عندما لعب حُسن النوايا دوره!

| عبدالنبي الشعلة

“في‭ ‬السياسة،‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬مستعد‭ ‬لدفع‭ ‬ثمن‭ ‬لشيء‭ ‬حصل‭ ‬عليه‭ ‬بالفعل”؛‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬خلاصة‭ ‬حديثنا‭ ‬لهذا‭ ‬اليوم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬السياسي‭ ‬المخضرم‭ ‬وزير‭ ‬خارجية‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأسبق‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬عندما‭ ‬أعلن‭ ‬الرئيس‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1972‭ ‬إنهاء‭ ‬مهمة‭ ‬الخبراء‭ ‬والمستشارين‭ ‬السوفييت‭ ‬وطلب‭ ‬منهم‭ ‬مغادرة‭ ‬مصر‭ ‬خلال‭ ‬48‭ ‬ساعة،‭ ‬وقد‭ ‬قُدر‭ ‬عددهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بنحو‭ ‬20‭ ‬ألف‭ ‬فرد‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العسكريين‭ ‬والمدربين‭.‬

وما‭ ‬كتبه‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬سياقه‭ ‬الكامل‭ ‬جاء‭ ‬كالتالي‭: ‬“لماذا‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬لنا‭ ‬السادات‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينوي‭ ‬فعله؟‭ ‬ربما‭ ‬لو‭ ‬أبلغنا‭ ‬مسبقا‭ ‬لكنا‭ ‬قدمنا‭ ‬له‭ ‬شيئا‭ ‬فى‭ ‬المقابل‭! ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬أخر،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬مستعد‭ ‬لدفع‭ ‬ثمن‭ ‬لشيء‭ ‬حصل‭ ‬عليه‭ ‬بالفعل”‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬آل‭ ‬سعود‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬بما‭ ‬عرف‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬حصافة‭ ‬وبصيرة‭ ‬وبعد‭ ‬نظر،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استشعروا‭ ‬وأدركوا‭ ‬حتمية‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬والعقيدة‭ ‬الشيوعية،‭ ‬وكان‭ ‬قلقًا‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬مصالحها‭ ‬ومصائرها‭ ‬بالاتحاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬والرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬المقتنعين‭ ‬والمتبنين‭ ‬لهذا‭ ‬المنظور،‭ ‬وهنا‭ ‬تلاقت‭ ‬رؤية‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الزعيمين‭ ‬العربيين‭ ‬بشأن‭ ‬العلاقات‭ ‬العربية‭ ‬السوفييتية‭ ‬والوجود‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

ومن‭ ‬موقعه‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬القيادة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬مركزه‭ ‬كنائب‭ ‬للرئيس،‭ ‬فقد‭ ‬شارك‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬في‭ ‬صولات‭ ‬وجولات‭ ‬المباحثات‭ ‬المضنية‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬مع‭ ‬القيادة‭ ‬السوفييتية،‭ ‬وكان‭ ‬أهمها‭ ‬الزيارة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬موسكو‭ ‬من‭ ‬22‭ ‬إلى‭ ‬25‭ ‬يناير‭ ‬1970‭ ‬والتي‭ ‬شرح‭ ‬فيها‭ ‬خطورة‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬تواجهه‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬الاستنزاف‭ ‬إزاء‭ ‬التفوق‭ ‬العسكري‭ ‬لإسرائيل؛‭ ‬نتيجة‭ ‬للأسلحة‭ ‬الحديثة‭ ‬المتطورة‭ ‬التي‭ ‬تصلها‭ ‬باستمرار‭ ‬وانتظام‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬وطالب‭ ‬عبدالناصر‭ ‬السوفييت،‭ ‬بعد‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة،‭ ‬بتزويد‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬بنظام‭ ‬متكامل‭ ‬ومتطور‭ ‬للدفاع‭ ‬الجوي،‭ ‬يتضمن‭ ‬وحدات‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬صواريخ‭ ‬سام‭ ‬3،‭ ‬وأسراب‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬طائرات‭ ‬الميج‭ ‬21‭ ‬المعدلة‭ ‬بطيارين‭ ‬سوفييت،‭ ‬وأجهزة‭ ‬رادار‭ ‬متطورة‭ ‬للإنذار‭ ‬والتتبع‭ ‬بأطقم‭ ‬سوفييتية‭ ‬حتى‭ ‬يمكن‭ ‬مواجهة‭ ‬التفوق‭ ‬الجوي‭ ‬النوعي‭ ‬والكمي‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬كما‭ ‬كرر‭ ‬المطالبة‭ ‬بطائرات‭ ‬قاذفة‭ ‬متطورة‭ ‬لردع‭ ‬إسرائيل؛‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬مدى‭ ‬الطائرات‭ ‬القاذفة‭ ‬الروسية‭ ‬الموجودة‭ ‬لدى‭ ‬القوات‭ ‬الجوية‭ ‬المصرية‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬إسرائيل‭ ‬مثل‭ ‬طائرات‭ ‬الفانتوم‭ ‬التي‭ ‬زودت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بها‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وقد‭ ‬اضطر‭ ‬عبدالناصر‭ ‬إلى‭ ‬تصعيد‭ ‬وتيرة‭ ‬المباحثات‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬هدد‭ ‬أمام‭ ‬القادة‭ ‬السوفييت‭ ‬بترك‭ ‬الحكم‭ ‬لزميل‭ ‬آخر‭ ‬يمكنه‭ ‬التفاهم‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

وتقاسم‭ ‬السادات‭ ‬مع‭ ‬الرئيس‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ألم‭ ‬ومرارة‭ ‬تسويف‭ ‬ومماطلات‭ ‬السوفييت‭ ‬وتباطؤهم‭ ‬في‭ ‬تزويد‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬بالأسلحة‭ ‬والمعدات‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬يحتاجها‭ ‬استعدادًا‭ ‬لتحرير‭ ‬سيناء‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬والثقة‭ ‬للجيش‭ ‬المصري‭ ‬التي‭ ‬ضاعت‭ ‬منه‭ ‬نتيجة‭ ‬نكسة‭ ‬أو‭ ‬هزيمة‭ ‬حرب‭ ‬67‭.‬

وبعد‭ ‬تسلمه‭ ‬السلطة‭ ‬إثر‭ ‬الوفاة‭ ‬المفاجئة‭ ‬للرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1970‭ ‬واصل‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬محاولاته‭ ‬مع‭ ‬السوفييت،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬مثقلًا‭ ‬ومشحونًا‭ ‬بأحاسيس‭ ‬التذمر‭ ‬والتشنج‭ ‬والاستياء‭ ‬جراء‭ ‬استمرارهم‭ ‬في‭ ‬المماطلة‭ ‬والتسويف‭ ‬والإخفاق‭ ‬في‭ ‬الإيفاء‭ ‬بالوعود‭ ‬والالتزامات،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬راسخة‭ ‬بتفوق‭ ‬كفاءة‭ ‬الأنظمة‭ ‬والأسلحة‭ ‬الأميركية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬والغربية‭ ‬عمومًا‭ ‬مقارنة‭ ‬بمثيلاتها‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬وقد‭ ‬ازدادت‭ ‬هذه‭ ‬القناعة‭ ‬ترسخًا‭ ‬لديه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمكنت‭ ‬الطائرات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فانتوم‭ ‬وميراج‭ ‬في‭ ‬اشتباك‭ ‬جوي‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬إسقاط‭ ‬خمس‭ ‬طائرات‭ ‬مصرية‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬ميغ‭ ‬21‭ ‬كان‭ ‬يقودها‭ ‬طيارون‭ ‬سوفييت‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1970،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬السادات‭ ‬مقتنعًا‭ ‬أيضًا‭ ‬بأن‭ ‬الوجود‭ ‬العسكري‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬صار‭ ‬يشكل‭ ‬عبئًا‭ ‬يعوق‭ ‬ويشل‭ ‬الإرادة‭ ‬المصرية،‭ ‬وأحس‭ ‬كذلك‭ ‬بوجود‭ ‬تململ‭ ‬ونفور‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬العسكري‭ ‬السوفييتي‭ ‬داخل‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬السادات‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التقييم‭ ‬وعلى‭ ‬هذه‭ ‬القناعات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬ليس‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬أطقم‭ ‬القيادة‭ ‬السياسية‭ ‬العليا‭ ‬وكبار‭ ‬ضباط‭ ‬الجيش‭ ‬يشاركونه‭ ‬الأحاسيس‭ ‬نفسها،‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬المشير‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحليم‭ ‬أبوغزالة،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬وزيرًا‭ ‬للدفاع‭ ‬والذي‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬ألكسندر‭ ‬بيلونوجوف‭ ‬أول‭ ‬سفير‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬استئناف‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1984‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬“سفير‭ ‬فى‭ ‬بلاد‭ ‬الأهرامات”‭ ‬حيث‭ ‬كتب‭ ‬قائلًا‭: ‬“التقيت‭ ‬الكثيرين،‭ ‬لكننى‭ ‬لم‭ ‬ألتقِ‭ ‬المشير‭ ‬أبوغزالة‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬فى‭ ‬صدارة‭ ‬قائمة‭ ‬الشخصيات‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬لقاءها‭ ‬ولاسيما‭ ‬بحكم‭ ‬منصبه؛‭ ‬لمناقشة‭ ‬قضايا‭ ‬استئناف‭ ‬التعاون‭ ‬العسكرى‭ ‬بين‭ ‬البلدين،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتعجل‭ ‬استقبالى‭... ‬وكان‭ ‬أبوغزالة،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬تلقى‭ ‬تدريباته‭ ‬العسكرية‭ ‬فى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتى،‭ ‬لا‭ ‬يكنّ‭ ‬مشاعر‭ ‬المودة‭ ‬تجاه‭ ‬بلادنا‭. ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬قضى‭ ‬بضعة‭ ‬أعوام‭ ‬فى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬فى‭ ‬منصب‭ ‬الملحق‭ ‬الحربي،‭ ‬تحول‭ ‬تماما‭ ‬بتوجهاته‭ ‬وميوله‭ ‬صوب‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬عموما‭ ‬لقد‭ ‬تولد‭ ‬لديَّ‭ ‬هذا‭ ‬الانطباع‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬شهادات‭ ‬من‭ ‬تعاملت‭ ‬معهم‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬السلك‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬المصريين‭. ‬وكان‭ ‬أبوغزالة‭ ‬من‭ ‬موقعه‭ ‬نائبًا‭ ‬لرئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬ووزيرا‭ ‬للدفاع‭ ‬يمتلك‭ ‬تأثيرا‭ ‬كبيرا‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتى،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬فى‭ ‬قضايا‭ ‬أخرى‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬وحده‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الشأن”‭.‬

وعند‭ ‬المنعطف‭ ‬المناسب‭ ‬تحرك‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬بدافع‭ ‬الغيرة‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬وشعبها‭ ‬ووقف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬وسانده،‭ ‬وكلف‭ ‬الأمير‭ ‬بندر‭ ‬بن‭ ‬سلطان‭ ‬والسيد‭ ‬كمال‭ ‬أدهم‭ ‬مستشاره‭ ‬الخاص‭ ‬بدعم‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬عندما‭ ‬يقرر‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬أعباء‭ ‬الوجود‭ ‬السوفييتي،‭ ‬والتعاون‭ ‬والتنسيق‭ ‬معه‭ ‬لفتح‭ ‬قنوات‭ ‬الاتصال‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض،‭ ‬ونُصحه‭ ‬بضرورة‭ ‬التباحث‭ ‬المسبق‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬قبل‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬المقايضة‭ ‬والمساومة‭ ‬المشروعة‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأوضاع؛‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬ضمان‭ ‬حصول‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬ثمن‭ ‬مجزٍ‭ ‬مقابل‭ ‬تقديم‭ ‬مكسب‭ ‬سياسي‭ ‬ونصر‭ ‬استراتيجي‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬طبق‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬بطرد‭ ‬السوفييت‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬وكذلك‭ ‬ضمان‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬البديل‭ ‬وعلى‭ ‬الدعم‭ ‬السياسي‭ ‬الأميركي‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬خططه‭ ‬وجهوده‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬سلمي‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬واستعادة‭ ‬أراضي‭ ‬مصر‭ ‬المحتلة‭.‬

‭ ‬وسيظل‭ ‬التاريخ‭ ‬تائهًا‭ ‬وحائرًا‭ ‬حيال‭ ‬تصرف‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬وعدم‭ ‬أخذه‭ ‬بهذه‭ ‬النصيحة‭ ‬البديهية‭ ‬عندما‭ ‬أدهش‭ ‬المصريين‭ ‬والرأى‭ ‬العام‭ ‬العربي‭ ‬والعالمى‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬الخبراء‭ ‬السوفييت‭ ‬مغادرة‭ ‬مصر‭ ‬بأسلوب‭ ‬استعراضي‭ ‬مهين،‭ ‬وقد‭ ‬علق‭ ‬الزعيم‭ ‬السوفييتى‭ ‬ليونيد‭ ‬بريجنيف‭ ‬بمرارة‭ ‬على‭ ‬قرار‭ ‬السادات‭ ‬قائلًا‭: ‬“لقد‭ ‬حقق‭ ‬السادات‭ ‬للأميركيين‭ ‬أشد‭ ‬أحلامهم‭ ‬جموحا‭ ‬دون‭ ‬ثمن”‭. ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذُكر‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬فقد‭ ‬وصف‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬خطوة‭ ‬السادات‭ ‬المفاجئة‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬“خطأً‭ ‬فادحًا”،‭ ‬مضيفًا‭: ‬“لو‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬حاول‭ ‬وضع‭ ‬ثمن‭ ‬لمبادرته‭ ‬تلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشرع‭ ‬في‭ ‬تنفيذها،‭ ‬لكُنا‭ ‬دفعنا‭ ‬فيها‭ ‬ثمنًا‭ ‬غاليًا‭ ‬جدًّا”‭.‬

التفسير‭ ‬الممكن‭ ‬لهذا‭ ‬التصرف‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬السادات،‭ ‬بعمق‭ ‬إيمانه‭ ‬الديني‭ ‬وتمسكه‭ ‬بقيم‭ ‬وأخلاق‭ ‬القرية‭ ‬المصرية‭ ‬تصرف‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬حسن‭ ‬النوايا‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حسن‭ ‬النوايا‭ ‬عملة‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬السياسة،‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فإن‭ ‬الأمور‭ ‬والتصرفات‭ ‬يحكم‭ ‬عليها‭ ‬بنتائجها،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬أبعد‭ ‬السادات‭ ‬السوفييت‭ ‬عن‭ ‬أرض‭ ‬مصر‭ ‬ورفع‭ ‬أيديهم‭ ‬عن‭ ‬القرار‭ ‬المصري‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬نصر‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭ ‬وقاد‭ ‬مفاوضات‭ ‬شاقة‭ ‬معها‭ ‬توجت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬باستعادة‭ ‬مصر‭ ‬لكامل‭ ‬أراضيها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬إسرائيل‭ ‬قد‭ ‬احتلتها‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1967،‭ ‬دون‭ ‬حرب‭ ‬أو‭ ‬إسالة‭ ‬دماء‭ ‬أو‭ ‬إزهاق‭ ‬لأرواح‭ ‬مصرية‭ ‬أو‭ ‬تكبد‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الخسائر‭ ‬المادية‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضغطت‭ ‬أميركا‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭ ‬لتوافق‭ ‬على‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬سيناء‭.‬