قهوة الصباح

حنين الضحية للمسلخ (23)

| سيد ضياء الموسوي

‭ ‬المازوخية‭ ‬هي‭ ‬مصطلح‭ (‬بالإنجليزية‭: ‬masochism‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬تمتع‭ ‬وتلذذ‭ ‬الضحية‭ ‬بالجلاد،‭ ‬وكلما‭ ‬عذبها‭ ‬زاد‭ ‬تمتعها‭. ‬إنها‭ ‬قصة‭ ‬الرافضين‭ ‬من‭ ‬العشاق‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬عبودية‭ ‬العشق‭ ‬القاتلة‭. ‬يقول‭ ‬المتنبي‭: ‬فإن‭ ‬قليل‭ ‬الحب‭ ‬بالعقل‭ ‬صالحُ‭.. ‬وان‭ ‬كثير‭ ‬الحب‭ ‬بالجهل‭ ‬فاسدُ‭) ‬تتزاحم‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬مقالي‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬المتابعين،‭ ‬لماذا‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالتنظير‭ ‬عن‭ ‬خطورة‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬أفخاخ‭ ‬وحوش‭ ‬الحب؟‭ ‬ما‭ ‬يصلني‭ ‬من‭ ‬رسائل‭ ‬تلح‭ ‬عليَّ‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬النزف؛‭ ‬لان‭ ‬الضحايا‭ ‬بعدد‭ ‬حبات‭ ‬الرمل‭. ‬إنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬مخيفة،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مواسم‭ ‬لصيد‭ ‬الأسماك،‭ ‬فأسماك‭ ‬الزينة‭ ‬البشرية‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬مواسم‭ ‬للاصطياد،‭ ‬فكل‭ ‬العام‭ ‬موسم‭ ‬صيد،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬القلوب‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬الشباك،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬خمسة‭ ‬أشخاص‭ ‬يوجد‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬شباك‭ ‬أسماك‭ ‬قرش‭ ‬الحب،‭ ‬إنها‭ ‬لعبة‭ ‬دامية‭! ‬كثر‭ ‬عضاضو‭ ‬الرقاب‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬دماء‭ ‬مال‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الاصطياد‭ ‬باسم‭ ‬الحب‭. ‬وإن‭ ‬أخطر‭ ‬من‭ ‬العدو‭ ‬الواضح‭ ‬العدو‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬حبيب‭ ‬يقول‭ ‬المتنبي‭: ‬

ومِن‭ ‬العداوةِ‭ ‬ما‭ ‬ينالُكَ‭ ‬نفعُه

ومِن‭ ‬الصداقةِ‭ ‬ما‭ ‬يَضُرُّ‭ ‬ويُؤْلِمُ

لا‭ ‬عليكم‭ ‬من‭ ‬البهارج،‭ ‬والابتسامات‭ ‬المصطنعة‭ ‬الموزعة‭ ‬في‭ ‬السوشل‭ ‬ميديا،‭ ‬والعلاقات‭ ‬التي‭ ‬تلتقط‭ ‬الصور‭ ‬الفوتغرافية،‭ ‬فعلاقاتنا‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬أستوديو‭ ‬كبير،‭ ‬نلتقط‭ ‬قيه‭ ‬صورا‭ ‬لخيباتنا‭ ‬العاطفية‭ ‬المذابة‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬العدسات‭ ‬لنفرغها‭ ‬في‭ (‬البومات‭) ‬وجعنا،‭ ‬لتكون‭ ‬ذكرى‭ ‬لأضرحة‭ ‬ألم‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬صور‭ ‬ملونة‭. ‬يقول‭ ‬نزارقباني‭ (‬ليس‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬يقال،‭ ‬لذلك‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬التنهيدة،‭ ‬الدموع،‭ ‬النوم‭ ‬الطويل،‭ ‬الابتسامة‭ ‬الباردة،‭ ‬ورجف‭ ‬اليدين‭). ‬نحن‭ ‬تعساء‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬وفاشلون‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬المدنية،‭ ‬وبناء‭ ‬الحضارة؛‭ ‬لأننا‭ ‬تعساء‭ ‬في‭ ‬علاقتنا‭ ‬العاطفية‭ ‬وعلاقاتنا‭ ‬العائلية،‭ ‬وعلاقاتنا‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬والمجتمع‭ ‬والجامعة‭ ‬والجامع‭.. ‬نمشي‭ ‬بعقد‭ ‬سيكولوجية،‭ ‬وكل‭ ‬يمارس‭ ‬استبداده‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬حجم‭ ‬الضحية،‭ ‬والقضية‭ ‬نسبية‭. ‬يقول‭ ‬هشام‭ ‬شرابي‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬علاقاتنا‭ ‬البطريركية،‭ ‬إنها‭ ‬أبوية‭ ‬فاقعة‭ ‬مستبدة‭ ‬والضحايا‭ ‬من‭ ‬ضحايا‭ ‬يولدون‭. ‬تقول‭ ‬مستغانمي‭ ‬ما‭ ‬مضمونه‭ ‬“عندما‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬يتكفّل‭ ‬بتنغيص‭ ‬حياته،‭ ‬وخنق‭ ‬أنفاسه،‭ ‬يتولّى‭ ‬بنفسه‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬منغص،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬لا‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حبيب‭ ‬عادل،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬حبيب‭ ‬طاغية‭ ‬جبّار‭ ‬يسلّمه‭ ‬روحه‭ ‬كي‭ ‬يفتك‭ ‬بها‭. ‬مُصرا‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬أسيرا‭ ‬في‭ ‬معسكرات‭ ‬الاعتقال‭ ‬العاطفي”‭. ‬فـ‭ ‬“فامبايرز”‭ ‬مصاصو‭ ‬دماء‭ ‬العلاقات‭ ‬العاطفية‭ ‬كثر،‭ ‬وأصبح‭ ‬الشباك‭ ‬الواحد‭ ‬لمصاص‭ ‬واحد‭ ‬فائض‭ ‬بالسمك‭ ‬الغبي،‭ ‬وقد‭ ‬تصطاد‭ ‬سمكة‭ ‬لاصطياد‭ ‬بحر‭ ‬بأكمله‭. ‬قال‭ ‬بسمارك‭ ‬يوما‭: ‬“حين‭ ‬أضع‭ ‬الطعم‭ ‬لصيد‭ ‬الغزلان،‭ ‬لا‭ ‬أطلق‭ ‬السهم‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬ضبي‭ ‬يأتي‭ ‬ليتشممه،‭ ‬بل‭ ‬انتظر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬القطيع‭ ‬بكامله‭). ‬افتحوا‭ ‬القلوب‭ ‬ستجدوا‭ ‬أننا‭ ‬معضوصون‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬العضم‭. ‬هناك‭ ‬عضاض‭ ‬وظائف،‭ ‬وهناك‭ ‬عضاض‭ ‬مال،‭ ‬وهناك‭ ‬عضاض‭ ‬قلوب‭. ‬ولن‭ ‬نشفى‭ ‬لأننا‭ ‬نكابر‭ ‬إما‭ ‬بنرجسية‭ ‬ثقافية‭ ‬أو‭ ‬انتفاخ‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬تكدس‭ ‬مال‭ ‬أو‭ ‬شهوة‭ ‬شهرة‭ ‬وشهية‭ ‬امتداد‭ ‬واستعمار‭ ‬قلب‭.. ‬نتوارى‭ ‬خلفهم،‭ ‬مغلفين‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬عقل‭ ‬الباطن‭. ‬

هذا‭ ‬الاكتضاض‭ ‬على‭ ‬المقاهي،‭ ‬والمولات‭ ‬والعلاقات‭ ‬الفاستفودية‭ ‬تعكس‭ ‬وجود‭ ‬فشل‭ ‬حب‭ ‬عام،‭ ‬يعكس‭ ‬سيكولوجيا،‭ ‬على‭ ‬اتساع‭ ‬ظاهرة‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬والالتفاف‭ ‬على‭ ‬آلام‭ ‬مخفية،‭ ‬وقلوب‭ ‬محطمة‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬اكتئاب‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬انهيار‭ ‬عاطفي‭ ‬أو‭ ‬تهلهل‭ ‬علاقات‭ ‬أسرية‭ ‬منهوكة‭ ‬التعب‭ ‬كجندي‭ ‬هارب‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬يقول‭ ‬روبرت‭ ‬جرين‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الرائع‭ ‬كيف‭ ‬تمسك‭ ‬بزمام‭ ‬السلطة،‭ ‬واعتبر‭ ‬الكتاب‭ ‬مكملا‭ ‬لمكيافيللي‭: ‬“السطوة‭ ‬أشبه‭ ‬بالمرأة‭ ‬الفاتنة‭ ‬سيئة‭ ‬السمعة،‭ ‬يطلبها‭ ‬الجميع،‭ ‬ويتبرأ‭ ‬منها‭ ‬الجميع”‭. ‬إنها‭ ‬لعنة‭ ‬المدنية،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬على‭ ‬الوردي‭: ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬إذا‭ ‬قبلنا‭ ‬بالمدنية‭ ‬إلا‭ ‬القبول‭ ‬بكل‭ ‬شروطها،‭ ‬وأول‭ ‬الشروط‭: ‬الأنانية،‭ ‬والقلق،‭ ‬وغياب‭ ‬الاطمئنان‭. ‬نحن‭ ‬وحوش‭ ‬في‭ ‬علاقاتنا‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أشبه‭ ‬بغابة،‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬يحفر‭ ‬للآخر‭. ‬وقطاع‭ ‬طريق‭ ‬في‭ ‬التحرش‭ ‬بالأديان،‭ ‬والنبش‭ ‬في‭ ‬قمامة‭ ‬التاريخ‭ ‬لاصطياد‭ ‬القنابل‭ ‬الطائفية‭ ‬لإطفاء‭ ‬ضمأ‭ ‬انحطاط‭ ‬داخلي‭ ‬مشبع‭ ‬بتأليب‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬بعضها‭. ‬نواري‭ ‬سوآتنا‭ ‬بأوراق‭ ‬التوت‭ ‬المصطنعة‭ ‬من‭ ‬ابتساماتنا‭ ‬المكتنزة‭ ‬بدم‭ ‬المصداقية‭. ‬

إن‭ ‬أمة‭ ‬تفشل‭ ‬في‭ ‬علاقاتها‭ ‬العاطفية‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬علاقة‭ ‬عاطفية‭ ‬مع‭ ‬الأرض‭ ‬أو‭ ‬تعقد‭ ‬علاقة‭ ‬غرامية‭ ‬مع‭ ‬الوطن‭. ‬تخلصوا‭ ‬من‭ ‬“الحبيب‭ ‬الطاغية”‭ ‬لتنعموا‭ ‬بطغيان‭ ‬الحرية‭. ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬الاجتماع‭ ‬في‭ ‬عبودية‭. ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ (‬ع‭) ‬“يا‭ ‬أيها‭ ‬المرء‭ ‬فكن‭ ‬مفردا‭ ‬دهرَك‭ ‬لا‭ ‬تأنس‭ ‬بإنسانِ،‭ ‬وجانب‭ ‬الناس‭ ‬وكن‭ ‬حافظا‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬وحيطانِ”‭.‬