عمود أكاديمي

نحن وهواتفنا النقالة: مَن يسيطر على الآخر؟

| د. باقر النجار

عندما‭ ‬اخترع‭ ‬جراهام‭ ‬بيل‭ ‬التلفون‭ ‬سنة‭ ‬1876،‭ ‬أي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬قام‭ ‬ريجينالد‭ ‬فسندن‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1900‭ ‬بإجراء‭ ‬أول‭ ‬مكالمة‭ ‬لاسلكية،‭ ‬إذ‭ ‬نقل‭ ‬الصوت‭ ‬عبر‭ ‬موجات‭ ‬الراديو‭ ‬وأرسل‭ ‬إشارات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برج‭ ‬الراديو‭ ‬لآخر‭. ‬وعندما‭ ‬قام‭ ‬بذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬خلدهما‭ ‬أن‭ ‬تطورا‭ ‬كبيرا‭ ‬سيجري‭ ‬على‭ ‬مخترعهم‭ ‬البسيط،‭ ‬وأن‭ ‬حجم‭ ‬ووقع‭ ‬وآثار‭ ‬هذه‭ ‬الهواتف‭ ‬ستكون‭ ‬كبيرة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مدمرة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬حالاتها‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الوظيفة‭ ‬الأساسية‭ ‬لهذه‭ ‬الهواتف‭ ‬حينها‭ ‬هي‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬وقضاء‭ ‬حاجاتهم‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬والتجارة‭ ‬والسياسة‭. ‬وهي‭ ‬وظيفة‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬لها‭ ‬هذا‭ ‬الانتشار‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭.‬        إلا‭ ‬أن‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬لوظائف‭ ‬هذه‭ ‬الهواتف‭ ‬قد‭ ‬جاءت‭ ‬عبر‭ ‬توظيف‭ ‬تقنيات‭ ‬جديدة‭ ‬تم‭ ‬اختراعها‭ ‬أو‭ ‬اكتشافها‭ ‬مع‭ ‬غزو‭ ‬الإنسان‭ ‬للفضاء‭ ‬وحاجات‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭ ‬للتواصل‭ ‬مع‭ ‬قواعدها‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬وكذلك‭ ‬حاجات‭ ‬شركاتها‭ ‬العابرة‭ ‬للحدود‭ ‬وذات‭ ‬المصالح‭ ‬المتوسعة‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬السريع‭ ‬مع‭ ‬وحداتها‭ ‬الإنتاجية‭ ‬حول‭ ‬العالم‭. ‬وهي‭ ‬اختراعات‭ ‬أدخلت‭ ‬المجتمع‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تكنولوجية‭ ‬وحداثية‭ ‬جديدة‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬ألفن‭ ‬توفلر‭ ‬بالموجة‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬اكتشاف‭ ‬الشريحة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬البعض،‭ ‬بالثورة‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬وهي‭ ‬ثورة‭ ‬حملت‭ ‬معها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الثورات‭ ‬المصاحبة،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬اكتشاف‭ ‬تكنولوجي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬موجات‭ ‬من‭ ‬الاختراعات‭ ‬الجديدة‭ ‬الذي‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬اختراع‭ ‬تأتي‭ ‬معه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المصاحبات‭ ‬والتأثيرات‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬مسرحا‭ ‬لها‭. ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬لم‭ ‬تغير‭ ‬وجه‭ ‬العالم‭ ‬فحسب‭ ‬وأدخلته‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تكنولوجية‭ ‬جديدة،‭ ‬وإنما‭ ‬غيرت‭ ‬معه‭ ‬مصفوفة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬الحياة‭. ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬الهاتف،‭ ‬وبفعل‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬أجياله‭ ‬الجديدة،‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬البسيط‭ ‬المخترع‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬أداة‭ ‬للاتصال‭ ‬فحسب‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬مخزنا‭ ‬مهما‭ ‬للمعلومات‭ ‬الفردية‭ ‬والعامة،‭ ‬وأداة‭ ‬فعالة‭ ‬فيما‭ ‬سمي‭ ‬بالقوة‭ ‬الناعمة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬أدواتها‭ ‬الفعالة‭. ‬وهي‭ ‬أداة‭ ‬باتت‭ ‬مخزنا‭ ‬لخصوصيات‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬الأفراد،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تبقى‭ ‬خصوصية‭ ‬هشة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتهاوى‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬اختراق‭ ‬بات‭ ‬يمارسه‭ ‬الأفراد‭ ‬كما‭ ‬المؤسسات‭. ‬وهو‭ ‬اختراق‭ ‬يأتي‭ ‬معه‭ ‬مشكلات‭ ‬أخرى‭ ‬تخص‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬الأفراد‭ ‬كما‭ ‬تخص‭ ‬المؤسسات‭.‬

وقد‭ ‬أتاحت‭ ‬التطورات‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬أجياله‭ ‬الجديدة‭ ‬والمنافسة‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬الشركات‭ ‬المصنعة‭ ‬له‭ ‬لأن‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الهاتف‭ ‬ذا‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬الخاصة‭ ‬والعامة‭. ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬اقتناء‭ ‬الهواتف‭ ‬المتحركة‭ ‬أو‭ ‬النقالة‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬المقتدرين‭ ‬ماليا‭ ‬ونوعا‭ ‬من‭ ‬الوجاهة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬وبسبب‭ ‬رخص‭ ‬أثمانه‭ ‬نسبيا‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الشركات‭ ‬المصنعة‭ ‬ذات‭ ‬الجودة‭ ‬والشهرة‭ ‬الأقل،‭ ‬متاحا‭ ‬لكل‭ ‬الناس‭ ‬باختلاف‭ ‬أعمارهم‭ ‬وطبقاتهم‭ ‬وفئاتهم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬وبفعل‭ ‬ذلك‭ ‬أطاح‭ ‬بالفواصل‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬الجماعات‭ ‬والفئات‭ ‬والطبقات‭.‬                واستطاعت‭ ‬شركات‭ ‬الاتصال‭ ‬المحتكرة‭ ‬أو‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬تشغيل‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬أن‭ ‬توسع‭ ‬من‭ ‬مشتركيها‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬كنتيجة‭ ‬لأساليب‭ ‬الدعاية‭ ‬والتشويق‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬قد‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تحتل‭ ‬مكان‭ ‬الهواتف‭ ‬الثابتة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الوصول‭ ‬فيها‭ ‬لخدمة‭ ‬الهواتف‭ ‬الثابتة‭ ‬تحيطها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الصعوبات‭ ‬والمشكلات‭ ‬البيروقراطية‭ ‬ولربما‭ ‬الفنية‭ ‬كمصر‭ ‬وبعض‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬هاتف‭ ‬ثابت‭ ‬لكل‭ ‬أسرة‭ ‬مقتدرة‭ ‬أصبح‭ ‬الوضع‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬هاتف‭ ‬أو‭ ‬هواتف‭ ‬لكل‭ ‬فرد،‭ ‬وأصبحت‭ ‬حمى‭ ‬اقتناء‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬في‭ ‬أجيالها‭ ‬الجديدة‭ ‬مجتاحة‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬ولكل‭ ‬الفئات‭ ‬والطبقات‭. ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬معدل‭ ‬اقتناء‭ ‬هذه‭ ‬الهواتف‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬2‭.‬5‭ ‬هاتف‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬قليلا‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭. ‬إنه‭ ‬انتشار‭ ‬لم‭ ‬يساعد‭ ‬فحسب‭ ‬على‭ ‬سرعة‭ ‬نشر‭ ‬الخبر‭ ‬والصورة،‭ ‬وإنما‭ ‬ساعد‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬الحواجز‭ ‬الزمنية‭ ‬والجغرافية‭ ‬وانتهاء‭ ‬الخصوصية‭ ‬الفردية‭. ‬وهو‭ ‬انتهاء‭ ‬طال‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬كما‭ ‬أولئك‭ ‬الواقعون‭ ‬في‭ ‬المركز‭.‬    

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬للهواتف‭ ‬المحمولة‭ ‬وظيفة‭ ‬واحدة‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الهواتف‭ ‬الثابتة‭ ‬التقليدية‭. ‬فالهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬هو‭ ‬أداة‭ ‬للاتصال‭ ‬والتسلية،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬أداة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المعلومة‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬أداة‭ ‬لإنجاز‭ ‬الإجراءات‭ ‬والمعاملات‭ ‬الرسمية‭ ‬والخاصة،‭ ‬بل‭ ‬ولربما‭ ‬القيام‭ ‬ببعض‭ ‬الأعمال‭. ‬وأصبحت‭ ‬تطبيقاته‭ ‬الجديدة‭ ‬أداة‭ ‬مهمة‭ ‬للتواصل‭ ‬والضغط‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات‭ ‬يوظفها‭ ‬أشخاص‭ ‬أو‭ ‬مؤسسات‭ ‬ولربما‭ ‬دول‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬ومصالح،‭ ‬أو‭ ‬لحماية‭ ‬مصالحها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أفراد‭ ‬أو‭ ‬جماعات‭ ‬أو‭ ‬مؤسسات‭ ‬ولربما‭ ‬دول،‭ ‬أو‭ ‬للإعلان‭ ‬عن‭ ‬سياسة‭ ‬أو‭ ‬سياسات،‭ ‬أو‭ ‬لإدارة‭ ‬الصراعات‭ ‬بين‭ ‬الدول،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬ذلك‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الصراعات‭ ‬والأزمات‭ ‬التي‭ ‬خاضتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬إدارة‭ ‬الأزمة‭ ‬الامريكية‭ - ‬الإيرانية‭ ‬الأخيرة‭ ‬أزمة‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬أحد‭ ‬وسائط‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭. ‬ويمتد‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الوسيلة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬يتم‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬إقالات‭ ‬الرئيس‭ ‬بعض‭ ‬موظفي‭ ‬البيض‭ ‬الأبيض‭ ‬أو‭ ‬وزرائه‭. ‬وقد‭ ‬ساعد‭ ‬انتشاره‭ ‬الكبير‭ ‬أي‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة،‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الأخبار‭ ‬والقصص‭ ‬وأفلام‭ ‬اليوتيوب‭ ‬الخاصة‭ ‬والعامة،‭ ‬الصحيحة‭ ‬منها‭ ‬والكاذبة‭. ‬وهو‭ ‬لهذا‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬معريا‭ ‬للأشخاص‭ ‬وكاشفا‭ ‬لهم،‭ ‬يلتقط‭ ‬الأشخاص‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كاميراته‭ ‬المتطورة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يدركوا‭ ‬ذلك‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬تسرب‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أخبارك‭ ‬وأسرارك‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬ترغب‭. ‬وأصبح‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬تناقله‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬وأفلام‭ ‬مؤذية‭ ‬للفرد‭ ‬والذوق‭ ‬العام‭ ‬وخادشة‭ ‬للحياء‭ ‬العام‭ ‬يتم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلاله‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬سهولة‭ ‬اختراقه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الهاكرز‭ ‬وغيرهم‭ ‬قد‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬خصوصيات‭ ‬الأفراد‭ ‬عامة‭ ‬وقد‭ ‬تفضح‭ ‬أحيانا‭ ‬علاقات‭ ‬الأفراد‭ ‬غير‭ ‬المعلنة‭ ‬أو‭ ‬الحميمية‭ ‬أو‭ ‬الخاصة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬سرعة‭ ‬تناقل‭ ‬الصور‭ ‬والأخبار‭ ‬رغم‭ ‬محاولات‭ ‬الكبح‭ ‬التي‭ ‬يصاحبها‭ ‬مذهلة‭ ‬وكبيرة‭. ‬ويكفي‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الموجة‭ ‬الاختراقات‭ (‬الهاكينك‭)‬التي‭  ‬جاءت‭ ‬على‭  ‬هواتف‭ ‬بعض‭ ‬الافراد‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تم‭ ‬سرقة‭ ‬أموال‭ ‬أو‭ ‬تحويلها‭ (‬غالبا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬وسترن‭ ‬يونيون‭) ‬لأشخاص‭ ‬يقعون‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭.‬        ونتيجة‭ ‬لكل‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الهواتف‭ ‬تمثل‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأفراد‭ ‬حاجة‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭. ‬وأصبح‭ ‬تعلق‭ ‬الأفراد‭ ‬بها‭ ‬تفوق‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬حالاتها‭ ‬درجة‭ ‬الإدمان‭. ‬فهي‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬بفعل‭ ‬تضخم‭ ‬خدماتها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها،‭ ‬وما‭ ‬ينقل‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬للفرد‭ ‬وتواصل‭ ‬على‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حاجة‭ ‬لكل‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬تم‭ ‬تصويرها‭. ‬فهو‭ ‬المُذكر‭ ‬بالمواعيد‭ ‬والارتباطات‭ ‬اليومية،‭ ‬بل‭ ‬والمُوقظ‭ ‬في‭ ‬الصباح،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬رغبت‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬ترغب‭. ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬تغمض‭ ‬عليه‭ ‬عينيك‭ ‬قبل‭ ‬المنام،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ذات‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬تفتح‭ ‬به‭ ‬عينيك‭ ‬عند‭ ‬استيقاظك‭ ‬في‭ ‬الصباح‭. ‬فكل‭ ‬معلوماتك‭ ‬وسجلاتك‭ ‬الخاصة‭ ‬مخزنة‭ ‬فيه‭ ‬وكل‭ ‬معاملاتك‭ ‬وحجوزات‭ ‬رحلاتك‭ ‬ومطاعمك‭ ‬وحساباتك‭ ‬البنكية‭ ‬تنجز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬السحري‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬مخترقا‭ ‬لكل‭ ‬الناس‭ ‬ومالكا‭ ‬لهم‭ ‬رغم‭ ‬امتلاكهم‭ ‬له‭. ‬وأصبح‭ ‬تعلق‭ ‬الأفراد‭ ‬به‭ ‬تصل‭ ‬لحالة‭ ‬مرضية،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يسببه‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬مصاحبات‭ ‬وآثار‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬وحياة‭ ‬أسرهم‭.‬                وهو‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يتيح‭ ‬للأفراد‭ ‬قدرا‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬ومعرفة‭ ‬أخبارهم‭ ‬وأخبار‭ ‬من‭ ‬حولهم‭ ‬وأخبار‭ ‬العالم،‭ ‬وهي‭ ‬أخبار‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تُتيحها‭ ‬في‭ ‬بعضها،‭ ‬الوسائط‭ ‬الإعلامية‭ ‬التقليدية‭ ‬والرسمية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التطبيقات‭ ‬الجديدة‭ ‬الموظفة‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬لوسائط‭ ‬الاتصال‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أصبحت‭ ‬تحمل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬فئة‭ ‬الأطفال‭ ‬والمراهقين‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬البالغين‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬أطاحت‭ ‬ببيوت‭ ‬وأسر‭ ‬وعلاقات‭ ‬بين‭ ‬الأزواج‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬وبين‭ ‬أبنائهم‭ ‬ولربما‭ ‬أقاربهم‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬بات‭ ‬يمثل‭ ‬أداة‭ ‬مهمة‭ ‬للتعارف‭ ‬ولربما‭ ‬تجاوز‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحواجز‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والطبقية‭ ‬والفيزيقية‭ ‬ومعرفة‭ ‬المحظور‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬والكتابات‭ ‬المحظور‭ ‬والمواقع‭ ‬المشفرة‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬شجع‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القول‭ ‬أو‭ ‬الفعل‭ ‬والسلوك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجرؤون‭ ‬على‭ ‬الاتيان‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭.‬

فالفضاء‭ ‬السيبرني‭ ‬الذي‭ ‬تعمل‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تطبيقاته‭ ‬الجديدة،‭ ‬والمُفتقر‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الضوابط‭ ‬والحدود‭ ‬والموانع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بات‭ ‬مشجعا‭ ‬للأفراد‭ ‬ولربما‭ ‬الجماعات‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬بأفعال‭ ‬لا‭ ‬يجرؤون‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬الواقعية،‭ ‬وبفعل‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬أصبح‭ ‬هذه‭ ‬الأداة‭ ‬وسيلة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التابوهات‭ ‬والمحرمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬ولربما‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬بها‭ ‬الدين‭. ‬ولربما‭ ‬التشجيع‭ ‬على‭ ‬رفض‭ ‬ثوابته،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دعي‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭ ‬ليس‭ ‬منها‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬جلها‭ ‬مجتمعات‭ ‬غربية‭. ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لدراسة‭ ‬آثاره‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية‭ ‬ولربما‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬وإنما‭ ‬باتوا‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬السبل‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬إخضاعه‭ ‬لقدر‭ ‬من‭ ‬الضبط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سياقات‭ ‬قانونية‭ ‬وتقنية‭ ‬وثقافية‭. ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬البحث‭ ‬والتفكير‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬الفعل،‭ ‬وهو‭ ‬فعل‭ ‬تشترك‭ ‬فيه‭ ‬الحكومات‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ولربما‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬وما‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭. ‬من‭ ‬دعوة‭ ‬للتخلي‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬الهواتف‭ ‬ليوم‭ ‬إلا‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬رغبة‭ ‬باتت‭ ‬تجتاح‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬نزع‭ ‬السيطرة‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬تُخضع‭ ‬الأفراد‭ ‬لها،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الحكومات‭ ‬الغربية‭ ‬قد‭ ‬دقت‭ ‬جرس‭ ‬الإنذار‭ ‬من‭ ‬التوظيفات‭ ‬السلبية‭ ‬للهواتف‭ ‬النقالة،‭ ‬فإن‭ ‬الحكومات‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬تبارح‭ ‬فعل‭ ‬الإجراءات‭ ‬الرادعة‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬ترشيد‭ ‬وتصويب‭ ‬السلوك‭.‬    

وقبل‭ ‬أن‭ ‬نختتم‭ ‬نذكر‭ ‬دائما‭ ‬بانشغالك‭ ‬أو‭ ‬انشغال‭ ‬أصدقائك‭ ‬أو‭ ‬اقاربك‭ ‬عنك‭ ‬بهواتفهم‭ ‬النقالة‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬لا‭ ‬يعكر‭ ‬أو‭ ‬يفسد‭ ‬صفوه‭ ‬إلا‭ ‬هذا‭ ‬الانشغال‭. ‬إنها‭ ‬صورة‭ ‬أو‭ ‬حالة‭ ‬لا‭ ‬تخصك‭ ‬أنت‭ ‬لوحدك،‭ ‬بل‭ ‬باتت‭ ‬تخص‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬أصبح‭ ‬يستمتع‭ ‬بخدمات‭ ‬متعددة‭ ‬يقدمها‭ ‬هاتفه‭ ‬النقال‭. ‬والذي‭ ‬أصبح‭ ‬حمله‭ ‬ذا‭ ‬تكلفة‭ ‬لنا‭ ‬ولمجتمعاتنا‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المادية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬آثاره‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية‭ ‬والسياسية‭ ‬باتت‭ ‬كبيرة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مدمرة‭.‬

أنه‭ ‬فعل‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أننا‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬نزعه‭ ‬أو‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬حدته؛‭ ‬لأنه‭ ‬بفعل‭ ‬الحالة‭ ‬والزمن‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬متمفصلا‭ ‬في‭ ‬شخصيتنا‭ ‬الحديثة‭. ‬إنها‭ ‬إحدى‭ ‬مصاحبات‭ ‬الحداثة‭ ‬غير‭ ‬المرشدة،‭ ‬وهي‭ ‬تكلفة‭ ‬ندفعها‭ ‬من‭ ‬أنفسنا‭ ‬ومن‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬نتيجة‭ ‬هذا‭ ‬التمتع‭ ‬غير‭ ‬مُعقلن‭ ‬بمقتنيات‭ ‬ونتاجات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭. ‬ولكنها‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تبقى‭ ‬الآلة‭ ‬التي‭ ‬تفضح‭ ‬تناقضاتنا‭ ‬ولربما‭ ‬عدم‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نتحول‭ ‬إلى‭ ‬مجتمعات‭ ‬فاعلة‭ ‬ومؤثرة‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬العالمي‭. ‬إنه‭ ‬تناقض‭ ‬قائم‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬التقليدية‭ ‬المستخدمة‭ ‬له‭ ‬والمنتج‭ ‬الحداثي‭ ‬بفضائه‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثي‭.‬

‭ ‬

‭*‬مقال‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬كانو‭ ‬الثقافية‭. ‬عدد‭ ‬أبريل‭-‬يونيه‭ ‬2019‭.‬