ذرائع

المفتونون بما مضى وانقضى

| غسان الشهابي

في‭ ‬السبعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬كنت‭ ‬صغيراً‭ ‬إذ‭ ‬أقرأ‭ ‬القصص‭ ‬المصوّرة‭ ‬للأبطال‭ ‬الخارقين‭ (‬سوبرمان‭ ‬ومن‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬شاكلته‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬بعضها‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل،‭ ‬فكان‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تخيّل‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2000‭ ‬ستطير‭ ‬السيارات‭ ‬بقوة‭ ‬مغناطيسية،‭ ‬وأن‭ ‬الملابس‭ ‬ستكون‭ ‬ملتصقة‭ ‬بالجسم،‭ ‬والأسلحة‭ ‬تقرب‭ ‬إلى‭ ‬الموجودة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مخازن‭ ‬ألعاب‭ ‬الأطفال‭ ‬وتطلق‭ ‬أشعة‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الرصاص،‭ ‬والمركبات‭ ‬الفضائية‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬الجو‭...‬الخ‭.‬

اليوم‭ ‬ونحن‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬إقفال‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬الـ‭ ‬2000،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬البدلات‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬تقريباً‭ ‬قبل‭ ‬خمسين‭ ‬عاما،‭ ‬ولا‭ ‬نزال‭ ‬نركب‭ ‬السيارات‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬أكثر‭ ‬جمالا‭ ‬وأناقة‭ ‬ولكنها‭ ‬تستخدم‭ ‬الأسفلت،‭ ‬والرصاص‭ ‬غدا‭ ‬أكثر‭ ‬فتكاً‭ ‬ولكنه‭ ‬ظلَّ‭ ‬رصاصاً،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬لأنها‭ ‬تقدح‭ ‬خيال‭ ‬العلماء‭ ‬أيضاً‭ ‬لتحقيق‭ ‬ما‭ ‬جاد‭ ‬به‭ ‬الخيال،‭ ‬وبالخيال‭ ‬نتقدم،‭ ‬فلولا‭ ‬خيال‭ ‬رجل‭ ‬الكهف‭ ‬لبقي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬قابعاً‭ ‬في‭ ‬كهفه‭.‬

في‭ ‬سؤال‭ ‬طرحته‭ ‬على‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الافتراضيين‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬الأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬فحاروا‭ ‬جواباً،‭ ‬وربما‭ ‬حاول‭ ‬أحدهم‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬باسم‭ ‬لفيلم‭ ‬حاول‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬اليوم‭ ‬والغد‭ ‬القريب‭.‬

يمكننا‭ ‬الإجابة‭ ‬بأن‭ ‬ديكورات‭ ‬المستقبل‭ ‬وقضاياه‭ ‬والكتابة‭ ‬في‭ ‬الخيال‭ ‬والتنفيذ،‭ ‬وجعل‭ ‬الأمر‭ ‬مقنعاً‭ ‬للمشاهد،‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬يغامر‭ ‬بها‭ ‬المنتجون،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬كذلك‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬نادراً‭ ‬ما‭ ‬تفترض‭ ‬أحداثاً‭ ‬مستقبلية،‭ ‬وجُلّ‭ ‬وقائعها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭. ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬أبحاثنا‭ ‬العلمية‭ ‬نادراً‭ ‬ما‭ ‬تستقرئ‭ ‬المستقبل،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عاكفة‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ينكر‭ ‬وجود‭ ‬الفعل‭ ‬المضارع‭ (‬الحاضر‭) ‬فإن‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬إبداعه‭ ‬يتعلق‭ ‬بالماضي‭ ‬وحده‭.‬

لو‭ ‬انتزعنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬لدقائق،‭ ‬لوجدنا‭ ‬أن‭ ‬خطابنا‭ ‬العربي‭ ‬مليء‭ ‬بالحسرة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬مضى،‭ ‬والحنين‭ ‬للعقود‭ ‬الماضية،‭ ‬والقرون‭ ‬السالفة‭. ‬كمن‭ ‬ينزل‭ ‬مسرعاً‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬سلّم‭ ‬كهربائيٍّ‭ ‬عملاق‭ ‬متجهاً‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى‭... ‬هكذا‭ ‬يبدو‭ ‬حالنا‭.‬