ذرائع

للأشياء الصغيرة إله

| غسان الشهابي

في‭ ‬حفل‭ ‬تخريج‭ ‬لجامعة‭ ‬هارفرد،‭ ‬وقفت‭ ‬خريجة‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬تحكي‭ ‬كم‭ ‬كانت‭ ‬فقيرة‭ ‬ومعدمة‭ ‬في‭ ‬طفولتها‭ ‬في‭ ‬التسعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬إبّان‭ ‬الاقتتال‭. ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬وهي‭ ‬مع‭ ‬أمها‭ ‬في‭ ‬السوق،‭ ‬رأتا‭ ‬تجمعاً‭ ‬فذهبتا‭ ‬إليه،‭ ‬وإذ‭ ‬هناك‭ ‬قوائم‭ ‬يكتب‭ ‬الناس‭ ‬فيها‭ ‬أسماءهم،‭ ‬وعند‭ ‬الاستفسار،‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬فرنسا‭ ‬توفر‭ ‬الهجرة‭ ‬لجملة‭ ‬من‭ ‬الجزائريين،‭ ‬لكن‭ ‬أمها‭ ‬ابتعدت‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تحسن‭ ‬الكتابة،‭ ‬فإذا‭ ‬برجل‭ ‬لا‭ ‬يعرفانه‭ ‬يلحق‭ ‬بهما‭ ‬ويستعلم‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬عدم‭ ‬كتابة‭ ‬اسم‭ ‬الأم،‭ ‬ولما‭ ‬علم‭ ‬أنها‭ ‬أمية،‭ ‬كتب‭ ‬اسمها‭ ‬نيابة‭ ‬عنه،‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬شهور‭ ‬وصلتها‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬أن‭ ‬طلبها‭ ‬للهجرة‭ ‬مقبول،‭ ‬وهاجرتا‭ ‬وتغيرت‭ ‬الأحوال،‭ ‬حتى‭ ‬استطاعت‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬أن‭ ‬تتخرج‭ ‬من‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬وأرقى‭ ‬جامعات‭ ‬العالم،‭ ‬فكانت‭ ‬الخلاصة،‭ ‬أن‭ ‬شيئاً‭ ‬صغيراً‭ ‬جداً،‭ ‬ومن‭ ‬إنسان‭ ‬لم‭ ‬يسأل‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬يتردد،‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬جزاءً‭ ‬ولا‭ ‬شكوراً،‭ ‬غيّر‭ ‬حياة‭ ‬أسرة‭ ‬بأكملها‭.‬

أن‭ ‬تمدّ‭ ‬يدك‭ ‬بمئة‭ ‬فلسٍ‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬للتبرعات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬ستذهب‭ ‬الأموال،‭ ‬أو‭ ‬هل‭ ‬ستؤثر‭ ‬هذه‭ ‬القطعة‭ ‬النقدية؟‭ ‬أن‭ ‬يربّت‭ ‬الأستاذ‭ ‬على‭ ‬كتف‭ ‬طفل‭ ‬يبذل‭ ‬جهداً‭ ‬ليتعلم،‭ ‬أو‭ ‬تضع‭ ‬معلمة‭ ‬نجمة‭ ‬ذهبية‭ ‬لإجابة‭ ‬مبتكرة‭ ‬لطالبة،‭ ‬توقفك‭ ‬وأنت‭ ‬مسرع‭ ‬لتعدل‭ ‬لوحة‭ ‬على‭ ‬الجدار‭ ‬مائلة،‭ ‬أو‭ ‬لتبذل‭ ‬وقتاً‭ ‬لأحدهم‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬رسالة‭ ‬أنيقة‭ ‬يطلب‭ ‬فيها‭ ‬عملاً‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مشاغلك‭ ‬الجمّة،‭ ‬مجرد‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬شكوى‭ ‬صديقتك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬تنتظر‭ ‬منك‭ ‬حلاً،‭ ‬ترجلك‭ ‬من‭ ‬سيارتك‭ ‬لتدفع‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬سيارة‭ ‬توقفت‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬وتورط‭ ‬صاحبها،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬إطلاق‭ ‬المنبه‭ ‬غضباً‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬ليست‭ ‬له‭ ‬حيلة‭ ‬فيه،‭ ‬ومئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬الصغيرة‭ ‬جداً؛‭ ‬تعطي‭ ‬معاني‭ ‬كبيرة‭ ‬للحياة،‭ ‬تشعر‭ ‬المعطي،‭ ‬قبل‭ ‬الآخذ،‭ ‬ان‭ ‬الإنسان‭ ‬فيه‭ ‬الخير‭ ‬دائماً،‭ ‬والأجمل‭ ‬أن‭ ‬المعطي‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬أرض‭ ‬ستنبت‭ ‬عطاياه،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬المخلوقات‭ ‬سيستفيد‭ ‬منها‭.‬

لذا،‭ ‬أغبط‭ ‬القطاع‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬المعلمين‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يعود‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬تلاميذهم‭ ‬السابقين،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬تصدّيَّ‭ ‬للتدريب،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أعدم‭ ‬شخصاً‭ ‬يظهر‭ ‬لي‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭ ‬ليقول‭ ‬إنه‭ ‬حضر‭ ‬لي‭ ‬ورشة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬محاضرة‭ ‬لي‭ ‬أثرت‭ ‬فيه‭!‬

فالعطاء‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬ضخامته،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬المعطي‭ ‬بتلقائيته‭ ‬وبنفحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬الحقيقي‭ ‬للخير‭.‬