قهوة الصباح

التحايل على الجوع العاطفي بالماركات

| سيد ضياء الموسوي

يقول‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوح‭ ‬في‭ ‬ليلى‭ (‬وَإِنّي‭ ‬لَأَهوى‭ ‬النَومَ‭ ‬في‭ ‬غَيرِ‭ ‬حينِهِ‭ ... ‬لَعَلَّ‭ ‬لِقاءً‭ ‬في‭ ‬المَنامِ‭ ‬يَكونُ‭). ‬والفيلسوف‭ ‬الفرنسي،‭ ‬بليز‭ ‬باسكال‭ ‬يختصر‭ ‬العشق‭ ‬بكلمات‭: (‬للقلب‭ ‬أسبابه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬بها‭ ‬المنطق‭). ‬إن‭ ‬التعلق‭ ‬بالأشياء‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الهوس‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الجنون،‭ ‬وهو‭ ‬علاقة‭ ‬أبدية‭ ‬بالجحيم،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الإطار‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬فردوس‭. ‬المهووس‭ ‬بالسوشل‭ ‬ميديا‭ ‬أو‭ ‬الفاشينيستا‭ ‬أو‭ ‬بكرة‭ ‬قدم‭ ‬أو‭ ‬المنصب‭ ‬أو‭ ‬المال‭ ‬هو‭ ‬يعاني‭ ‬اضطرابًا‭ ‬سيكولوجيًا؛‭ ‬لأن‭ ‬التعلق‭ ‬بالأشياء‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فراغا‭ ‬داخليا‭ ‬كبيرا،‭ ‬وخللا‭ ‬في‭ ‬نفسية‭ ‬هذا‭ ‬المتعلق،‭ ‬يسعى‭ ‬للتحايل‭ ‬على‭ ‬وجعه‭ ‬وجفافه‭ ‬وتورمه‭ ‬الداخلي‭ ‬بالتشبث‭ ‬بأمور‭ ‬غير‭ ‬دائمة،‭ ‬وهي‭ ‬مثل‭ (‬البنج‭) ‬الذي‭ ‬سينتهي‭ ‬مفعوله‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬اللحظات‭. ‬أكثر‭ ‬النساء‭ ‬المهووسات‭ ‬بالتسوق‭ ‬والمولات‭ ‬هن‭ ‬يعانين‭ ‬عن‭ ‬جفاف‭ ‬عاطفي‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬زواج‭ ‬أو‭ ‬حب،‭ ‬فيعوضن‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬رومانسية‭ ‬بقطعة‭ ‬ثياب‭. ‬إن‭ ‬تعليق‭ ‬الماركات‭ ‬على‭ ‬العاطفة‭ ‬المتقرحة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شفاءها‭. ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتعلقات‭ ‬بالسوشل‭ ‬ميديا،‭ ‬وإن‭ ‬اشتهرن،‭ ‬فإنهن‭ ‬يعانين‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬قاتلة‭ ‬يعوضنها‭ ‬بكثرة‭ ‬المتابعين‭ ‬أو‭ ‬بتصوير‭ ‬الطعام‭ ‬لإيهام‭ ‬الذات‭ ‬الكئيبة،‭ ‬والوحدة‭ ‬المخفية‭ ‬خلف‭ ‬الملابس‭ ‬الأنيقة‭ ‬بإرسال‭ ‬مسج‭ ‬عكسي‭ ‬للناس‭: (‬أنا‭ ‬بخير‭)‬،‭ (‬أنا‭ ‬لست‭ ‬وحيدة‭). ‬هل‭ ‬تعلمون‭ ‬أن‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬هو‭ ‬العلاج‭ ‬الحقيقي‭ ‬لكل‭ ‬مشاكل‭ ‬الإدمان،‭ ‬والتعلق‭ ‬بالأشياء‭. ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬لعلاج‭ ‬برنامج‭ ‬العلاج‭ ‬العالمي‭ ‬ذي‭ ‬الاثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬خطوة‭ ‬للتوقف‭ ‬عن‭ ‬إدمان‭ ‬المخدرات‭ ‬أو‭ ‬الخمر‭ ‬هو‭ ‬الارتباط‭ ‬بالله،‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭: (‬1-توصلنا‭ ‬إلى‭ ‬الإيمان‭ ‬بأن‭ ‬قوة‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬أنفسنا‭ ‬باستطاعتها‭ ‬أن‭ ‬تعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬الصواب‭)‬،‭ ‬برنامج‭ ‬زمالة‭ ‬المدمنين‭ ‬المجهولين‭ ‬نشأ‭ ‬عام‭ ‬1935‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬بين‭ ‬رجل‭ ‬أعمال‭ ‬وطبيب‭ ‬جراح؛‭ ‬لأنهما‭ ‬كانا‭ ‬مدمني‭ ‬خمر‭. ‬يقول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬لوك‭ ‬فيري‭ ‬في‭ ‬كناب‭ ‬مفارقات‭ ‬السعادة‭:  (‬إن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬أكثر‭ ‬تعاسة‭). ‬لعل‭ ‬تعاستك‭ ‬تأتي‭ ‬مما‭ ‬تظنه‭ ‬سعادتك،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الفلاسفة‭: ‬قد‭ ‬ما‭ ‬تجده‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬المشكلة‭. ‬إن‭ ‬فك‭ ‬الارتباط‭ ‬والتعلق‭ ‬بالأشياء‭ ‬يجعلها‭ ‬أسيرة‭ ‬بين‭ ‬يديك،‭ ‬بل‭ ‬تأتي‭ ‬لك‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬لتكون‭ ‬طفلها‭ ‬المدلل‭. ‬وهذا‭ ‬مفهوم‭ ‬دعت‭ ‬له‭ ‬البوذية‭ ‬والمتصوفون‭ ‬وكل‭ ‬الأديان‭. ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬“ع”‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ (‬لا‭ ‬تُنال‭ ‬منها‭ ‬نعمة‭ ‬إلا‭ ‬بفراق‭ ‬أخرى‭). ‬كلما‭ ‬خففت‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬شيء‭ ‬جاء‭ ‬إليك‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬المرأة‭ ‬العنيدة‭ ‬محبوبة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الساذجة‭. ‬يقول‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ (‬دعوت‭ ‬امرأتين‭ ‬على‭ ‬العشاء‭ ‬إحداهما‭ ‬جاءت‭ ‬والأخرى‭ ‬لم‭ ‬تأت‭. ‬لم‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬أتت،‭ ‬وإنما‭ ‬سألت‭ ‬عن‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تأت‭.‬‭ ‬إني‭ ‬أحب‭ ‬المرأة‭ ‬العنيدة،‭ ‬وأكره‭ ‬المرأة‭ ‬الغبية‭. ‬ويقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ (‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬تكوني‭ ‬

واحدةً‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬النساء‭.. ‬

دافئةً‭.. ‬

كالفحم‭ ‬في‭ ‬مواقد‭ ‬الشتاء‭.. ‬

وحشيةً‭.. ‬

كقطةٍ‭ ‬تموء‭ ‬في‭ ‬العراء‭.. ‬

يجوز‭ ‬أن‭ ‬تكوني‭ ‬

سمراء‭.. ‬إفريقية‭ ‬العيون‭. ‬

عنيدةً‭.. ‬

كالفرس‭ ‬الحرون‭.. ‬

عنيفةً‭.. ‬

كالنار،‭ ‬كالزلزال،‭ ‬كالجنون‭).‬

إن‭ ‬منهجية‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬“ع”‭ ‬في‭ ‬نهج‭ ‬البلاغة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬عبودية‭ ‬الأشياء،‭ ‬وعلاج‭ ‬الرق‭ ‬السيكولوجي،‭ ‬وتسفيه‭ ‬الأسر‭ ‬بأي‭ ‬شيء،‭ ‬فان‭ ‬نهج‭ ‬البلاغة‭ ‬متوازن‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬الحياة،‭ ‬ويذم‭ ‬الفقر،‭ ‬ويركز‭ ‬على‭ ‬الحب،‭ ‬لكن‭ ‬بشرط‭ ‬عدم‭ ‬التعلق‭ ‬الجنوني؛‭ ‬لأن‭ ‬الأمام‭ ‬علي‭ ‬“ع”‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬التعلق‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬عبودية‭ ‬نفسية‭ ‬تنتهي‭ ‬بأمراض‭ ‬سيكولوجية‭ ‬من‭ ‬نرجسية‭ ‬أو‭ ‬بارانويا‭ ‬او‭ ‬سايكوباث‭ ‬أو‭ ‬سادية‭... ‬إلخ‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬نلحظ‭  ‬فلسفة‭ ‬الإمام‭ ‬في‭ ‬تخفيض‭ ‬أهمية‭ ‬وبريق‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الشخصية‭ ‬المتوازنة‭ (‬رأى‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ - ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ - ‬وقد‭ ‬تنفس‭ ‬الصعداء،‭ ‬فقال‭ (‬ع‭): ‬يا‭ ‬جابر‭ ‬علامَ‭ ‬تنفسك،‭ ‬أعلى‭ ‬الدنيا؟‭!..‬فقال‭ ‬جابر‭: ‬نعم‭ ‬،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬

يا‭ ‬جابر‭!.. ‬ملاذّ‭ (‬متع‭) ‬الدنيا‭ ‬سبعة‭: ‬المأكول‭ ‬والمشروب‭ ‬والملبوس‭ ‬والمنكوح‭ ‬والمركوب‭ ‬والمشموم‭ ‬والمسموع‭: ‬

فألذ‭ ‬المأكولات‭ ‬العسل،‭ ‬وهو‭ ‬بصق‭ ‬من‭ ‬ذبابه‭. ‬

وأحلى‭ ‬المشروبات‭ ‬الماء،‭ ‬وكفى‭ ‬بإباحته‭ ‬وسباحته‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭. ‬

وأعلى‭ ‬الملبوسات‭ ‬الديباج،‭ ‬وهو‭ ‬لعاب‭ ‬دودة‭. ‬

وأعلى‭ ‬المنكوحات‭ ‬النساء،‭ ‬وهو‭ ‬مبال‭ ‬في‭ ‬مبال،‭ ‬ومثال‭ ‬لمثال،‭ ‬وإنما‭ ‬يُراد‭ ‬أحسن‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المرأة‭ ‬لأقبح‭ ‬ما‭ ‬فيها‭. ‬

وأعلى‭ ‬المركوبات‭ ‬الخيل،‭ ‬وهم‭ ‬قواتل‭. ‬

وأجلّ‭ ‬المشمومات‭ ‬المسك،‭ ‬وهو‭ ‬دم‭ ‬من‭ ‬سرّة‭ ‬دابة،

فما‭ ‬هذه‭ ‬صفته‭ ‬لم‭ ‬يتنفس‭ ‬عليه‭ ‬عاقل‭). ‬الإلحاح‭ ‬والعبودية‭ ‬والإصرار‭ ‬على‭ ‬التعلق‭ ‬بشيء‭ ‬يقودك‭ ‬إلى‭ ‬خنق‭ ‬ذاتك،‭ ‬وخنق‭ ‬هذا‭ ‬الشيء،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬حجرا‭ ‬أو‭ ‬جدارا‭. ‬وكي‭ ‬تفك‭ ‬العبودية،‭ ‬ابحث‭ ‬عن‭ ‬بدائل‭ ‬عبر‭ (‬كوكتيل‭ ‬الحياة‭). ‬تقول‭ ‬مستغانمي‭ (‬لا‭ ‬تستنزفي‭ ‬نفسك‭ ‬بالأسئلة‭ ‬كوني‭ ‬قدرية،‭ ‬لا‭ ‬تطاردي‭ ‬نجما‭ ‬هاربا،‭ ‬فالسماء‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬النجوم،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬أدراك‭ ‬ربما‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬القادم‭ ‬كان‭ ‬نصيبك‭ ‬القمر‭. ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬لك‭ ‬خسارة‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬بالتحديد‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬سيصبح‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬مسؤولا‭ ‬عن‭ ‬إتمام‭ ‬أعظم‭ ‬إنجازات‭ ‬حياتك‭..).‬