريجين‭ ‬استدعى‭ ‬مناقشة‭ ‬آليات‭ ‬وأوجه‭ ‬الصرف‭ ‬والإنفاق‭ ‬على‭ ‬التربية،‭ ‬فظهرت‭ ‬مفاهيم‭ ‬المساءلة‭ ‬والجودة‭ ‬والقيمة‭ ‬المضافة،‭ ‬وبدأت‭ ‬عمليات‭ ‬تقليص‭ ‬الصرف‭ ‬والإنفاق‭ ‬على‭ ‬التعليم،‭ ‬واستحداث‭ ‬وظائف‭ ‬رقابية‭ ‬وتطويرية‭ ‬ومتابعة‭ ‬جديدة‭. ‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬المتأمل‭ ‬في‭ ‬أثار‭ ‬مساهمة‭ ‬الفكر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬على‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الأنظمة‭ ‬العالمية‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬انعكاس‭ ‬الأثر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متساويًا،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬وصفة‭ ‬واحدة‭ ‬ناجحة‭ ‬لكل‭ ‬النظم‭.‬

كما‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬تخصص‭ ‬من‭ ‬ميزانياتها‭ ‬مبالغ‭ ‬طائلة‭ ‬للتربية‭ ‬والتعليم‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬الكثيرين‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭ ‬قد‭ ‬تتفوق‭ ‬أحيانًا‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬صرفها‭ ‬وإنفاقها‭ ‬على‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتسق‭ ‬والمستويات‭ ‬التي‭ ‬يحققها‭ ‬الطلبة‭ ‬الخليجيون‭ ‬في‭ ‬الامتحانات‭ ‬الدولية‭ ‬الخارجية،‭ ‬حيث‭ ‬مازالت‭ ‬نتائج‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭ ‬تقبع‭ ‬تحت‭ ‬خط‭ ‬متوسط‭ ‬الأداء‭ ‬العالمي‭.‬

هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬تستدعي‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬أولويات‭ ‬الصرف‭ ‬على‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي،‭ ‬وكبداية‭ ‬فإنه‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬تحقيق‭ ‬المساواة‭ ‬الرأسية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬إعادة‭ ‬توجيه‭ ‬الدعم‭ ‬لشرائح‭ ‬الطلبة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬أقصى‭ ‬إمكاناتها،‭ ‬والتي‭ ‬تشمل‭ ‬المتأخرين‭ ‬دراسيًّا،‭ ‬وذوي‭ ‬الهمم،‭ ‬والمتفوقين‭ ‬والمبدعين،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬تقديم‭ ‬نفس‭ ‬مستوى‭ ‬الصرف‭ ‬لكافة‭ ‬المدارس‭ ‬فاعلا‭ ‬في‭ ‬أثره‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬السابقة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬التعليمية‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬خيارا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التوجهات‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬اقتصاديات‭ ‬التربية،‭ ‬ولقد‭ ‬تغلغلت‭ ‬آليات‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬طرائق‭ ‬إدارة‭ ‬الصف‭ ‬وإستراتيجيات‭ ‬التعلم‭ ‬والتعليم‭ ‬والإدارة‭ ‬المدرسية،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تمهين‭ ‬المعلمين‭ ‬بصور‭ ‬غير‭ ‬تقليدية‭. ‬ولا‭ ‬نغفل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬ضرورة‭ ‬إعادة‭ ‬توجيه‭ ‬الصرف‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬المرتبط‭ ‬باحتياجات‭ ‬البلد،‭ ‬لا‭ ‬المرتبط‭ ‬برغبة‭ ‬وتوجهات‭ ‬الباحث،‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬رسم‭ ‬سياسة‭ ‬وطنية‭ ‬لأي‭ ‬دولة‭ ‬تحدد‭ ‬فيها‭ ‬الموضوعات‭ ‬ذات‭ ‬الأولوية،‭ ‬والتي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الاحتياجات‭ ‬المجتمعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬المعينة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬نتائج‭ ‬الطلبة‭ ‬المتراجعة‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الخليجية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وقفة‭ ‬أكثر‭ ‬حزما‭ ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الخليجي‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعلى‭ ‬الاقتصادات‭ ‬المحلية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬

وختاما،‭ ‬فإن‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬هندسة‭ ‬نظام‭ ‬تعليمي‭ ‬يتيح‭ ‬لإدارات‭ ‬المدارس‭ ‬الإبداع‭ - ‬بصورة‭ ‬أكبر‭ - ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬التوجهات‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬الدراسة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬محكم‭ ‬يضمن‭ ‬المساءلة‭ ‬عن‭ ‬الأداء‭ ‬العام‭ ‬وتحسين‭ ‬النتائج‭.‬

“المتأمل‭ ‬في‭ ‬أثار‭ ‬مساهمة‭ ‬الفكر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬على‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الأنظمة‭ ‬العالمية‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬انعكاس‭ ‬الأثر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متساويًا”‭.‬