التقاعد... وما أدراك

| زهير توفيقي

تناول‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والأفراد‭ ‬من‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭ ‬والخاص‭ ‬موضوع‭ ‬التقاعد،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬يختلف‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬وشخصياً‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أطرح‭ ‬ما‭ ‬استنتجته‭ ‬بعد‭ ‬حوالي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬على‭ ‬تقاعدي‭ ‬الشخصي‭ ‬بعد‭ ‬خدمة‭ ‬متواصلة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المنشأة‭ ‬لمدة‭ ‬‮٣٧‬‭ ‬عاماً‭. ‬

وبدون‭ ‬ذكر‭ ‬تفاصيل‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬مع‭ ‬معشوقتي‭ (‬مؤسستي‭) ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬مثل‭ ‬الجامعة‭ ‬التي‭ ‬اكتسبت‭ ‬منها‭ ‬كل‭ ‬خبراتي‭ ‬وعلاقاتي‭ ‬ومعرفتي‭ ‬وبناء‭ ‬وتطوير‭ ‬شخصيتي‭.‬

بتاريخ‭ ‬‮١‬‭ ‬يوليو‭ ‬الذي‭ ‬صادف‭ ‬مرور‭ ‬شهر‭ ‬على‭ ‬تقاعدي‭ ‬والذي‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬يوم‭ ‬ميلادي،‭ ‬تلقيت‭ ‬اتصالاً‭ ‬كريما‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬الشركة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬بها،‭ ‬وبعد‭ ‬السؤال‭ ‬الكريم‭ ‬عني،‭ ‬بادرني‭ ‬بالسؤال‭ ‬التالي،‭ ‬كم‭ ‬عاما‭ ‬تشعر‭ ‬بأنك‭ ‬صغرت‭ ‬أو‭ ‬كبرت‭ ‬منذ‭ ‬تقاعدك؟‭ ‬وباشرته‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬أشعر‭ ‬أنني‭ ‬صغرت‭ ‬‮١٠‬‭ ‬سنوات‭. ‬لا‭ ‬أبالغ‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬اقتنعت‭ ‬بأن‭ ‬جميع‭ ‬الأوهام‭ ‬والتخوف‭ ‬من‭ ‬التقاعد‭ ‬كان‭ ‬خطأ‭ ‬كبيرا،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬صفاء‭ ‬الذهن‭ ‬والبال‭ ‬له‭ ‬مفعول‭ ‬السحر،‭ ‬لا‭ ‬مخاوف‭ ‬ولا‭ ‬هم‭ ‬ولا‭ ‬توتر‭ ‬ولا‭ ‬متابعة‭ ‬للأعمال‭ ‬اليومية‭ ‬وقراءة‭ ‬البريد‭ ‬الإلكتروني‭ ‬والرد‭ ‬عليه،‭ ‬وبعيداً‭ ‬عن‭ ‬المجاملات‭. ‬

خلال‭ ‬شهر‭ ‬فقط‭ ‬اكتشفت‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬الأشخاص‭ ‬الحقيقيون،‭ ‬وتأكدت‭ ‬أن‭ ‬علاقتي‭ ‬كانت‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬والاحترام‭ ‬والإخلاص،‭ ‬وسقطت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأقنعة‭ ‬الزائفة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترسم‭ ‬العلاقة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬مجرد‭ ‬مصلحة‭ ‬وتنتهي‭ ‬بعد‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬عملي،‭ ‬وأنا‭ ‬سعيد‭ ‬بذلك‭ ‬لأنهم‭ ‬كشفوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬ومعدنهم‭.‬

في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬الشرقية‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬الشديد‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬وضعنا‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬صحتنا‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أهمّ‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬نفكر‭ ‬فيها،‭ ‬لدرجة‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نؤجل‭ ‬مواعيد‭ ‬طبية‭ ‬بسبب‭ ‬أعمالنا‭! ‬لا‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬سعادتنا‭ ‬وكم‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬عمرنا‭ ‬وإذا‭ ‬حسبنا‭ ‬بأن‭ ‬التقاعد‭ ‬هو‭ ‬سن‭ ‬الستين،‭ ‬ولنكن‭ ‬واقعيين‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نستمتع‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬المتبقية‭ ‬من‭ ‬عمرنا‭ ‬فهي‭ ‬قصيرة‭ ‬جداً‭ ‬جداً،‭ ‬إذا‭ ‬هذا‭ ‬معناه‭ ‬أننا‭ ‬انشغلنا‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬العملية‭ ‬ولم‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬نبدأ‭ ‬فيه‭ ‬حياة‭ ‬مريحة‭ ‬ونستمتع‭ ‬بها‭.‬

أتذكر‭ ‬أنني‭ ‬قابلت‭ ‬سائحاً‭ ‬غربيا‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬حضر‭ ‬في‭ ‬يخته‭ ‬الخاص‭ ‬لقضاء‭ ‬إجازته‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬وأحفاده،‭ ‬أتذكر‭ ‬كلامه‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬تقاعد‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬‮٥٥‬‭ ‬وكان‭ ‬يملك‭ ‬مصنعاً‭ ‬صغيراً‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬فبادرت‭ ‬بالسؤال‭: ‬ألا‭ ‬تظن‭ ‬أن‭ ‬عمرك‭ ‬صغير‭ ‬لتتقاعد؟‭ ‬أجابني‭ ‬بلا‭ ‬تردد‭ ‬بأنه‭ ‬اتخذ‭ ‬قراره‭ ‬لكي‭ ‬ينعم‭ ‬بما‭ ‬عمله‭ ‬طوال‭ ‬سنين‭ ‬عمله،‭ ‬فلم‭ ‬يبق‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬الكثير،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أنه‭ ‬عمل‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬وساعات‭ ‬طويلة‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬وقرر‭ ‬أن‭ ‬يبيع‭ ‬مصنعه‭ ‬ويتفرغ‭ ‬لحياته‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يعشها‭ ‬بعد‭.‬

الخلاصة‭... ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬المتعصبين‭ ‬أو‭ ‬المتشددين‭ ‬لفكرة‭ ‬التقاعد‭ ‬المبكر،‭ ‬فإيجابياته‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬سلبياته‭ ‬والكل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬قرار‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬إيجابيات‭ ‬وسلبيات،‭ ‬مع‭ ‬تمنياتي‭ ‬للمتقاعدين‭ ‬بحياة‭ ‬ملؤها‭ ‬الصحة‭ ‬والسعادة‭ ‬وطول‭ ‬العمر‭.‬