قهوة الصباح

حماقة الاحتراق (22)

| سيد ضياء الموسوي

نحن‭ ‬الشرقيين‭ ‬مساكين،‭ ‬عاطفيين‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬ومندفعين‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬ومراهقين‭ ‬في‭ ‬الاجتماع‭. ‬لو‭ ‬قالت‭ ‬لنا‭ ‬قطة‭: ‬إنها‭ ‬تحبنا،‭ ‬مستعدون،‭ ‬وبسبب‭ ‬التصحر‭ ‬العاطفي‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬أن‭ ‬نلقي‭ ‬بانفسنا‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬شاهق؛‭ ‬لنثبت‭ ‬لها‭ ‬حبنا‭. ‬ننتشي‭ ‬بتمثيل‭ ‬دور‭ ‬البطل،‭ ‬تغوينا‭ ‬حماقة‭ ‬الاحتراق‭ ‬والتضحية،‭ ‬يسكرنا‭ ‬تصفيق‭ ‬الجماهير‭ ‬ولو‭ ‬بجرنا‭ ‬إلى‭ ‬حفلة‭ ‬مسلخ،‭ ‬يغوينا‭ ‬تمثيل‭ ‬دور‭ ‬الضحية‭. ‬يقول‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬في‭ ‬الترويج‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬العاطفة‭ ‬الساذجة‭ ‬في‭ ‬الحب‭:‬‭ (‬متى‭ ‬ستعرف‭ ‬كم‭ ‬أهواك‭ ‬يا‭ ‬رجلا‭.... ‬أبيع‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬الدنيا‭ ‬وما‭ ‬فيها‭. ‬يا‭ ‬من‭ ‬تحديت‭ ‬في‭ ‬حبي‭ ‬له‭ ‬مدنـا‭... ‬بحالهــا‭ ‬وسأمضي‭ ‬في‭ ‬تحديهـا‭. ‬أنـا‭ ‬أحبك‭ ‬يـا‭ ‬سيفـا‭ ‬أسال‭..... ‬دمي‭ ‬يـا‭ ‬قصة‭ ‬لست‭ ‬أدري‭ ‬مـا‭ ‬أسميها‭. ‬أنـا‭ ‬أحبك‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬تسـاعدني،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬بدأ‭ ‬المأساة‭ ‬ينهيهـــا‭.  ‬وإن‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬الأبواب‭ ‬يغلقهــا،‭ ‬وإن‭ ‬من‭ ‬أشعل‭ ‬النيران‭ ‬يطفيهــا‭. ‬يا‭ ‬من‭ ‬يدخن‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬ويتركني‭.... ‬في‭ ‬البحر‭ ‬أرفع‭ ‬مرساتي‭ ‬وألقيهـا‭. ‬ألا‭ ‬تراني‭ ‬ببحر‭ ‬الحب‭ ‬غارقـة‭..... ‬والموج‭ ‬يمضغ‭ ‬آمـالي‭ ‬ويرميهــا‭. ‬انزل‭ ‬قليلا‭ ‬عن‭ ‬الأهداب‭ ‬يا‭ ‬رجلا‭ ....‬ما‭ ‬زال‭ ‬يقتل‭ ‬أحلامي‭ ‬ويحييهـا‭. ‬كفاك‭ ‬تلعب‭ ‬دور‭ ‬العاشقين‭ ‬معي‭.... ‬وتنتقي‭ ‬كلمات‭ ‬لست‭ ‬تعنيهــا‭). ‬قمة‭ ‬العبودية‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬اللعبة،‭ ‬وأنت‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬الآخر‭ ‬يلعب‭ ‬دور‭ ‬العاشق‭ ‬كدور‭ ‬فقط‭. ‬الفراغ‭ ‬العاطفي‭ ‬قد‭ ‬يقود‭ ‬الإنسان‭ ‬لبيع‭ ‬قلبه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الشعبية‭ ‬مقابل‭ ‬دراهم‭ ‬عاطفية‭ ‬معدودة‭ ‬لينتهي‭ ‬به‭ ‬المطاف‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬مجرد‭ ‬قطعة‭ ‬خردة‭ ‬أو‭ ‬سكراب‭ ‬أو‭ ‬قطع‭ ‬غيار‭ ‬حتى‭ ‬لشاحنة‭ ‬بشرية‭ ‬متوحشة‭. ‬شاهدوا‭ ‬فيلم‭ ‬“her”‭ ‬إنه‭ ‬رائع‭. ‬شاب‭ ‬يعاني‭ ‬فقرا‭ ‬عاطفيا‭ ‬ووحدة‭ ‬قاتلة،‭ ‬وروتينا‭ ‬مملا‭ ‬يقوده‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬آلة‭ ‬صوتية‭ ‬مبرمجة‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬يتفاعل‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتعلق‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الجنون‭. ‬نحن‭ ‬نعاني‭ ‬تصحرا‭ ‬عاطفيا‭ ‬داخل‭ ‬المنزل‭ ‬وفي‭ ‬العمل،‭ ‬ومع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬ومع‭ ‬المجتمع،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تعملق‭ ‬قرحة‭ ‬ضخمة‭ ‬مدماة‭ ‬بداخلنا،‭ ‬فنكون‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لعقد‭ ‬علاقة‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬ذبابة‭ ‬إذا‭ ‬سمعنا‭ ‬منها‭ ‬لفظا‭ ‬جميلا‭. ‬

الأفلام‭ ‬العربية،‭ ‬والأغاني‭ ‬العربية،‭ ‬والأشعار‭ ‬العربية،‭ ‬والعادات‭ ‬العربية،‭ ‬ونمط‭ ‬حياتنا،‭ ‬وطريقة‭ ‬تفكيرنا‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬والسياسة‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬تكرس‭ ‬مفهوم‭ (‬الضحية‭) ‬وعبادة‭ (‬الجلاد‭) ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الذات،‭ ‬وهي‭ ‬تعزز‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬كسر‭ ‬السعادة‭ ‬لأجل‭ ‬آخر،‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬حسابها‭. ‬أغاني‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬وألحان‭ ‬بليغ‭ ‬حمدي،‭ ‬وكلمات‭ ‬مرسي‭ ‬عزيز،‭ ‬والشعراء‭ ‬كلهم‭ ‬مشتركون‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬ذات‭ ‬المفاهيم‭ ‬الخاطئة،‭ ‬حتى‭ ‬الخطباء‭ ‬ورجال‭ ‬الدين،‭ ‬ونظام‭ ‬التعليم‭ ‬تكرس‭ ‬جلد‭ ‬الذات،‭ ‬والانتشاء‭ ‬بلعب‭ ‬دور‭ ‬البطل‭ ‬المضحي،‭ ‬وتقديم‭ ‬القرابين‭ ‬وكأن‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬مجرد‭ (‬تبس‭ ‬وبخشيش‭) ‬نقدمه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لحارس‭ ‬المقبرة‭. ‬ما‭ ‬أتفه‭ ‬قيمة‭ ‬العمر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬اريكولوجي‭ ‬حفري‭ ‬لأغنية‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ (‬سيرة‭ ‬الحب‭) ‬التي‭ ‬ضيعت‭ ‬الآلاف‭ ‬رغم‭ ‬جمالها‭ ‬تقول‭ (‬والعاشقين‭ ‬دابوا‭ ‬ما‭ ‬تابوا‭  ‬طول‭ ‬عمري‭ ‬بقول‭ ‬لا‭ ‬أنا‭ ‬قد‭ ‬الشوق‭ ‬وليالي‭ ‬الشوق

ولا‭ ‬قلبي‭ ‬قد‭ ‬عذابه‭ ‬وقابلتك‭ ‬انت‭ ‬لقيتك‭ ‬بتغير‭ ‬كل‭ ‬حياتي

ما‭ ‬عرفش‭ ‬إزاي‭ ‬حبيتك

ما‭ ‬عرفش‭ ‬إزاي‭ ‬يا‭ ‬حياتي

من‭ ‬همسة‭ ‬حب‭ ‬لقيتني‭ ‬بحب‭ ‬وأدوب‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬وصبح‭ ‬وليل‭ ‬علي‭ ‬بابه‭) ‬فقط‭ ‬همسه‭ ‬وإذا‭ ‬بك‭ ‬في‭ ‬الجحيم‭!! ‬ما‭ ‬أسهلنا‭!!! ‬واستسلمنا‭ ‬واقتنعنا‭ ‬أن‭ ‬مادمت‭ ‬تحب،‭ ‬فأنت‭ ‬من‭ ‬سلاسة‭ ‬المساكين،‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الزنزانة‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العمر‭ (‬فات‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬سنين‭ ‬وسنين

شفت‭ ‬كتير‭ ‬وقليل‭ ‬عاشقين

اللي‭ ‬بيشكي‭ ‬حاله‭ ‬لحاله

واللي‭ ‬بيبكي‭ ‬على‭ ‬مواله

أهل‭ ‬الحب‭ ‬صحيح‭ ‬مساكين‭). ‬

يقول‭ ‬الروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬غوستاف‭ ‬فلوبير‭ (‬ثمة‭ ‬ثلاثة‭ ‬شروط‭ ‬لتصبح‭ ‬سعيدا‭: ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غبيا‭ ‬وأنانيا‭ ‬وبصحة‭ ‬جيدة،‭ ‬فإذا‭ ‬فقدت‭ ‬الصفة‭ ‬الأولى،‭ ‬سيضيع‭ ‬منك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭) .‬الأنانية‭ ‬المشروعة‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬تحب‭ ‬ذاتك،‭ ‬وإذا‭ ‬فاض‭ ‬حبك‭ ‬لذاتك‭ ‬ستحب‭ ‬الآخرين،‭ ‬وستعطي‭ ‬أكثر‭. ‬تكون‭ ‬الأم‭ ‬كذلك‭ ‬الأب،‭ ‬حمقاء‭ ‬إذا‭ ‬أحرقت‭ ‬شبابها‭ (‬تضحي‭) ‬لأبنائها،‭ ‬وتتلف‭ ‬صحتها،‭ ‬وتكدس‭ ‬القروض‭ ‬على‭ ‬رأسها،‭ ‬ثم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مربية‭ ‬لأطفالهم‭ ‬أيضا،‭ ‬ثم‭ ‬تبكي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العمر‭ ‬فوت‭ ‬قطار‭ ‬السعادة،‭ ‬وتبكي‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬اهتمامهم‭. ‬أنت‭ ‬المخطئة‭. ‬كوني‭ ‬معطاء،‭ ‬لكن‭ ‬اهتمي‭ ‬بسعادتك،‭ ‬فمن‭ ‬يحب‭ ‬الآخرين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذاته،‭ ‬يبتسم‭ ‬له‭ ‬الآخرون‭ ‬في‭ ‬وجه،‭ ‬ويضحكون‭ ‬على‭ ‬سذاجته‭ ‬في‭ ‬الخفاء‭. ‬لا‭ ‬تقولي‭ ((‬أنا‭ ‬ضحيت‭ ‬لأجلكم‭!!) ‬أين‭ ‬كان‭ ‬عقلك؟‭ ‬السعادة‭ ‬كما‭ ‬القانون‭ ‬لا‭ ‬تحمي‭ ‬المغفلين‭. ‬نحن‭ ‬أساتذة‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬الوجع،‭ ‬وفي‭ ‬توفير‭ ‬مناخ‭ ‬البكائيات،‭ ‬وذرف‭ ‬الدموع‭ ‬على‭ ‬الماضي،‭ ‬والعمر‭ ‬يمضي،‭ ‬ونحن‭ ‬مستمرون‭ ‬في‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬الضحية‭. ‬وهنا‭ ‬نص‭ ‬لكاتب،‭ ‬انظروا‭ ‬كيف‭ ‬وصل‭ ‬بنا‭ ‬الحال‭ ‬برعاية‭ ‬الوجع‭ ‬والفخر‭ ‬بذلك،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نسجل‭ ‬له‭ ‬شهادة‭ ‬تأمين‭ ‬مدى‭ ‬الحياة‭: (‬أريدُ‭ ‬أن‭ ‬أعْتَني‭ ‬بهذا‭ ‬“الوجع”‭..‬

‏أُربِّيهُ‭ ‬في‭ ‬صدري‭..‬في‭ ‬أغنياتي‭..‬في‭ ‬كُل‭ ‬ما‭ ‬أكتب‭!‬

‏أخشى‭ ‬أن‭ ‬تُداويه‭ ‬الأيام‭ ..‬أن‭ ‬ينطفئ‭!‬

‏أن‭ ‬يصير‭ ‬مُجرّد‭ ‬“رجعَ‭ ‬صدى”‭..‬لا‭ ‬لون‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬رائحة‭!). ‬اكسروا‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم،‭ ‬فالحياة‭ ‬جميلة،‭ ‬ولن‭ ‬تعيشوها‭ ‬مرتين‭.‬