سوالف

الحضارة في العقول التي تبدع

| أسامة الماجد

مازال‭ ‬البعض‭ ‬يسمينا‭ ‬“دول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث”‭ ‬أو‭ ‬“عالم‭ ‬نام”،‭ ‬وهذه‭ ‬النعوت‭ ‬والمترادفات‭ ‬وحدها‭ ‬بمثابة‭ ‬استعمار‭ ‬فكري‭ ‬كامل،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬ابتكار‭ ‬العالم‭ ‬المصنع‭ ‬قبلها‭ ‬تحشر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلثي‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬في‭ ‬مقولة‭ ‬واحدة،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬تصهرهم‭ ‬في‭ ‬بوتقة‭ ‬واحدة،‭ ‬وفي‭ ‬أحسن‭ ‬الحالات‭ ‬تضعهم‭ ‬تحت‭ ‬الوصاية،‭ ‬وبالفعل‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يخطط‭ ‬لتقدمه‭ ‬بل‭ ‬يخطط‭ ‬له،‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يتكيف‭ ‬تبعا‭ ‬للمخطط‭ ‬ويندمج‭ ‬في‭ ‬أطره،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬الاستعمار‭ ‬الحقيقي‭.‬

لا‭ ‬يوجد‭ ‬تخلف‭ ‬مطلق،‭ ‬ولو‭ ‬صح‭ ‬ووجد‭ ‬لحكم‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يتسم‭ ‬به‭ ‬بالهلاك‭ ‬الأبدي‭. ‬إن‭ ‬التخلف‭ ‬وضع‭ ‬طارئ‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬فيه‭ ‬أمم‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأخيرة‭ ‬معزولة‭ ‬عن‭ ‬التقدم‭ ‬الصناعي‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬فلم‭ ‬تنتبه‭ ‬للحدث‭ ‬الجديد‭ ‬المهم‭ ‬الحاسم،‭ ‬وهو‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬مواصفاته‭ ‬وطرق‭ ‬معالجته‭ ‬من‭ ‬أمة‭ ‬لأخرى‭ ‬ومن‭ ‬شعب‭ ‬لآخر‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يختبئ‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬النعوت‭ ‬الاستعمارية‭ ‬هو‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أقطار‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬المترف‭ ‬والمحروم،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬إنه‭ ‬الصراع‭ ‬ولأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإنسانية‭ ‬كلها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬ذاتها،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬منجزاتها‭ ‬الصناعية،‭ ‬فهذه‭ ‬مجموعة‭ ‬سلع‭ ‬تباع‭ ‬في‭ ‬الأسواق،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاقها‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الفكر‭ ‬النظري‭ ‬المجرد،‭ ‬والخطأ‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يرتكبه‭ ‬سياسيو‭ ‬“العالم‭ ‬الثالث”‭ ‬ومفكروه‭ ‬هو‭ ‬اعتقادهم‭ ‬بأن‭ ‬اقتناء‭ ‬الآلة‭ ‬أو‭ ‬إنتاجها‭ ‬جزئيا‭ ‬هو‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فالحضارة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الآلة‭ ‬إنما‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬يبدع‭ ‬الآلة‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يغنيها‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬النظري‭.‬

إننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬سنته‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬البقاء،‭ ‬عالم‭ ‬لم‭ ‬يشف‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬عقده‭ ‬وغرائزه‭ ‬المكبوتة‭ ‬ولم‭ ‬ينتصر‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬رواسب‭ ‬التاريخ،‭ ‬لأن‭ ‬الآلة‭ ‬أعطت‭ ‬لمن‭ ‬يبدعها‭ ‬قوة‭ ‬هجومية‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬لها،‭ ‬ولسوف‭ ‬يعاني‭ ‬الإنسان‭ ‬لزمن‭ ‬طويل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو،‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الآلام‭ ‬والنكبات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشفى‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬التلسط‭ ‬والانتقام،‭ ‬وحتى‭ ‬تنتصر‭ ‬النزعات‭ ‬الخيرة‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬النزعات‭ ‬الشريرة‭.‬