الانتماء وبناء الهوية الوطنية

| عبدعلي الغسرة

يعيش‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬المتغيرات‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬عولمة‭ ‬ألغت‭ ‬كل‭ ‬الثقافات‭ ‬الوطنية‭ ‬وأضعفت‭ ‬الشعور‭ ‬بالهوية‭ ‬والانتماء‭ ‬للبلدان‭ ‬والقيم،‭ ‬وفتحت‭ ‬المجال‭ ‬واسعًا‭ ‬للتشكيك‭ ‬في‭ ‬الثوابت‭ ‬الوطنية‭ ‬والمقدسات‭ ‬الدينية،‭ ‬وطعنت‭ ‬بالبنى‭ ‬الحضارية‭ ‬والثقافية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتسلحت‭ ‬بقاعدة‭ ‬إعلامية‭ ‬ورقمية‭ ‬تكنولوجية‭ ‬لتدمير‭ ‬كل‭ ‬الموروثات‭ ‬لتغرس‭ ‬بدائلها‭ ‬فكرًا‭ ‬ومنهجًا‭ ‬وسُبلًا‭ ‬لإثبات‭ ‬ذاتها‭ ‬وإلغاء‭ ‬الآخر‭ ‬بل‭ ‬وتهميشه‭. ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تأثرت‭ ‬بتيار‭ ‬العولمة‭ ‬وتداعياتها‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تسعى‭ ‬جاهدة‭ ‬وبوتيرة‭ ‬عالية‭ ‬لإنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الوطنية‭ ‬والموروثات‭ ‬الثقافية،‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المنابع‭ ‬الجميلة‭ ‬لكي‭ ‬تُطبع‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلنا‭ ‬وشباب‭ ‬أمتنا‭ ‬الذين‭ ‬أبعدتهم‭ ‬العولمة‭ ‬الرهيبة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬وغيبت‭ ‬عنهم‭ ‬الموروثات‭ ‬الحميدة‭.‬

تمسكنا‭ ‬بهويتنا‭ ‬وانتمائنا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬رفضًا‭ ‬للتقدم‭ ‬العلمي‭ ‬وعدم‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تقنيات‭ ‬العصر،‭ ‬بل‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬جرف‭ ‬هويتنا‭ ‬وانتمائنا،‭ ‬وأن‭ ‬نستفيد‭ ‬منه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬جوهرنا‭ ‬الأصيل،‭ ‬وأن‭ ‬نتمسك‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحويه‭ ‬هذا‭ ‬الانتماء‭ ‬من‭ ‬تنوع‭ ‬اجتماعي‭ ‬وثقافي‭ ‬وعِرقي‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬نتآخى‭ ‬فيها‭ ‬ونتآلف‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬وطنية‭ ‬تظللنا‭ ‬ثقافة‭ ‬الانتماء‭ ‬وهويتنا‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬تترجم‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬وعادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬قيم‭ ‬يتم‭ ‬غرسها‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬وصقلها‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬التربوية‭ ‬والتعليمية‭ ‬والمجتمعية‭.‬

الانتماء‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الإنسان‭ ‬عندها‭ ‬يكون‭ ‬الانتماء‭ ‬في‭ ‬الضمير‭ ‬والعقل‭ ‬والقلب،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تربية‭ ‬وطنية‭ ‬مُوجهة‭ ‬تغرس‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬ثقافة‭ ‬الانتماء‭ ‬التي‭ ‬تجمعه‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الوطن،‭ ‬عندها‭ ‬ينتمي‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬والآخرين‭ ‬بما‭ ‬نسميه‭ ‬ثقافة‭ ‬المواطنة‭.‬

إن‭ ‬المواطنة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬انتماء‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬أرضه‭ ‬وناسه،‭ ‬بل‭ ‬ثقافة‭ ‬البناء‭ ‬والتعمير‭ ‬والتنمية،‭ ‬ثقافة‭ ‬التعاون‭ ‬والتسامح،‭ ‬ثقافة‭ ‬التآزر‭ ‬والتعاضد،‭ ‬ثقافة‭ ‬الاستقرار‭ ‬والسلام،‭ ‬مواطنة‭ ‬يتساوى‭ ‬فيها‭ ‬الجميع،‭ ‬وهي‭ ‬ثقافة‭ ‬تتطلب‭ ‬الإيمان‭ ‬بها‭ ‬لأنها‭ ‬تمثل‭ ‬حياة‭ ‬الفرد‭ ‬التي‭ ‬تتواءم‭ ‬مع‭ ‬حياة‭ ‬الآخرين‭. ‬إن‭ ‬الانتماء‭ ‬للوطن‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليه‭ ‬قيمة‭ ‬سامية‭ ‬تشعر‭ ‬صاحبها‭ ‬بالفخر،‭ ‬وضعف‭ ‬الانتماء‭ ‬يُولد‭ ‬الفتور‭ ‬والسلبية‭ ‬وعدم‭ ‬تحمل‭ ‬المسؤولية،‭ ‬فالانتماء‭ ‬للعمل‭ ‬والإخلاص‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬انتماء‭ ‬للوطن،‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬ونظافة‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬انتماء‭ ‬للوطن،‭ ‬والنماذج‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬