ذرائع

ليست كل “الحمد لله”... “الحمد لله”

| غسان الشهابي

كحال‭ ‬المحاضرين‭ ‬الممتلئين‭ ‬بالمعارف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب،‭ ‬ساق‭ ‬الدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬الحجاجي‭ ‬كلامه‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يحاضرنا‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬بجامعة‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬الثمانينات،‭ ‬وأخذ‭ ‬يشرح‭ ‬عن‭ ‬معاني‭ ‬الكلمات‭ ‬إذا‭ ‬تسطحت،‭ ‬وفقدانها‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬قُدّت‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬العبارات‭ ‬والتراكيب‭ ‬اللفظية،‭ ‬ضارباً‭ ‬المثل‭ ‬بعبارة‭ ‬يومية‭ ‬نستخدمها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تعمّق‭ ‬في‭ ‬معانيها‭ ‬وهي‭ ‬“صباح‭ ‬الخير”،‭ ‬فنحن‭ ‬نستخدمها‭ ‬مفتتحاً‭ ‬لكلامنا‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬تأدّباً،‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نعني‭ ‬حقيقة‭ ‬رجائنا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الصباحُ‭ ‬صباحَ‭ ‬خيرٍ‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬نتحدث‭ ‬إليهم‭. ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬يصدق‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العبارات‭ ‬التي‭ ‬نلوكها‭ ‬ونستنزفها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تدقيق‭ ‬أو‭ ‬غوص‭ ‬في‭ ‬معانيها‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭: ‬“الحمد‭ ‬لله”،‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬إجابة‭ ‬لسؤال‭ ‬عن‭ ‬الأحوال،‭ ‬وغالبية‭ ‬من‭ ‬أرى‭ ‬–‭ ‬وربما‭ ‬أنا‭ ‬منهم‭ ‬شعرتُ‭ ‬بذلك‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬–‭ ‬يجيب‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬الأحوال،‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬الصحة‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الحياة‭ ‬بعمومها،‭ ‬بقول‭ ‬“الحمد‭ ‬لله”‭ ‬بصيغة‭ ‬منكسرة‭ ‬أٌقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬الاستياء‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الحمد‭ ‬الحقيقي‭ ‬لله‭. ‬بعضهم‭ ‬يضيف‭ ‬إليها‭ ‬“الحمد‭ ‬لله‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُحمد‭ ‬على‭ ‬مكروه‭ ‬سواه”،‭ ‬بما‭ ‬يوحي‭ ‬باستياء‭ ‬مبطّن‭.‬

ولم‭ ‬أر‭ ‬طيلة‭ ‬عمري‭ ‬إلا‭ ‬صديقاً‭ ‬واحداً‭ ‬فقط‭ ‬يعيد‭ ‬الحياة‭ ‬لهذه‭ ‬العبارة‭ ‬الحامدة‭ ‬الشاكرة‭ ‬كما‭ ‬ينبغي،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬أسأله‭ ‬عن‭ ‬حاله‭ ‬وحال‭ ‬أسرته،‭ ‬حتى‭ ‬يفاجئني‭ ‬بقول‭ ‬“الحمد‭ ‬لله”‭ ‬من‭ ‬أقاصي‭ ‬قلبه‭ ‬ووجدانه،‭ ‬يوقظني‭ ‬لهذه‭ ‬العبارة‭ ‬ويلفتني‭ ‬إليها‭ ‬استشعاره‭ ‬بها،‭ ‬وكأنه‭ ‬يلامس‭ ‬بجوارحه‭ ‬تفاصيل‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬كأنه‭ ‬يعدد‭ ‬النعم‭ ‬الربانية‭ ‬التي‭ ‬تحيطه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬والتي‭ ‬لو‭ ‬قيست‭ ‬بالمرارات‭ ‬التي‭ ‬تلمّ‭ ‬بالمرء‭ ‬لغطّتها‭ ‬وفاضت‭ ‬حتى‭ ‬تتضاءل‭ ‬أمامها‭ ‬جميع‭ ‬المنغّصات‭ ‬التي‭ ‬تروح‭ ‬وتجيء،‭ ‬بينما‭ ‬يستمتع‭ ‬الإنسان‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬من‭ ‬النعم‭ ‬التي‭ ‬لشدّة‭ ‬ما‭ ‬عايشها‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬يلتفت‭ ‬إليها،‭ ‬بل‭ ‬يعتبرها‭ ‬من‭ ‬المسلّمات،‭ ‬بينما‭ ‬هذه‭ ‬النعم‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تزول‭ ‬كلياً‭ ‬أو‭ ‬جزئياً‭ ‬وحينها،‭ ‬ولعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعايش‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬السلبيات،‭ ‬ستزداد‭ ‬النقمة‭ ‬من‭ ‬المنغّصات‭ ‬التي‭ ‬ستكبر‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬رؤية‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬منها‭.‬

عدم‭ ‬التمعن‭ ‬في‭ ‬معاني‭ ‬العبارات‭ ‬اليومية،‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬“الحمد‭ ‬لله”‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقال‭ ‬إلا‭ ‬بصيغة‭ ‬العجز‭ ‬واليأس‭ ‬والقنوط،‭ ‬ينسحب‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬المتلقي‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬يسأل‭ ‬عما‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬اللهجة‭ ‬اليائسة‭ ‬البائسة،‭ ‬وذلك‭ ‬لكثرة‭ ‬ما‭ ‬سمعها‭ ‬واستخدمها‭.‬