قهوة الصباح

تحاصرنا مكاتبنا الخشبية كزنزانات حريرية (25)

| سيد ضياء الموسوي

تخنقنا‭ ‬الحياة‭ ‬بقفازي‭ ‬المدنية‭ ‬الناعمين‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬حب،‭ ‬تحاصرنا‭ ‬مكاتبنا‭ ‬الخشبية‭  ‬كزنزانات‭ ‬حريرية‭ ‬الخارج،‭ ‬مثقوبة‭ ‬الداخل‭ ‬كثياب‭ ‬مرقعة‭ ‬لعجوز‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬مقهى‭ ‬كولومبي‭ ‬عتيق‭. ‬مصابون‭ ‬بذبحة‭ ‬صدرية‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬السياسة‭ ‬الخانقة‭ ‬وتكرار‭ ‬الوجع‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬مخنوقون‭ ‬من‭ ‬تجار‭ ‬السياسة‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يرددون‭ ‬أغنية‭ ‬شيرين‭ ‬“مشاعر‭ ....‬مشاعر”‭ ‬وهم‭ ‬قطعة‭ ‬حديد‭. ‬نتآكل‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬روتين‭ ‬المجاملات‭ ‬المهندسة‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬روح،‭ ‬والمفروضة‭ ‬كزي‭ ‬رسمي‭ ‬كأننا‭ ‬عمال‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬عملاقة‭ ‬لبيع‭ ‬الصخر‭ ‬والإنسانية‭. ‬تتكرر‭ ‬الأوجه‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬ماء‭ ‬ولا‭ ‬جلاء‭. ‬

تتكرر‭ ‬ذات‭ ‬الأمكنة،‭ ‬ذات‭ ‬المعلومات‭ ‬الشاحبة،‭ ‬نزداد‭ ‬منغصات‭ ‬وننقص‭ ‬إحساسا،‭ ‬فاستبدلنا‭ ‬الوجوه‭ ‬الجميلة،‭ ‬والزمن‭ ‬الجميل‭ ‬بشخوص‭ ‬مطحونة‭ ‬العقد‭.‬‭ ‬تقتلنا‭ ‬“متلازمة‭ ‬استكهولم”‭ ‬حيث‭ ‬يدافع‭  ‬المختطَف‭ ‬عن‭ ‬الخاطِف‭ ‬وهو‭ ‬خاطفه،‭ ‬فكيف‭ ‬لرهينة‭ ‬تستلذ‭ ‬بقمع‭ ‬الخاطف؟‭!! ‬

كلنا‭ ‬متصحرون‭ ‬عاطفيا،‭ ‬نتحايل‭ ‬عليه‭ ‬بالبحث‭ ‬ولو‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬حب‭ ‬مغشوشة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬سوداء،‭ ‬حيث‭ ‬الحب‭ ‬أصبح‭ ‬كغسيل‭ ‬الأموال‭ ‬نمارسه‭ ‬كلعبة‭ ‬مكسيكية،‭ ‬كـ”الجابو”‭ ‬المكسيكي‭ ‬و”اوسكبار”‭ ‬الكولومبي،‭ ‬وكل‭ ‬أباطرة‭ ‬المخدرات‭. ‬

ما‭ ‬أتعس‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحب‭ ‬مخدرا‭! ‬نرضى‭ ‬ولو‭ ‬بفأرة‭ ‬تحمل‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬صدق‭ ‬المشاعر،‭ ‬ولو‭ ‬جرادة‭ ‬عزباء‭ ‬تصدقنا‭ ‬الشعور،‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬قطرة‭ ‬صدق‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬يعيد‭ ‬لنا‭ ‬صدق‭ ‬من‭ ‬فقدناهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬زمن‭ ‬الفاستفود‭ ‬العاطفي‭ ‬الموزع‭ ‬في‭ ‬الطرقات،‭ ‬مرددين‭ ‬في‭ ‬خيبة‭ ‬أمل‭ ‬قول‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬“إن‭ ‬أعادوا‭ ‬لك‭ ‬المقاهي‭ ‬القديمة،‭ ‬فمن‭ ‬يعيد‭ ‬لك‭ ‬الرفاق؟”‭ ‬متصحرون‭ ‬حد‭ ‬العظم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬عضات‭ ‬الحبيب‭ ‬والصديق‭ ‬والقريب،‭ ‬عضات‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬اكسسوارات‭ ‬صدئة‭ ‬على‭ ‬قلوب‭ ‬أضناها‭ ‬القدر‭ ‬أملا‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬خالص‭ ‬كبياض‭ ‬قطعة‭ ‬ثلج‭ ‬مهربة‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬“ألألب”‭ ‬هاربون‭ ‬“كاوجلان”‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬إعدام،‭ ‬بريئون‭ ‬كطفلة‭ ‬لويس‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬بين‭ ‬شكل‭ ‬قطعة‭ ‬بسكويت‭ ‬و‭ ‬مقصلة‭ ‬ثورية‭ ‬تحن‭ ‬إلى‭ ‬رقبة‭ ‬الصغار‭ ‬من‭ ‬ثوار‭ ‬كرهوا‭ ‬سجن‭ ‬الباستيل‭ ‬حتى‭ ‬أصبحوا‭ ‬ذات‭ ‬الباستيل‭ ‬أو‭ ‬أشد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬فرنسي‭ ‬تعيس‭. ‬

نهرب‭ ‬من‭ ‬جزر‭ ‬البحر‭ ‬فيتقاذفنا‭ ‬مدُ‭ ‬“يخة”‭ ‬كبير‭ ‬يبتلع‭ ‬جمال‭ ‬بحر‭ ‬باورستقراطية‭  ‬النبلاء،‭ ‬وشو‭ ‬الغواني‭ ‬المستحمات‭ ‬في‭ ‬جاكوزي‭ ‬عرق‭ ‬المهمشين‭. ‬نعاقب‭ ‬الحاضر‭ ‬بماضي‭ ‬لا‭ ‬نمسك‭ ‬خيوط‭ ‬جماله‭ ‬الحريري‭. ‬نحّن‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬حبيبة،‭ ‬سلمناها‭ ‬كل‭ ‬ممتلكات‭ ‬قلوبنا‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬وأحاسيس،‭ ‬فكانت‭ ‬أشبه‭ ‬بحانوت‭ ‬يعتاش‭ ‬على‭ ‬زيادة‭ ‬الموتى‭ ‬في‭ ‬جبانة‭ ‬العشق‭ ‬الرخيص‭ ‬حين‭ ‬تسلمنا‭ ‬للموت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمارس‭ ‬علينا‭ ‬القصاص‭ ‬العاطفي‭!!! ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬نمضي،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬من‭ ‬قنينة‭ ‬الصحة‭ ‬سوى‭ ‬صبابة‭ ‬مازالت‭ ‬تتقاسمها‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬النخاسين‭. ‬صعاليك‭ ‬بلا‭ ‬مأوى،‭ ‬ولا‭ ‬ميتم،‭ ‬ولا‭ ‬ملجأ‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الزمن‭ ‬يستلب‭ ‬ثياب‭ ‬وجودنا‭ ‬المطرز‭ ‬بحنان‭ ‬آلام‭ ‬ووداعة‭ ‬الحب،‭ ‬والأصدقاء‭ ‬الطيبين‭ ‬في‭ ‬تزاحم‭ ‬بين‭ ‬قبور‭ ‬سلمناها‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬نملك‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬وصديق‭ ‬وحبيب‭ ‬كما‭ ‬حن‭ ‬المتنبي‭ ‬لجدته‭ ‬قائلا‭ ‬في‭ ‬رثائها،‭ ‬وكان‭ ‬يحبها‭ ‬حبا‭ ‬جما‭:‬

    أحِنّ‭ ‬إلى‭ ‬الكأسِ‭ ‬التي‭ ‬شرِبَتْ‭ ‬بها    وأهوى‭ ‬لمَثواها‭ ‬التّرابَ‭ ‬وما‭ ‬ضَمّا

    بَكَيْتُ‭ ‬عَلَيها‭ ‬خِيفَةً‭ ‬في‭ ‬حَياتِهـــــا    وذاقَ‭ ‬كِلانا‭ ‬ثُكْلَ‭ ‬صاحِبِهِ‭ ‬قِدْمَا

    أتاها‭ ‬كِتابي‭ ‬بَعـــدَ‭ ‬يأسٍ‭ ‬وتَرْحـــــَةٍ    فَماتَتْ‭ ‬سُرُورا‭ ‬بي‭ ‬فَمُتُّ‭ ‬بها‭ ‬غَمّا

    حَرامٌ‭ ‬على‭ ‬قَلبي‭ ‬السّرُورُ‭ ‬فإنّنـــــي    أعُدّ‭ ‬الذي‭ ‬ماتَتْ‭ ‬بهِ‭ ‬بَعْدَها‭ ‬سُمّا

وها‭ ‬نحن‭ ‬نحاول‭ ‬جادين‭ ‬إعادة‭ ‬صفقة‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬فوضى‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬قسى‭ ‬علينا،‭ ‬نستبدله‭ ‬ولو‭ ‬بشي‭ ‬من‭ ‬نفايات‭ ‬السعادة‭ ‬الملقاة‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬المنتفخين‭ ‬بها،‭ ‬غير‭ ‬مكترثين‭ ‬أن‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬سعادة‭ ‬ملقاة‭ ‬على‭ ‬الطرقات‭ ‬أو‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬الصادق‭ ‬على‭ ‬الأرصفة،‭ ‬حالنا‭ ‬حال‭ ‬عجوز‭ ‬المتنبي،‭ ‬فحتى‭ ‬الشيخ‭ ‬العجوز‭ ‬لا‭ ‬يمل‭  ‬الحياة‭ ‬إذا‭ ‬ملأ‭ ‬كوخه‭ ‬آهات‭ ‬وإنما‭ ‬الضعف‭ ‬ملا‭:‬

    وَلَذيذُ‭ ‬الحَيَاةِ‭ ‬أنْفَسُ‭ ‬في‭ ‬النّفْــسِ‭ ‬    وَأشهَى‭ ‬من‭ ‬أنْ‭ ‬يُمَلّ‭ ‬وَأحْلَى

    وَإذا‭ ‬الشّيخُ‭ ‬قَالَ‭ ‬أُفٍّ‭ ‬فَمَــــــا‭ ‬        مَــلّ‭ ‬حَيَــــــاةً‭ ‬وَإنّمَا‭ ‬الضّعْــــــــفَ‭ ‬مَلاّ

    آلَةُ‭ ‬العَيشِ‭ ‬صِحّةٌ‭ ‬وَشَبَـــــــــــابٌ        ‭   ‬فإذا‭ ‬وَلّيَــــــــا‭ ‬عَـــــــنِ‭ ‬المَـــــــــرْءِ‭ ‬وَلّى

تمسكوا‭ ‬بالحياة‭ ‬وثقافة‭ ‬الحياة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬كأس‭ ‬الحياة‭ ‬مرة،‭ ‬فمن‭ ‬طبيعتها‭ ‬المرارة‭ ‬والحلاوة‭. ‬لا‭ ‬تنتظروا‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬أن‭ ‬تشفق‭ ‬عليكم‭. ‬لا‭ ‬تنتظروا‭ ‬أن‭ ‬يفهمكم‭ ‬من‭ ‬تحبونهم‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬ملتصقين‭ ‬باليأس،‭ ‬لا‭ ‬تعلقوا‭ ‬آمالكم‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬أو‭ ‬المنصب‭ ‬أو‭ ‬الصديق‭. ‬حتى‭ ‬ظلك‭ ‬قد‭ ‬يخذلك‭ ‬في‭ ‬الظلام‭. ‬كن‭ ‬صديق‭ ‬ذاتك‭ ‬وطر‭ ‬بحرية،‭ ‬فالحياة‭ ‬قصيرة‭.‬

الحماقة‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بذات‭ ‬الطرق‭ ‬التعيسة،‭ ‬وتنتظر‭ ‬نتائج‭ ‬سعيدة‭ ‬مختلفة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أينشتاين‭: ‬“الجنون‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬وتتوقع‭ ‬نتائج‭ ‬مختلفة‭!‬”‭. ‬أعد‭ ‬جدولة‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والأزمنة‭ ‬والأمكنة،‭ ‬وحلّق‭ ‬مع‭ ‬السعادة‭.‬