ذرائع

الرِّدة المعاصرة

| غسان الشهابي

في‭ ‬سبيلي‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬مكتبي،‭ ‬قمت‭ ‬أتصفّح‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬التي‭ ‬سجّلت‭ ‬عليها‭ ‬ملاحظات‭ ‬مطلع‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬لجلسة‭ ‬عصف‭ ‬ذهني‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬واستلفتتني‭ ‬عبارة‭ ‬قالها‭ ‬الدكتور‭ ‬علي‭ ‬الزميع‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬تقول‭: ‬“الخوف‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬التجدد”‭.‬

أخذتني‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬التي‭ ‬سيطر‭ ‬عليها،‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬عاماً،‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬مختلفة‭ ‬التوجهات‭ ‬والمعالجات‭ ‬لعلاقة‭ ‬الدين‭ ‬بالدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والعالم‭ ‬ككل،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تباين‭ ‬هذه‭ ‬الحركات‭ ‬والتوجهات،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬غلب‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬العام،‭ ‬تراجع‭ ‬الاعتدال‭ ‬والوسطية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬لصالح‭ ‬التشدد‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬التزمّت‭ ‬والتضييق،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬التوجهات‭ ‬الوسطية‭ ‬سلمت‭ ‬الراية‭ ‬للرأي‭ ‬المتشدد‭ ‬ذي‭ ‬الصوت‭ ‬الأعلى‭.‬

جاءت‭ ‬هذه‭ ‬الحركات‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬ما‭ ‬أسمي‭ ‬بـ‭ ‬“الصحوة”‭ ‬الرامية‭ ‬لتجدّد‭ ‬الدين‭ ‬ليكون‭ ‬معاصراً‭ ‬ولكنها‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬جرّه‭ ‬إلى‭ ‬الماضوية‭ ‬حتى‭ ‬جعلت‭ ‬قطاعاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬مشايخه‭ ‬عرضة‭ ‬للسخرية‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الملتزمين‭ ‬دينياً،‭ ‬فهم‭ ‬يرددون‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬صالح‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬وذلك‭ ‬بمعالجة‭ ‬الحوادث‭ ‬المعاصرة‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬عالج‭ ‬بها‭ ‬السلف‭ ‬الصالح‭ ‬قضاياهم،‭ ‬عازلين‭ ‬جميع‭ ‬المؤثرات‭ ‬والمتغيرات‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الخمسة‭ ‬عشر‭ ‬الماضية،‭ ‬وشاع‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬القوامة‭ ‬التي‭ ‬مارسها‭ ‬شيوخ‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬حركات‭ ‬الناس‭ ‬وسكناتهم‭. ‬فقد‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تفصيل‭ ‬يومي‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬بخوف‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬حركة‭ ‬يؤتون‭ ‬بها‭ ‬لئلا‭ ‬يدخلوا‭ ‬النار،‭ ‬فانتعشت‭ ‬الاتصالات‭ ‬بالشيوخ‭ ‬ليسألهم‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬أمر‭ ‬يقومون،‭ ‬أو‭ ‬يودّون‭ ‬القيام‭ ‬به،‭ ‬حتى‭ ‬صاروا‭ ‬أسارى‭ ‬هذه‭ ‬الفتاوى‭ ‬التي‭ ‬تدلّهم‭ ‬على‭ ‬افعل‭ ‬ولا‭ ‬تفعل،‭ ‬وعطّل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬عقولهم‭ ‬مرددين‭: ‬“ارمها‭ ‬في‭ ‬رقبة‭ ‬عالم‭... ‬واطلع‭ ‬منها‭ ‬سالم”‭. ‬فافعل‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬لك،‭ ‬وربه‭ ‬يحاسبه‭!‬

لذا،‭ ‬ليس‭ ‬غريباً‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬رَدّة‭ ‬فعل‭ ‬تقترب‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬الرِّدة‭ ‬حيث‭ ‬وصل‭ ‬حال‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭ ‬بأن‭ ‬يجاهر‭ ‬أفرادها‭ ‬بأنهم‭ ‬ينسلخون‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬والأمر‭ ‬صار‭ ‬أشبه‭ ‬بالحظيرة‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬أبوابها‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬هنالك‭ ‬مجال‭ ‬لإعادة‭ ‬الخيول‭ ‬إليها‭ ‬ثانية،‭ ‬فلقد‭ ‬فرّط‭ ‬“الصّاحون”‭ ‬في‭ ‬فرصة‭ ‬كبرى‭ ‬لبسط‭ ‬مبادئ‭ ‬دين‭ ‬أكثر‭ ‬عصرية،‭ ‬وأكثر‭ ‬تسامحاً‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬احتكاره‭ ‬وتجميده‭.‬