سفير للإمام المهدي المنتظر في البحرين ومهدي في السودان وآخر في السعودية! 2-2

| عبدالنبي الشعلة

تعرفنا‭ ‬بالأمس‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬العقد‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وادعى‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬اتصالا‭ ‬مباشرا‭ ‬بالإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر،‭ ‬وأن‭ ‬الإمام‭ ‬عينه‭ ‬“سفيرًا”‭ ‬له‭ ‬وكلفه‭ ‬بالاضطلاع‭ ‬بمهمة‭ ‬تجديد‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬وإصلاح‭ ‬شؤون‭ ‬المسلمين‭ ‬وإعادتهم‭ ‬إلى‭ ‬جادة‭ ‬الصواب،‭ ‬وقد‭ ‬تمكن‭ ‬هذا‭ ‬المدعي‭ ‬من‭ ‬استقطاب‭ ‬أعداد‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬الأتباع‭ ‬والمريدين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬قصته‭ ‬ويتوارى‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭.‬

وقلنا‭ ‬أيضًا‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬الوحيد‭ ‬من‭ ‬نوعه،‭ ‬فقد‭ ‬شهدت،‭ ‬بل‭ ‬ابتليت‭ ‬واكتظت‭ ‬الساحة‭ ‬الإسلامية‭ ‬السنية‭ ‬والشيعية‭ ‬منها‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬أمثاله،‭ ‬أكثرهم‭ ‬ادعى‭ ‬أنه‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر‭ ‬نفسه،‭ ‬وكلهم‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتردد‭ ‬عن‭ ‬توظيف‭ ‬الدين‭ ‬سياسيًا‭ ‬أو‭ ‬تتورع‭ ‬عن‭ ‬استغلال‭ ‬معتقدات‭ ‬وعواطف‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬لتحقيق‭ ‬مآربها‭ ‬ومكاسبها‭ ‬السياسية‭ ‬والدنيوية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المدعين‭ ‬قاموا‭ ‬بذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬انحراف‭ ‬أو‭ ‬خلل‭ ‬فكري‭ ‬أو‭ ‬اضطراب‭ ‬نفسي‭ ‬أصابهم،‭ ‬أو‭ ‬حبًا‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬والتسلط‭ ‬أو‭ ‬بغية‭ ‬جني‭ ‬الأموال‭ ‬أو‭ ‬لكل‭ ‬تلك‭ ‬الأسباب‭ ‬والأهداف‭ ‬مجتمعة‭.‬

وسنتوقف‭ ‬اليوم‭ ‬بشكل‭ ‬عابر‭ ‬ومقتضب‭ ‬أمام‭ ‬حالتين‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬التقمص‭ ‬والادعاء‭ ‬بالمهدوية؛‭ ‬نظرًا‭ ‬لأهميتهما‭ ‬وخطورتهما‭.‬

الأول‭ ‬منهما‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬هدفه‭ ‬وتسلَّم‭ ‬مقاليد‭ ‬الحكم،‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬176‭ ‬عامًا‭ ‬عندما‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الشقيق‭ ‬شخص‭ ‬اسمه‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬فحل،‭ ‬الذي‭ ‬التحق‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬بأحد‭ ‬الكتاتيب‭ ‬وحفظ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة،‭ ‬ثم‭ ‬درس‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ ‬وتبحر‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬الزهد‭ ‬والتصوف،‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني‭ ‬زاخرًا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬الصوفية؛‭ ‬وبدأ‭ ‬يتنقل‭ ‬بين‭ ‬خلوات‭ ‬شيوخ‭ ‬التصوف‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرزهم،‭ ‬وذاع‭ ‬صيته‭ ‬واجتمع‭ ‬حوله‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأتباع‭ ‬والمريدين‭.‬

محمد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬غير‭ ‬اسمه‭ ‬إلى‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬المهدي‭ ‬لكي‭ ‬يُواطِئ‭ ‬اسمُه‭ ‬اسم‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ (‬عليه‭ ‬أفضل‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭) ‬واسمُ‭ ‬أبيهِ‭ ‬اسمُ‭ ‬أبي‭ ‬النبي‭ ‬محمد،‭ ‬استعدادًا‭ ‬وتهيئة‭ ‬لإعلان‭ ‬نفسه‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر،‭ ‬ثم‭ ‬اعتكف‭ ‬في‭ ‬مغارة‭ ‬لمدة‭ ‬40‭ ‬يومًا،‭ ‬خرج‭ ‬بعدها‭ ‬وقد‭ ‬أتته‭ ‬البشارة،‭ ‬إذ‭ ‬أعلن‭ ‬للمشايخ‭ ‬والفقهاء‭ ‬والأعيان‭ ‬أنه‭ ‬“المهدي‭ ‬المنتظر”‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬ليملأ‭ ‬الأرض‭ ‬عدلًا‭ ‬ونورًا،‭ ‬وبدأ‭ ‬بالدعوة‭ ‬السرية‭ ‬لمهدويته،‭ ‬فآمن‭ ‬به‭ ‬كثيرون‭ ‬وأخذ‭ ‬أمره‭ ‬بالانتشار‭ ‬والتوسع،‭ ‬واندفع‭ ‬إليه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المريدين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بالسودان‭ ‬للتبرك‭ ‬به‭.‬

وارتفع‭ ‬بدعوته‭ ‬من‭ ‬السرية‭ ‬إلى‭ ‬الجهرية‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1881م،‭ ‬عندما‭ ‬وجد‭ ‬الأرضية‭ ‬ممهدة‭ ‬وصالحة،‭ ‬والأوضاع‭ ‬والظروف‭ ‬مواتية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬السودانيون‭ ‬يرزحون‭ ‬ويئنون‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬ظلم‭ ‬وعنف‭ ‬واستبداد‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬وارتفاع‭ ‬الضرائب‭ ‬وتفشي‭ ‬الفقر‭ ‬والرشوة‭ ‬والمحاباة‭ ‬والسخط‭ ‬والتذمر،‭ ‬وكانوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬مُتعطشين‭ ‬لتدخّل‭ ‬يدٍ‭ ‬إلهية‭ ‬تنقذهم‭ ‬من‭ ‬الوضع‭ ‬المتردي‭ ‬الذي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه؛‭ ‬فصدق‭ ‬البسطاء‭ ‬والمهمشون‭ ‬منهم‭ ‬دعوة‭ ‬المهدي،‭ ‬ووجدوا‭ ‬فيه‭ ‬الأمل‭ ‬الوحيد،‭ ‬فالتفوا‭ ‬حوله‭ ‬مقنعين‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأن‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬بعث‭ ‬لهم‭ ‬المهدي‭ ‬الموعود‭ ‬ليخلّصهم‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬السنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬وعناء‭.‬

فاستفاد‭ ‬“المهدي”‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬والأوضاع‭ ‬واستثمر‭ ‬معاناة‭ ‬الناس‭ ‬ووجه‭ ‬خطابًا‭ ‬للسودانيين‭ ‬ورد‭ ‬فيه‭: ‬“‭... ‬جاءني‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬في‭ ‬اليقظة،‭ ‬ومعه‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدون‭ ‬والأقطاب‭ ‬والخضر‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬وأمسك‭ ‬بيدي‭ - ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ - ‬وأجلسني‭ ‬على‭ ‬كرسيه،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬أنت‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر،‭ ‬ومن‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬مهديتك،‭ ‬فقد‭ ‬كفر‭. ‬وأن‭ ‬التُرك‭ ‬كفار،‭ ‬وهم‭ ‬أشد‭ ‬الناس‭ ‬كفرًا؛‭ ‬لأنهم‭ ‬ساعون‭ ‬في‭ ‬إطفاء‭ ‬نور‭ ‬الله،‭ ‬ويأبى‭ ‬الله‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬نوره‭ ‬ولو‭ ‬كره‭ ‬الكافرون”‭.‬

وقد‭ ‬كانت‭ ‬استجابة‭ ‬السودانيين‭ ‬لدعوة‭ ‬المهدي‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬القوة‭ ‬والصلابة‭ ‬بحيث‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬ومحاربة‭ ‬القوات‭ ‬الحكومية‭ ‬وهزيمتها‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬السودان‭.‬

وبعد‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬البلاد،‭ ‬تُوفِي‭ ‬الإمام‭ ‬المنتظر‭ ‬السوداني‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬ناهز‭ ‬41‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬إصابته‭ ‬بحمى‭ ‬التيفوس،‭ ‬وهو‭ ‬مرض‭ ‬يسببه‭ ‬القمل‭ ‬والبراغيث،‭ ‬وذلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتسنّى‭ ‬له‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بثمار‭ ‬فتوحاته‭ ‬واستكمالها،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وعد‭ ‬أتباعه‭ ‬ومريديه‭ ‬بأن‭ ‬المنية‭ ‬لن‭ ‬تدركه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬مصر‭ ‬والشام‭ ‬والكوفة‭ ‬والحجاز‭ ‬وأقطار‭ ‬المسلمين‭ ‬كلها،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬لهم‭ ‬دولة‭ ‬“العدل‭ ‬والنور”‭ ‬التي‭ ‬وعدهم‭ ‬بها‭ ‬أيضًا،‭ ‬فكان‭ ‬وقع‭ ‬موته‭ ‬المبكر‭ ‬كالصاعقة‭ ‬عليهم‭ ‬كشفت‭ ‬حقيقة‭ ‬أمره‭ ‬وأسقطت‭ ‬قدسيته‭ ‬بالنسبة‭ ‬للكثيرين‭ ‬منهم‭.‬

الثاني‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬تدميرًا‭ ‬وخطورة‭ ‬على‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬الشقيقة،‭ ‬حيث‭ ‬ظهر‭ ‬شخص‭ ‬اسمه‭ ‬جهيمان‭ ‬العتيبي،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عمل‭ ‬سائق‭ ‬شاحنة‭ ‬في‭ ‬الحرس‭ ‬الوطني‭ ‬السعودي،‭ ‬ثم‭ ‬التحق‭ ‬بالجامعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بمكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬وأصبح‭ ‬بعدها‭ ‬مهندس‭ ‬عملية‭ ‬أو‭ ‬كارثة‭ ‬ظهور‭ ‬“الإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر”‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬عندما‭ ‬قاد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المسلحين‭ ‬المتعصبين‭ ‬مكونة‭ ‬مما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬200‭ ‬فرد‭ ‬اقتحموا‭ ‬بيت‭ ‬الله‭ ‬الحرام‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬شهر‭ ‬محرم‭ ‬الحرام‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1400هـ‭ ‬الموافق‭ ‬20‭ ‬نوفمبر‭ ‬1979م‭.‬

كان‭ ‬المغفور‭ ‬لهما‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬الملك‭ ‬سعود‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬والملك‭ ‬فيصل‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬آل‭ ‬سعود‭ ‬قد‭ ‬بدآ‭ ‬بالتتالي‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬وسبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عملية‭ ‬تطوير‭ ‬وتحديث‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬السعودي‭ ‬مع‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬أسسهما‭ ‬وأركانهما‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬منّ‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬بخيرات‭ ‬مداخيل‭ ‬النفط،‭ ‬فبدآ‭ ‬بإدخال‭ ‬التعليم‭ ‬النظامي‭ ‬والرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬والرياضية‭ ‬والفنية،‭ ‬وتطوير‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬بتقديم‭ ‬خدمات‭ ‬التلفزة،‭ ‬وخدمات‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬المتاحة‭ ‬وقتها‭ ‬مثل‭ ‬التلفون‭ ‬والفاكس‭ ‬وما‭ ‬شابه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جهيمان‭ ‬ومن‭ ‬على‭ ‬شاكلته‭ ‬لم‭ ‬ترق‭ ‬لهم‭ ‬هذه‭ ‬الخطوات‭ ‬التنويرية‭ ‬والتحديثية‭ ‬الأولية،‭ ‬وضاقوا‭ ‬ذرعًا‭ ‬بها‭ ‬واعتبروها‭ ‬بدعًا‭ ‬وأباطيل‭ ‬وخروجًا‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬الدينية‭ ‬كما‭ ‬فهموها،‭ ‬وستؤدي،‭ ‬بحسب‭ ‬رأيهم،‭ ‬إلى‭ ‬فساد‭ ‬المجتمع،‭ ‬وكانوا‭ ‬يرددون‭ ‬“إن‭ ‬الدولة‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬طريقٍ‭ ‬يلهي‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬صحيح‭ ‬دينهم،‭ ‬ولا‭ ‬يجعلهم‭ ‬خالصين‭ ‬لتعاليم‭ ‬الإسلام”،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬بهدف‭ ‬الإطاحة‭ ‬بالنظام‭ ‬القائم‭ ‬والاستيلاء‭ ‬على‭ ‬السلطة‭.‬

قرر‭ ‬جهيمان‭ ‬التحرك‭ ‬لمواجهة‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬والتصدي‭ ‬لها‭ ‬وإعادة‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬دين‭ ‬الله،‭ ‬فانخرط‭ ‬في‭ ‬نشاط‭ ‬فكري‭ ‬دعوي‭ ‬مؤثر،‭ ‬وكوَّن‭ ‬جماعة‭ ‬راديكالية‭ ‬سميت‭ ‬بـ‭ ‬“الجماعة‭ ‬السلفية‭ ‬المحتسبة”،‭ ‬الذين‭ ‬تجمعوا‭ ‬حول‭ ‬فكرة‭ ‬“الإمام‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر”‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أقنعهم‭ ‬بأن‭ ‬صهره‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬القحطاني‭ ‬هو‭ ‬“المهدي‭ ‬المنتظر”،‭ ‬واتفقوا‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬اقتحام‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬لمبايعته‭ ‬في‭ ‬باحة‭ ‬الحرم‭ ‬“بين‭ ‬البيت‭ ‬والمقام”‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬الآثار‭ ‬المروية‭ ‬عن‭ ‬المهدي‭ ‬تفيد‭ ‬بذلك‭.‬

وبالفعل،‭ ‬قاموا‭ ‬باقتحام‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام‭ ‬والاستيلاء‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نجحوا‭ ‬في‭ ‬إدخال‭ ‬الأسلحة‭ ‬إلى‭ ‬داخله‭. ‬وانتشروا‭ ‬في‭ ‬نقاط‭ ‬رئيسية‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬وممرات‭ ‬وأقبية‭ ‬ومنارات‭ ‬الحرم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سمح‭ ‬لهم‭ ‬بالسيطرة‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬المكان،‭ ‬وإطلاق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬قوات‭ ‬الأمن‭ ‬السعودية‭ ‬خارج‭ ‬الحرم،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬اندلاع‭ ‬الاشتباكات‭ ‬المسلحة‭ ‬بينهم‭ ‬والقوات‭ ‬السعودية‭. ‬ولإحكام‭ ‬قبضتهم‭ ‬قاموا‭ ‬بإغلاق‭ ‬أبواب‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬صلاة‭ ‬الصبح،‭ ‬وأعلن‭ ‬جهيمان‭ ‬أمام‭ ‬آلاف‭ ‬المعتمرين‭ ‬والمصلين‭ ‬الذين‭ ‬احتجزهم‭ ‬أن‭ ‬صهره‭ ‬محمد‭ ‬عبدالله‭ ‬القحطاني‭ ‬الواقف‭ ‬بجانبه،‭ ‬هو‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر‭ ‬وهو‭ ‬مجدد‭ ‬الدين،‭ ‬وأنه‭ ‬“خرج‭ ‬ليملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬عدلا‭ ‬بعدما‭ ‬ملئت‭ ‬جورا”‭.‬

المهدي‭ ‬المنتظر‭ ‬المزعوم‭ ‬محمد‭ ‬القحطاني،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬دراسته‭ ‬الجامعية‭ ‬حتى‭ ‬السنة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سعود‭ ‬الإسلامية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬الشخصية‭ ‬ويفتقد‭ ‬الكاريزما‭ ‬والخصال‭ ‬القيادية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬جهيمان،‭ ‬وقد‭ ‬بايعه‭ ‬جهيمان‭ ‬وجماعته‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬اقتحام‭ ‬الحرم‭ ‬كما‭ ‬أرغم‭ ‬بقوة‭ ‬السلاح‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المصلّين‭ ‬والمعتمرين‭ ‬على‭ ‬مبايعته‭ ‬إماما‭ ‬للمسلمين‭ ‬واجب‭ ‬الطاعة‭ ‬والاتباع،‭ ‬وحذر‭ ‬جهيمان‭ ‬بإطلاق‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬يحاول‭ ‬الفرار،‭ ‬لكن‭ ‬محمد‭ ‬القحطاني‭ ‬لقي‭ ‬حتفه‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭! ‬مما‭ ‬يخالف‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدت‭ ‬عليه‭ ‬العملية‭ ‬من‭ ‬أساسها‭.‬

وطوال‭ ‬مدة‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬الحرم‭ ‬التي‭ ‬دامت‭ ‬أسبوعين،‭ ‬ظل‭ ‬جهيمان‭ ‬واتباعه‭ ‬المدججون‭ ‬بالسلاح‭ ‬متمترسين‭ ‬ومحتمين‭ ‬داخل‭ ‬الحرم‭ ‬المكي،‭ ‬أطهر‭ ‬وأقدس‭ ‬مقدسات‭ ‬المسلمين،‭ ‬ومسيطرين‭ ‬عليه‭ ‬ومحتجزين‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬المعتمرين‭ ‬والمصلين‭ ‬ورافضين‭ ‬الاستسلام،‭ ‬مما‭ ‬اضطر‭ ‬قوات‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬اقتحام‭ ‬باحة‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬الموقع‭ ‬وتطهيره‭.‬

سلم‭ ‬جهيمان‭ ‬نفسه،‭ ‬وأعطى‭ ‬أوامره‭ ‬بإلقاء‭ ‬السلاح‭ ‬لمن‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أتباعه،‭ ‬فتم‭ ‬القبض‭ ‬عليهم‭ ‬وتخليص‭ ‬وتطهير‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام‭ ‬وتحرير‭ ‬الرهائن،‭ ‬وقد‭ ‬أعدم‭ ‬جهيمان‭ ‬وأتباعه‭.‬

 

‭ ‬وخلفت‭ ‬هذه‭ ‬الجريمة‭ ‬النكراء‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الجرحى‭ ‬والقتلى‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬والمنشقين‭ ‬والمحتجزين‭ ‬والأبرياء‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬من‭ ‬بدايتها‭ ‬حتى‭ ‬نهايتها،‭ ‬والتي‭ ‬دمرت‭ ‬أجزاء‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬تطلب‭ ‬إصلاحها‭ ‬شهورا‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬جريمة‭ ‬جهيمان‭ ‬ومهديه‭ ‬وأتباعهما‭ ‬أكبر‭ ‬وأسوأ‭ ‬كارثة‭ ‬حلت‭ ‬بالبيت‭ ‬الحرام،‭ ‬وكان‭ ‬وقعها‭ ‬كالزلزال‭ ‬الذي‭ ‬هز‭ ‬أركان‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬تداعيات‭ ‬وارتدادات‭ ‬سلبية‭ ‬خطيرة،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬بذور‭ ‬التطرف‭ ‬والعنف‭ ‬والإرهاب‭ ‬وإلهام‭ ‬فكر‭ ‬التيارات‭ ‬والحركات‭ ‬والمنظمات‭ ‬الإرهابية‭ ‬كالقاعدة‭ ‬وغيرها،‭ ‬وقد‭ ‬ساهمت،‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬تيار‭ ‬جديد‭ ‬أشد‭ ‬خطورة‭ ‬وفتكا،‭ ‬وهو‭ ‬تيار‭ ‬“السلفية‭ ‬الجهادية”‭.‬

لقد‭ ‬أدركت‭ ‬القيادة‭ ‬السعودية‭ ‬حجم‭ ‬وعمق‭ ‬التأثيرات‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السعودي،‭ ‬وما‭ ‬حملته‭ ‬من‭ ‬أبعاد‭ ‬وتداعيات‭ ‬مما‭ ‬اضطرها‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬محاولة‭ ‬احتواء‭ ‬هذه‭ ‬الإفرازات‭ ‬خصوصًا،‭ ‬وأنها‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬كان‭ ‬نشاط‭ ‬التيارات‭ ‬الإسلامية‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬تألقه‭ ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬حبلى‭ ‬بالتحديات،‭ ‬حيث‭ ‬شهدت‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬السياسية‭ ‬والتطورات‭ ‬المفصلية‭ ‬والمصيرية‭ ‬منها؛‭ ‬توسع‭ ‬حركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وخارجها،‭ ‬وقيام‭ ‬الثورة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬بحكم‭ ‬الشاه‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬والتي‭ ‬تسعى‭ ‬لتصدير‭ ‬أفكارها‭ ‬لدول‭ ‬المنطقة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الغزو‭ ‬الشيوعي‭ ‬السوفييتي‭ ‬لأفغانستان‭ ‬واستنفار‭ ‬المجاهدين‭ ‬المسلمين‭ ‬لدحره،‭ ‬وتوقيع‭ ‬اتفاقية‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬وغيرها‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أهم‭ ‬ارتداداتها،‭ ‬انبثاق‭ ‬ونمو‭ ‬ما‭ ‬عُرِف‭ ‬بـ‭ ‬“تيار‭ ‬الصحوة”،‭ ‬وهي‭ ‬حركة‭ ‬فكرية‭ ‬سلفية‭ ‬متشددة‭ ‬استغلت‭ ‬حادثة‭ ‬الحرم‭ ‬لتجعل‭ ‬الدولة‭ ‬السعودية‭ ‬رهينة‭ ‬لفكرها‭ ‬المتشدد‭ ‬وتفرض‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬نظامًا‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬طابعه‭ ‬الانغلاق‭ ‬والتعصب،‭ ‬ومن‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬اختراق‭ ‬جهاز‭ ‬التعليم‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬المجال‭ ‬الدعوي‭ ‬في‭ ‬المملكة‭.‬

ولمدة‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬ظل‭ ‬المجتمع‭ ‬السعودي‭ ‬يرزح‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬وسيطرة‭ ‬هذا‭ ‬التيار،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬السلطة‭ ‬ومسك‭ ‬بزمامها‭ ‬ملك‭ ‬الشجاعة‭ ‬والحزم‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬آل‭ ‬سعود،‭ ‬وبمساندة‭ ‬ولي‭ ‬عهده‭ ‬الشاب‭ ‬الأمير‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سلمان،‭ ‬فوضعا‭ ‬حدًا‭ ‬لهذه‭ ‬السيطرة‭ ‬وشرعا‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬وقيادة‭ ‬حركة‭ ‬إصلاحية‭ ‬تصحيحية،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأفكار‭ ‬التكفيرية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وتكسير‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬كبلت‭ ‬المجتمع‭ ‬وعرقلة‭ ‬نمو‭ ‬وتطور‭ ‬البلاد،‭ ‬وكان‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬مصيبًا‭ ‬واضحًا‭ ‬صريحًا‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬بالحرف‭ ‬الواحد‭ ‬إن‭ ‬“السعودية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كذلك‭ ‬قبل‭ ‬العام‭ ‬1976،‭ ‬السعودية‭ ‬والمنطقة‭ ‬كلها‭ ‬انتشر‭ ‬فيها‭ ‬مشروع‭ ‬الصحوة‭ ‬بعد‭ ‬العام‭ ‬79‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة،‭ ‬ليس‭ ‬هنا‭ ‬مجال‭ ‬ذكرها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬السعودية‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬نحن‭ ‬فقط‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬عليه؛‭ ‬الإسلام‭ ‬الوسطي‭ ‬المعتدل‭ ‬المنفتح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وعلى‭ ‬جميع‭ ‬الأديان‭ ‬والتقاليد”‭.‬