قهوة الصباح

الرق السيكولوجي للأشياء (20)

| سيد ضياء الموسوي

كثير‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬نظّروا‭ ‬للسعادة،‭ ‬وكيف‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬سعيدا؟‭ ‬فهل‭ ‬تكون‭ ‬السعادة‭ ‬بالمال‭ ‬أو‭ ‬المنصب‭ ‬أو‭ ‬الشهرة‭ ‬أو‭ ‬الحب‭ ‬أو‭ ‬الدين؟

وإذا‭ ‬كان‭ ‬كذلك،‭ ‬فلماذا‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأغنياء‭ ‬غير‭ ‬سعداء‭ ‬ومكتئبون‭ ‬أو‭ ‬يقدمون‭ ‬على‭ ‬الانتحار‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬إحصاءات‭ ‬مفزعة‭ ‬في‭ ‬ذلك؟‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬للمليونيرة‭ ‬كريستين‭ ‬أوناسيس‭.. ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬الثروة‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬لها‭ ‬أبسط‭ ‬معاني‭ ‬السعادة‭ ‬فقررت‭ ‬الانتحار‭! ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬لـ‭ ‬لورنس‭ ‬سميدلي‭.. ‬أغنى‭ ‬أغنياء‭ ‬بريطانيا‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬بدل‭ ‬معالجة‭ ‬مرضه‭ ‬والبقاء‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭..‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬المنصب‭ ‬يقي‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الخذلان،‭ ‬فلماذا‭ ‬انتحر‭ ‬هتلر؟‭ ‬ولماذا‭ ‬أكثر‭ ‬سياسيي‭ ‬العالم‭ ‬وعلى‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭ ‬كانوا‭ ‬تعساء‭ ‬ويعيشون‭ ‬سعادة‭ ‬مقنعة؟‭ ‬ولماذا‭ ‬الشهرة‭ ‬لم‭ ‬تسعف‭ ‬أو‭ ‬تنقد‭ ‬الروائي‭ ‬الأميركي‭ ‬الكبير‭ ‬ارنست‭ ‬همنجواي‭ ‬من‭ ‬الانتحار؟‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬أفضل‭ ‬رواية‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬إرادة‭ ‬وقدرة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التحديات،‭ ‬وقهر‭ ‬الطبيعة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬“العجوز‭ ‬والبحر”؟‭ ‬وكذلك‭ ‬الموسيقار‭ ‬الروسي‭ ‬تشايكوفيسكي‭ ‬صاحب‭ ‬مقطوعة‭ ‬“بحيرة‭ ‬البجع”‭ ‬و‭ ‬“كسارة‭ ‬البندق”‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬لا‭ ‬موسيقاه،‭ ‬ولا‭ ‬شهرته‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬الاستسلام‭ ‬لتعاسة‭ ‬داخلية،‭ ‬وحزن‭ ‬داخلي،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬مقطوعاته‭ ‬تعزف‭ ‬للعالم‭ ‬أجمل‭ ‬الموسيقى،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬قلبه‭ ‬تعزف‭ ‬عزفا‭ ‬جنائزيا،‭ ‬قاده‭ ‬للموت‭.‬

وكذلك‭ ‬أمر‭ ‬الرسام‭ ‬الهولندي‭ ‬فان‭ ‬جوخ،‭ ‬والروائية‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف،‭ ‬فالشهرة‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬التعاسة،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬صناعة‭ ‬السعادة‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬للمثل‭ ‬الكوميدي،‭ ‬روبين‭ ‬وليامس‭.. ‬إذ‭ ‬وجد‭ ‬منتحرًا‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬اكتئاب‭ ‬شديدة‭ ‬عزلته‭ ‬عن‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليه‭. ‬وكيف‭ ‬انتهى‭ ‬المطاف‭ ‬بمايكل‭ ‬جاكسون‭ ‬للموت‭ ‬وحيدا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬العالم‭ ‬يتمنى‭ ‬الجلوس‭ ‬معه؟‭ ‬

ومن‭ ‬يقرأ‭ ‬سيرة‭ ‬من‭ ‬صنعوا‭ ‬التاريخ‭ ‬أمثال‭ ‬لويس‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬فكان‭ ‬يقضي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الليالي‭ ‬مكتئبا‭ ‬بسبب‭ ‬الدسائس‭ ‬والخيانات‭ ‬والغدر‭ ‬والحروب‭ ‬والآلام‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬لنابليون‭ ‬وتشرشل‭ ‬وغيرهما‭. ‬حتى‭ ‬العشق‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجلب‭ ‬السعادة،‭ ‬وبين‭ ‬أيدينا‭ ‬أمثلة‭ ‬عديدة‭: ‬لقيس‭ ‬بن‭ ‬الملوح،‭ ‬ومايكل‭ ‬أنجلو،‭ ‬وأوسكار‭ ‬وايلد،‭ ‬ونيتشه،‭ ‬وبلزاك،‭ ‬وغوستاف‭ ‬فلوبير،‭ ‬وجان‭ ‬جنيه،‭ ‬ورامبو‭ ‬ولوركا‭ ‬وسلفادور‭ ‬دالي‭ ‬وديدرو‭ ‬باسكال‭ ‬من‭ ‬فلاسفة‭ ‬وكتاب‭ ‬وفنانين‭. ‬إذن‭ ‬هناك‭ ‬سر‭ ‬خفيا‭ ‬وراء‭ ‬تعاسة‭ ‬الإنسان‭! ‬المفتاح‭ ‬الذي‭ ‬سيفتح‭ ‬لك‭ ‬منجم‭ ‬السعادة‭: ‬هو‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭.. ‬أول‭ ‬الطريق‭. ‬ومعرفة‭ ‬الله‭ ‬تكون‭ ‬بترسيخ‭ ‬القيم‭ ‬الكونية،‭ ‬وتكون‭ ‬إنسانا‭ ‬ذا‭ ‬خلق،‭ ‬حضاريا،‭ ‬ذا‭ ‬نزعة‭ ‬إنسانية‭. ‬

إن‭ ‬هناك‭ ‬نظريات‭ ‬كثيرة‭ ‬اشتغلت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬مفهوم‭ ‬السعادة،‭ ‬لكنها‭ ‬تبقى‭ ‬ناقصة‭. ‬قناعتي‭ ‬في‭ ‬السعادة‭ ‬أنها‭ ‬خلطة‭ ‬متكاملة‭ ‬ألخصها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭: ‬أولا‭: ‬ألا‭ ‬تلهث‭ ‬وراء‭ ‬الأشياء‭ ‬بشكل‭ ‬جنوني،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬تبالغ‭ ‬في‭ ‬عشقه‭ ‬أو‭ ‬طلبه‭ ‬أو‭ ‬الإلحاح‭ ‬عليه‭ ‬لن‭ ‬تحصل‭ ‬عليه،‭ ‬وهذا‭ ‬يقودك‭ ‬إلى‭ ‬التوازن‭ ‬الداخلي‭.‬

ثانيا‭: ‬السلام‭ ‬الداخلي،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬متصالحا‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬وتعيش‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تحبها‭ ‬لا‭ ‬التي‭ ‬تملى‭ ‬عليك‭ ‬وفق‭ ‬إيقاع‭ ‬توازني‭ ‬كما‭ ‬تريد‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬كما‭ ‬يريد‭ ‬الناس،‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬سارتر‭: ‬الآخرون‭ ‬هم‭ ‬الجحيم‭. ‬

ثالثا‭: ‬أكبر‭ ‬منقذ‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الفوضى‭ ‬العالمية‭ ‬وحالات‭ ‬القلق‭ ‬والاكتئاب‭ ‬العالمي‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله،‭ ‬وتعزيز‭ ‬التوازن‭ ‬الروحي‭.‬

رابعا‭: ‬إياك‭ ‬والعشق‭. ‬خامسا‭: ‬التوازن‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وأن‭ ‬تحب‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬باستخدام‭ ‬ذكاء‭ ‬المسافة‭. ‬ثم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالثالوث‭ ‬الذهبي‭: ‬1‭. ‬تثقيف‭ ‬العقل،‭ ‬2‭. ‬أجراس‭ ‬الضمير،‭ ‬3‭. ‬المحفظة‭ ‬غير‭ ‬المثقوبة‭. ‬

إن‭ ‬الفلسفة‭ ‬الرواقية‭ ‬أصابت‭ ‬بتعريفها‭ ‬للإنسان‭ ‬الحكيم‭ ‬ومن‭ ‬يريد‭ ‬السعادة‭ ‬قائلة‭ ‬“الحكيم‭: ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يندم‭ ‬أقل،‭ ‬ويأمل‭ ‬أقل،‭ ‬ويحب‭ ‬أكثر”‭. ‬

كما‭ ‬قلت‭ ‬هي‭ ‬خلطة‭ ‬متكاملة‭ ‬في‭ ‬توازن‭: ‬تقوى،‭ ‬ومال،‭ ‬وصحة،‭ ‬وحب،‭ ‬وسلام‭ ‬داخلي،‭ ‬ومحاولة‭ ‬لتقليل‭ ‬المنغصات‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬وصناعة‭ ‬الحديقة‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬كثرة‭ ‬الأقنعة،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الأشخاص‭ ‬المسممين‭ ‬لمتعة‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬سلبيين‭ ‬ولصوص‭ ‬طاقة‭ ‬ونكديين،‭ ‬مع‭ ‬تقديس‭ ‬الجمال،‭ ‬ومحاولة‭ ‬اصطياده‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الفنون‭ ‬والمجالات‭ ‬كتابا‭ ‬أو‭ ‬ثوبا‭ ‬أو‭ ‬أثاثا‭ ‬أو‭ ‬بلدا‭ ‬أو‭ ‬موسيقى‭... ‬

معظم‭ ‬التعساء‭ ‬تعساء‭ ‬لأنهم‭ ‬ضحايا‭ ‬العقل‭ ‬الجمعي‭ ‬الروتيني‭ ‬الذي‭ ‬تعودوا‭ ‬عليه،‭ ‬فلا‭ ‬يجتهدون‭ ‬لمعرفة‭ ‬أنواع‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ويخافون‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬أو‭ ‬عبدوا‭ ‬صنما‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فأصبح‭ ‬سجنهم‭ ‬الدائم،‭ ‬فلم‭ ‬يستطيعوا‭ ‬الخروج‭ ‬منه،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬صنمية‭ ‬الشهرة‭ ‬أو‭ ‬صنمية‭ ‬المنصب‭ ‬أو‭ ‬صنمية‭ ‬المال‭ ‬أو‭ ‬صنمية‭ ‬العشيقة‭ ‬أو‭ ‬صنمية‭ ‬العادات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬صنمية‭ ‬الحزب‭.‬

إن‭ ‬محاولة‭ ‬كسر‭ ‬القيد‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬الخروج‭ ‬للسعادة،‭ ‬والتمتع‭ ‬بكوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬المتنوع‭. ‬

صل‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬بعقل‭ ‬سليم‭ ‬وبجسم‭ ‬رياضي‭ ‬سليم،‭ ‬وقلب‭ ‬أبيض،‭ ‬ومحفظة‭ ‬تقيك‭ ‬حاجة‭ ‬الناس،‭ ‬صلاة‭ ‬بأجمل‭ ‬وآنق‭ ‬ثوب،‭ ‬وبأفضل‭ ‬عطر،‭ ‬وفي‭ ‬أكثر‭ ‬مسجد‭ ‬روحانية،‭ ‬في‭ ‬أجمل‭ ‬بلد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬تحبه‭ ‬مع‭ ‬أفضل‭ ‬رفقة‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬مخلصين،‭ ‬ستقترب‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭.‬