في ذكرى كارثة حزيران

| عبدالنبي الشعلة

حديث‭ ‬اليوم‭ ‬موجه‭ ‬إلى‭ ‬شباب‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬الكثير‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬يسمعوا‭ ‬عن‭ ‬كارثة‭ ‬حلت‭ ‬بنا،‭ ‬نحن‭ ‬العرب،‭ ‬سميناها‭ ‬تخفيفًا‭ ‬بـ‭ ‬“نكسة‭ ‬حزيران‭ ‬67”،‭ ‬الذي‭ ‬يصادف‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬مرور‭ ‬52‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬ذكراها‭ ‬المخجلة‭ ‬المؤلمة،‭ ‬ولنبدأ‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬كراسي‭ ‬مقاهي‭ ‬المنامة‭ ‬والمحرق‭! ‬نعم‭ ‬كراسي‭ ‬مقاهي‭ ‬المنامة‭ ‬والمحرق‭.‬

ففي‭ ‬عقدي‭ ‬الخمسينات‭ ‬والستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬شهدت‭ ‬البحرين‭ ‬توسعًا‭ ‬ملحوظًا‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬المقاهي،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬محدودًا‭ ‬جدًا‭ ‬ومحصورًا‭ ‬في‭ ‬مدينتي‭ ‬المنامة‭ ‬والمحرق،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬المقاهي‭ ‬“قهوة‭ ‬بوضاحي”‭ ‬بالمنامة‭ ‬و‭ ‬“قهوة‭ ‬بوخلف”‭ ‬بالمحرق،‭ ‬وازداد‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬عدد‭ ‬روادها،‭ ‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬فلم‭ ‬يُنسب‭ ‬إلى‭ ‬مقاهي‭ ‬البحرين‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬أو‭ ‬مساهمة‭ ‬أو‭ ‬إفراز‭ ‬أدبي‭ ‬أو‭ ‬فني‭ ‬أو‭ ‬سياسي،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المقاهي‭ ‬صارت‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬مرآة‭ ‬للحراك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تعكس‭ ‬نبض‭ ‬ومزاج‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬ومشاعرهم‭ ‬ومواقفهم،‭ ‬وعاملا‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬حفظ‭ ‬التاريخ‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬أصالة‭ ‬وخصائص‭ ‬وعراقة‭ ‬التراث‭.‬

أتذكر‭ ‬ورأيت‭ ‬بأم‭ ‬عيني‭ ‬وأنا‭ ‬صبي‭ ‬أو‭ ‬شاب‭ ‬صغير،‭ ‬كما‭ ‬رأى‭ ‬غيري،‭ ‬في‭ ‬مقاهي‭ ‬المنامة‭ ‬والمحرق‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬يلقي‭ ‬خطبه‭ ‬الحماسية‭ ‬الرنانة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محطة‭ ‬“صوت‭ ‬العرب”،‭ ‬كان‭ ‬الصمت‭ ‬والهدوء‭ ‬والوجوم‭ ‬يخيم‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬لكي‭ ‬يستطيعوا‭ ‬أن‭ ‬يسمعوا‭ ‬دون‭ ‬أية‭ ‬مقاطعة‭ ‬أو‭ ‬إرباك‭ ‬وبكل‭ ‬تفاعل‭ ‬وإصغاء‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقوله‭ ‬الرئيس‭ ‬المفوه،‭ ‬فعندما‭ ‬يخطب‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬في‭ ‬مقاهي‭ ‬البحرين‭ ‬الشفاه‭ ‬وهي‭ ‬ترشف‭ ‬الشاي،‭ ‬وكركرة‭ ‬الأرجيلات‭ ‬أو‭ ‬“القداوة”،‭ ‬ورنين‭ ‬أكواب‭ ‬أو‭ ‬“استكانات”‭ ‬الشاي‭ ‬حين‭ ‬تقرعها‭ ‬الملاعق‭ ‬الصغيرة‭ ‬عند‭ ‬مزج‭ ‬السكر‭ ‬بالشاي‭.‬

لا‭ ‬تسمع‭ ‬صوتا‭ ‬لأحد‭ ‬إلا‭ ‬صوت‭ ‬القائد‭ ‬البطل‭ ‬وهو‭ ‬يصدح‭ ‬ويلعلع،‭ ‬بكل‭ ‬بلاغة‭ ‬واقتدار،‭ ‬ويتباهى‭ ‬ويتفاخر‭ ‬بما‭ ‬حققته‭ ‬“الثورة‭ ‬المصرية”‭ ‬المجيدة‭ ‬من‭ ‬انتصارات‭ ‬وإنجازات‭ ‬وما‭ ‬حققه‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬من‭ ‬مكتسبات‭ ‬واختراقات‭ ‬بفضلها،‭ ‬ويتغنى‭ ‬بالأمجاد‭ ‬السحيقة‭ ‬الغابرة‭ ‬للأمة‭ ‬العربية‭ ‬الواحدة‭ ‬“ذات‭ ‬الرسالة‭ ‬الخالدة”،‭ ‬ويُمني‭ ‬الجماهير‭ ‬العربية‭ ‬المتلهفة‭ ‬ويعدهم‭ ‬باستنهاض‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬لتحقيق‭ ‬مستقبل‭ ‬مشرق‭ ‬زاهر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تتم‭ ‬الإطاحة‭ ‬بالأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬المتخلفة‭ ‬الفاسدة،‭ ‬ويتم‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬ملوكها‭ ‬وحكامها،‭ ‬وتتوحد‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬وراية‭ ‬قيادة‭ ‬ثورية‭ ‬اشتراكية‭ ‬وحدوية‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬من‭ ‬الحشو‭ ‬والهرج‭ ‬والمرج‭ ‬المطعم‭ ‬بالشتائم‭ ‬وعبارات‭ ‬التحقير‭ ‬واتهامات‭ ‬الخيانة‭ ‬والعمالة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الملوك‭ ‬والحكام‭ ‬والمسؤولين‭ ‬العرب،‭ ‬ليتبعه‭ ‬المذيع‭ ‬أحمد‭ ‬سعيد‭ ‬بصوته‭ ‬الجهوري‭ ‬المميز‭ ‬ليصهل‭ ‬ويتباهى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬بانتصارات‭ ‬وفتوحات‭ ‬موهومة،‭ ‬ثم‭ ‬يزبد‭ ‬ويرعد‭ ‬ويهدد‭ ‬بزوال‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬الرجعية‭ ‬الحاكمة‭ ‬وزوال‭ ‬إسرائيل‭ ‬والإمبريالية‭.‬

قبل‭ ‬52‭ ‬عامًا،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭/‬‏‏‏‭ ‬حزيران‭ ‬1967‭ ‬صفق‭ ‬وهتف‭ ‬رواد‭ ‬المقاهي‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬وفي‭ ‬المنامة،‭ ‬وصفقنا‭ ‬وهتفنا‭ ‬معهم‭ ‬بنشوة‭ ‬وفرحة‭ ‬وحرارة‭ ‬وحماس‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬المذيع‭ ‬أحمد‭ ‬سعيد‭ ‬يعلن‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬وبكل‭ ‬ثقة‭ ‬عن‭ ‬عشرات‭ ‬أو‭ ‬مئات‭ ‬الطائرات‭ ‬الحربية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬التي‭ ‬اخترقت‭ ‬الأجواء‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وكانت‭ ‬تنوي‭ ‬قصف‭ ‬المدن‭ ‬والأهداف‭ ‬المصرية‭ ‬فتصدت‭ ‬لها‭ ‬الدفاعات‭ ‬الجوية‭ ‬وجعلتها‭ ‬“تتساقط‭ ‬كالذباب”،‭ ‬ويعلن‭ ‬كذلك‭ ‬عن‭ ‬فيالق‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬العربية‭ ‬الباسلة‭ ‬وهي‭ ‬تخترق‭ ‬وتجتاز‭ ‬وتكتسح‭ ‬الحدود‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬الجبهات‭ ‬والمحاور‭ ‬المصرية‭ ‬والأردنية‭ ‬والسورية‭ ‬وتحطم‭ ‬الدفاعات‭ ‬والتحصينات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬وتستعيد‭ ‬المدن‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬وتزحف‭ ‬بسرعة‭ ‬مذهلة‭ ‬لكي‭ ‬تطبق‭ ‬“كالكماشة”‭ ‬على‭ ‬تل‭ ‬أبيب،‭ ‬لقد‭ ‬حان‭ ‬وقت‭ ‬إلقاء‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬البحر‭!‬

نشبت‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طالب‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بسحب‭ ‬قوات‭ ‬حفظ‭ ‬السلام‭ ‬التابعة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الحدود‭ ‬المصرية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬في‭ ‬سيناء،‭ ‬وهي‭ ‬القوات‭ ‬التي‭ ‬وُضعت‭ ‬بعد‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬العام‭ ‬1956،‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬بإغلاق‭ ‬مضيق‭ ‬جزيرة‭ ‬تيران‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬أمام‭ ‬الملاحة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وهو‭ ‬المنفذ‭ ‬الوحيد‭ ‬لإسرائيل‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬اعتبرته‭ ‬إسرائيل‭ ‬إعلانًا‭ ‬للحرب‭.‬

وقد‭ ‬قال‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬إن‭ ‬هدف‭ ‬حرب‭ ‬يونيو‭ ‬67‭ ‬أو‭ ‬حرب‭ ‬الأيام‭ ‬الستة‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬سميناها‭ ‬تخفيفًا‭ ‬نكسة‭ ‬حزيران،‭ ‬هو‭ ‬“إزالة‭ ‬آثار‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي”‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬الشقيقة‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1956،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬رواد‭ ‬المقاهي‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬ولا‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬علم،‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬لهم‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬إن‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬آثارًا‭ ‬يتوجب‭ ‬إزالتها،‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬صدقنا‭ ‬بأننا‭ ‬قد‭ ‬تمكنا‭ ‬من‭ ‬دحر‭ ‬ذلك‭ ‬العدوان‭ ‬الغاشم‭ ‬وهزمنا‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإسرائيل‭ ‬وحققنا‭ ‬نصرًا‭ ‬تُرفع‭ ‬له‭ ‬الرؤوس‭ ‬والهامات‭.‬

ومن‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬شك‭ ‬فإن‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬خرج‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬السويس‭ ‬أو‭ ‬حرب‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬بهالة‭ ‬شامخة‭ ‬ساطعة‭ ‬ورصيد‭ ‬إعلامي‭ ‬ضخم‭ ‬جعل‭ ‬نجمه‭ ‬يتألق‭ ‬وعزز‭ ‬مكانته‭ ‬وسمعته‭ ‬بين‭ ‬شعوب‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ودول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬أدركناها‭ ‬لاحقًا‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الكاسب‭ ‬والرابح‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬“العدوان‭ ‬الثلاثي”‭ ‬كانت‭ ‬إسرائيل‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬الخناق‭ ‬عنها‭ ‬وتأمين‭ ‬وضمان‭ ‬حرية‭ ‬مرور‭ ‬سفنها‭ ‬بخليج‭ ‬العقبة‭ ‬“مضيق‭ ‬تيران”‭ ‬وقناة‭ ‬السويس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬مصر‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬فاروق‭ ‬قد‭ ‬أحكمت‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬سفنها‭ ‬وأعاقتها‭ ‬عن‭ ‬عبور‭ ‬القناة‭ ‬والمضيق‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنها‭ ‬تعتبر‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬حرب‭ ‬معها،‭ ‬ورفضت‭ ‬مصر‭ ‬قرار‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬1951‭ ‬للسماح‭ ‬للسفن‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬بالعبور‭.‬

وباختصار‭ ‬شديد‭ ‬فإن‭ ‬جذور‭ ‬أزمة‭ ‬السويس‭ ‬بدأت‭ ‬بالظهور‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬توترت‭ ‬علاقات‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بالدول‭ ‬الغربية‭ ‬بسبب‭ ‬أمور‭ ‬عدة‭ ‬أهمها‭ ‬معارضته‭ ‬لخطط‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ودعمه‭ ‬لحركات‭ ‬التحرر،‭ ‬ووقوفه‭ ‬ضد‭ ‬إنشاء‭ ‬حلف‭ ‬بغداد،‭ ‬واعترافه‭ ‬بالصين‭ ‬الشعبية،‭ ‬وتعاونه‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬وإبرام‭ ‬صفقة‭ ‬أسلحة‭ ‬معه،‭ ‬ورفضه‭ ‬الصلح‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬طبقًا‭ ‬لشروط‭ ‬الغرب‭ ‬وإعلانه‭ ‬العداء‭ ‬والمواجهة‭ ‬معها‭ ‬وتضيّق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬سفنها‭ ‬في‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬وخليج‭ ‬العقبة،‭ ‬ما‭ ‬حدى‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وبريطانيا‭ ‬سحب‭ ‬موافقتهما‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬منح‭ ‬وقروض‭ ‬لمصر‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬لتمويل‭ ‬مشروع‭ ‬السد‭ ‬العالي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬يطمح‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬طفرة‭ ‬زراعية‭ ‬وصناعية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فرأى‭ ‬في‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬فرصته‭ ‬الوحيدة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬التمويل‭ ‬اللازم‭ ‬لبناء‭ ‬السد،‭ ‬وبالفعل‭ ‬وبطريقة‭ ‬استعراضية‭ ‬أعلن‭ ‬في‭ ‬26‭ ‬يوليو‭ ‬1956‭ ‬قرار‭ ‬التأميم،‭ ‬قبل‭ ‬انتهاء‭ ‬مدة‭ ‬الامتياز‭ ‬الممنوح‭ ‬لشركة‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬باثني‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬فقط،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الامتياز‭ ‬سينتهي‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬نوفمبر‭ ‬1968‭ ‬وتعود‭ ‬ملكية‭ ‬القناة‭ ‬بالكامل‭ ‬للحكومة‭ ‬المصرية‭.‬

اعتبرت‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬أن‭ ‬تأميم‭ ‬القناة‭ ‬يشكل‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬خرق‭ ‬لاتفاق‭ ‬دولي‭ ‬ومصادرة‭ ‬وانتهاك‭ ‬لحقوق‭ ‬المستثمرين‭ ‬وتهديدًا‭ ‬للحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وهو‭ ‬إجراء‭ ‬يجب‭ ‬التصدي‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لزم‭ ‬الأمر‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬بالفعل،‭ ‬حيث‭ ‬شنت‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬بالتعاون‭ ‬والتآمر‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬الغاشم‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فشلت‭ ‬وأخفقت‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬والضغوط‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬في‭ ‬ثني‭ ‬عبدالناصر‭ ‬عن‭ ‬قراره‭. ‬

نعود‭ ‬إلى‭ ‬مقاهي‭ ‬البحرين‭ ‬وحرب‭ ‬العام‭ ‬1967،‭ ‬فبعد‭ ‬الأيام‭ ‬الستة‭ ‬التي‭ ‬استغرقتها‭ ‬الحرب‭ ‬أفاق‭ ‬رواد‭ ‬المقاهي‭ ‬وأفقنا‭ ‬معهم‭ ‬وأفاقت‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬بأسرها‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬كالصاعقة‭ ‬التي‭ ‬مزقت‭ ‬أحشاءنا‭ ‬وزلزلت‭ ‬وهزت‭ ‬أركان‭ ‬وجداننا‭ ‬وقضت‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬اعتبرناه‭ ‬ثوابت‭ ‬ومرتكزات‭ ‬وطنية‭ ‬وقومية،‭ ‬كان‭ ‬الوقع‭ ‬ثقيلًا‭ ‬مؤلمًا،‭ ‬والحقيقة‭ ‬مرة‭ ‬ولاذعة‭.‬

فالطائرات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬أو‭ ‬“الذباب”‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬قد‭ ‬أغارت‭ ‬في‭ ‬الساعات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬المطارات‭ ‬ودمرت‭ ‬الطائرات‭ ‬الحربية‭ ‬وهي‭ ‬جاثمة‭ ‬فيها،‭ ‬واستولى‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬على‭ ‬هضبة‭ ‬الجولان‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬والضفة‭ ‬الغربية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القدس‭ ‬الشريف‭ ‬وقطاع‭ ‬غزة‭ ‬وشبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء‭ ‬كلها‭ ‬واستطاعوا‭ ‬التحكم‭ ‬بقناة‭ ‬السويس‭ ‬التي‭ ‬أغلقت‭ ‬لـ‭ ‬6‭ ‬سنوات‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬تشغيلها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1975،‭ ‬وحصلت‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬أراضٍ‭ ‬إضافية‭ ‬تقدر‭ ‬بـ‭ ‬3‭ ‬أضعاف‭ ‬ونصف‭ ‬مساحتها‭.‬

كان‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬أشجع‭ ‬قادة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬الثلاث‭ ‬التي‭ ‬خاضت‭ ‬الحرب،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬ممثل‭ ‬عرفه‭ ‬التاريخ،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬اعترف‭ ‬بأخطائه‭ ‬وهزيمته‭ ‬وأعلن‭ ‬عن‭ ‬مسؤوليته‭ ‬عما‭ ‬حدث‭ ‬وقرر‭ ‬الاستقالة‭ ‬أو‭ ‬التنحي‭ ‬عن‭ ‬الحكم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مظاهرات‭ ‬صاخبة‭ ‬غاضبة‭ ‬وحزينة‭ ‬خَرجت‭ ‬أو‭ ‬أُخرجت‭ ‬للشوارع‭ ‬مطالبة‭ ‬الرئيس‭ ‬المهزوم‭ ‬بالعدول‭ ‬عن‭ ‬قراره‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬وقيادة‭ ‬الأمة،‭ ‬فاضطر‭ ‬الرئيس‭ ‬مرغمًا‭ ‬وربما‭ ‬مكرهًا‭ ‬إلى‭ ‬الرضوخ‭ ‬والنزول‭ ‬عند‭ ‬رغبة‭ ‬وإرادة‭ ‬الأمة‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭!‬

فهل‭ ‬أخفق‭ ‬جيلنا‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬واستيعاب‭ ‬دروس‭ ‬وعبر‭ ‬مصيبة‭ ‬أو‭ ‬كارثة‭ ‬أو‭ ‬“نكسة‭ ‬حزيران”؟‭ ‬ويا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬نكسة‭! ‬فقد‭ ‬مرت‭ ‬الذكرى‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذكرها‭ ‬أحد‭!‬