قهوة الصباح

العظماء والجهل بفن إدارة السعادة (19)

| سيد ضياء الموسوي

أكثر‭ ‬الأغنياء‭ ‬والعظماء‭ ‬غير‭ ‬سعداء،‭ ‬فإن‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬فن‭ ‬إدارة‭ ‬المال‭ ‬والمنصب‭ ‬والمجد‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬فن‭ ‬إدارة‭ ‬السعادة‭. ‬قبل‭ ‬بناء‭ ‬القصر‭ ‬الخارجي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬ببناء‭ ‬القصر‭ ‬الداخلي،‭ ‬وتسيّجه،‭ ‬وتحرسه‭ ‬بالكلاب‭ ‬البوليسية،‭ ‬والكيمرات،‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬يخترق‭ ‬أحد‭ ‬قلبك،‭ ‬ونفسيتك‭. ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬حريصون‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬كل‭ ‬مقتنياتنا‭ ‬من‭ ‬السرقة‭ ‬أو‭ ‬التلف‭ ‬أو‭ ‬الاختراق‭ ‬إلا‭ ‬سلامة‭ ‬القلب،‭ ‬نلقيه‭ ‬على‭ ‬الأرصفة‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬عرضة‭ ‬لكل‭ ‬الذئاب‭ ‬البشرية‭ ‬المنفردة،‭ ‬ثم‭ ‬نبكي‭: ‬لماذا‭ ‬نحن‭ ‬تعساء؟‭ ‬كل‭ ‬القلوب‭ ‬الجريحة‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬معروضة‭ ‬للسرقة‭ ‬أو‭ ‬البيع،‭ ‬إما‭ ‬كسكراب‭ ‬أو‭ ‬كقطع‭ ‬غيار،‭ ‬تباع‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬شعبية‭ ‬لقلوب‭ ‬أخرى‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬صيانة‭. ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬عندنا‭ ‬نعرضه‭ ‬كعبد‭ ‬لا‭ ‬كملك،‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬سماسرة‭ ‬العاطفة‭ ‬الكاذبة‭. ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬حب‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬نظرة،‭ ‬وإنما‭ ‬هناك‭ ‬حماقة‭ ‬قرار‭ ‬قلب‭ ‬بلا‭ ‬حراسة‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬نظرة‭. ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬السعادة‭ ‬متقلبة،‭ ‬فينبغي‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬نعبِّد‭ ‬الطريق‭ ‬بالجروح‭ ‬الباقية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬السعادة‭ ‬كالأميرات‭ ‬بخيلات‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬المواعيد‭. ‬

‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬صاحب‭ ‬رواية‭ ‬“الخبز‭ ‬الحافي”‭: ‬“لا‭ ‬ينبغي‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نثق‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬السعادة‭. ‬إنها‭ ‬آتية‭ ‬هاربة،‭ ‬منفلتة‭ ‬كلما‭ ‬أردنا‭ ‬القبض‭ ‬عليها‭. ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مثل‭ ‬عصفور‭ ‬جميل‭ ‬يحط‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬شرفتنا‭. ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نقترب‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬يطير‭. ‬هل‭ ‬تعتقدين‭ ‬أن‭ ‬العصفور‭ ‬سيحط‭ ‬على‭ ‬الكتف‭ ‬ويغني‭ ‬لك‭ ‬أو‭ ‬لي‭ ‬كما‭ ‬نتخيل؟‭ ‬إن‭ ‬الكاتب‭ ‬العظيم‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنس،‭ ‬صاحب‭ ‬رواية‭ ‬“الفيرتويست”‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬السعادة،‭ ‬لأنه‭ ‬أحب‭ ‬شابة‭ ‬في‭ ‬سرية‭ ‬تامة،‭ ‬وظل‭ ‬معها‭ ‬لسنين‭ ‬طويلة‭ ‬خائفًا‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬وتهشم‭ ‬السمعة،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعشقها‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬ملأى‭ ‬بالرصاص،‭ ‬والصيادين‭ ‬المتربصين‭. ‬فوبيا‭ ‬السرية‭ ‬موت‭ ‬آخر‭ ‬للسعادة‭. ‬كل‭ ‬عظيم‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬بعض‭ ‬الوحوش‭ ‬التي‭ ‬تنهش‭ ‬سعادته‭. ‬ديكنز‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬فوبيا‭ ‬الفضيحة،‭ ‬باعتباره‭ ‬كاتبًا‭ ‬مشهورًا‭. ‬تهشمت‭ ‬سعادة‭ ‬آرنست‭ ‬همنجواى،‭ ‬عبقري‭ ‬الحرف‭ ‬الأميركي،‭ ‬صاحب‭ ‬رائعة‭ ‬“العجوز‭ ‬والبحر”‭ ‬بسبب‭ ‬ذكرياته،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬مشاركته‭ ‬المؤلمة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الإسبانية‭. ‬كانت‭ ‬ذاكرته‭ ‬مليئة‭ ‬بالألغام،‭ ‬والرصاص،‭ ‬وصور‭ ‬الأشلاء،‭ ‬فلم‭ ‬يقم‭ ‬بتنظيف‭ ‬الذاكرة‭ ‬المتورمة،‭ ‬فكانت‭ ‬نهايته‭ ‬مأساوية‭. ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬كي‭ ‬تخفف‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬الذكريات‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بفك‭ ‬الروابط‭ ‬الشرطية‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬قد‭ ‬يعيدك‭ ‬لأنياب‭ ‬كوابيس‭ ‬الماضي،‭ ‬أكان‭ ‬عطرًا‭ ‬أم‭ ‬رصاصة‭ ‬أم‭ ‬مكانًا‭ ‬أم‭ ‬أغنية‭. ‬أما‭ ‬سبب‭ ‬نزيف‭ ‬سعادة‭ ‬الكاتب‭ ‬الأيرلندي،‭ ‬أوسكار‭ ‬وايلد،‭ ‬فبسبب‭ ‬تورطه‭ ‬في‭ ‬زواج‭ ‬فاشل،‭ ‬لا‭ ‬يلبي‭ ‬هويته‭ ‬وشغفه‭ ‬العاطفي،‭ ‬فظل‭ ‬كنسمة‭ ‬هواء‭ ‬تتقاذفها‭ ‬طواحين‭ ‬مزرعة‭. ‬أما‭ ‬طاغور،‭ ‬حكيم‭ ‬الهند،‭ ‬فسعادته‭ ‬أصبحت‭ ‬على‭ ‬المحك‭ ‬بسبب‭ ‬تفرد‭ ‬الموت‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬يحب،‭ ‬خصوصًا‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬رآها‭ ‬مصباحه‭ ‬في‭ ‬كهف‭ ‬الحياة‭ ‬المظلم‭. ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يقتل‭ ‬سعادة‭ ‬الإنسان‭ ‬كالعشق،‭ ‬وأنا‭ ‬أعتبر‭ ‬كل‭ ‬عاشق‭ ‬هو‭ ‬مريض‭ ‬سيكولوجيا،‭ ‬ويحتاج‭ ‬إلى‭ ‬معالجة،‭ ‬وكل‭ ‬العشاق‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬اضطرابات‭ ‬عاطفية،‭ ‬اضطرابًا‭ ‬يكون‭ ‬فرصة‭ ‬ذهبية‭ ‬للاستغلال‭. ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬عليه‭ ‬السّلام‭: ‬مَن‭ ‬عَشِقَ‭ ‬شَيئًا‭ ‬أعشى‭ (‬أعمى‭) ‬بَصَرَهُ،‭ ‬وأمرَضَ‭ ‬قَلبَهُ،‭ ‬فَهُوَ‭ ‬يَنظُرُ‭ ‬بِعَينٍ‭ ‬غَيرِ‭ ‬صَحيحَةٍ،‭ ‬ويَسمَعُ‭ ‬بِأُذُنٍ‭ ‬غَيرِ‭ ‬سَميعَةٍ”‭. ‬قلوبنا‭ ‬مريضة‭ ‬لكثرة‭ ‬ما‭ ‬تعلقت‭ ‬على‭ ‬مشانق‭ ‬المواعيد‭ ‬الكاذبة،‭ ‬وطعنات‭ ‬الخيبات،‭ ‬وتكلس‭ ‬البطاريات‭ ‬المستهلكة‭ ‬في‭ ‬تبديل‭ ‬“روموتكونترول”‭ ‬التلاعب‭ ‬لمشاعرنا‭. ‬ولو‭ ‬غضبنا‭ ‬فلا‭ ‬رادع‭ ‬للمتلاعب؛‭ ‬لأن‭ ‬العاشق‭ ‬عبد‭ ‬ذليل‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬العبودية‭ ‬في‭ ‬ممالك‭ ‬الحب‭. ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬“ثَلاثَةُ‭ ‬أشياءَ‭ ‬لا‭ ‬دَوامَ‭ ‬لَها‭: ‬المالُ‭ ‬في‭ ‬يَدِ‭ ‬المُبَذِّرِ،‭ ‬وسَحابَةُ‭ ‬الصَّيفِ،‭ ‬وغَضَبُ‭ ‬العاشِقِ”‭ ‬وأنشد‭ ‬القاضي‭ ‬أبو‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬أضحى‭ ‬شعرًا‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬العشق‭ ‬المرضي‭:‬

أزف‭ ‬الفراق‭ ‬وفي‭ ‬الفؤاد‭ ‬كلومُ‭... ‬ودنا‭ ‬الترحل‭ ‬والحمام‭ ‬يحومُ

قل‭ ‬للأحبة‭ ‬كيف‭ ‬أنعم‭ ‬بعدكم‭... ‬وأنا‭ ‬المسافر‭ ‬والفؤاد‭ ‬مقيمُ

قالوا‭ ‬الوداع‭ ‬يهيج‭ ‬منك‭ ‬صبابة‭... ‬ويثير‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الهوى‭ ‬مكتوم

قلت‭ ‬اسمحوا‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أفوز‭ ‬بنظرة‭... ‬ودعوا‭ ‬القيامة‭ ‬بعد‭ ‬ذاك‭ ‬تقومُ‭.‬