قهوة الصباح

الظلال المشتهاة (18)

| سيد ضياء الموسوي

وتلك‭ ‬معزوفتي‭ ‬يوم‭ ‬ينكسر‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الأعماق‭ ‬غير‭ ‬الأضلاع‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬الماغوط‭. ‬وكأن‭ ‬الذي‭ ‬يبقيك‭ ‬معي‭ ‬بين‭ ‬المطر‭ ‬هو‭ ‬شيء‭ ‬مثل‭ ‬ذائقة‭ ‬النوم‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬طفل‭ ‬ناعس،‭ ‬مثل‭ ‬قلنسوة‭ ‬طفل‭ ‬يخفي‭ ‬عن‭ ‬أذنيه‭ ‬أصوات‭ ‬الجن‭ ‬والعفريت‭.. ‬لتائه‭ ‬يتحرش‭ ‬بالضوء‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬ظلام‭.‬

شيء‭ ‬مثل‭ ‬ذائقة‭ ‬الخجل‭ ‬في‭ ‬رعشة‭ ‬يد‭ ‬امرأة‭ ‬طاهرة‭..‬

‏شيء‭ ‬مثل‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الغول،‭ ‬وصهيل‭ ‬خيول‭ ‬الحرب‭.. ‬

شيء‭ ‬مثل‭ ‬خيفتي‭ ‬من‭ ‬فقر‭ ‬يسلبني‭ ‬من‭ ‬أرستقراطية‭ ‬الكبرياء‭..‬

كانت‭ ‬تحتبس‭ ‬الدمع،‭ ‬وهي‭ ‬تواجه‭ ‬العاصفة‭. ‬يد‭ ‬تخيط‭ ‬بها‭ ‬الجرح،‭ ‬ويد‭ ‬تتحرش‭ ‬بالأمل‭. ‬تلك‭ ‬قصة‭ ‬رواية‭ ‬“مدام‭ ‬بوفاري”‭ ‬لغوستاف‭ ‬فلوبير،‭ ‬التي‭ ‬قلبت‭ ‬الحياة‭ ‬الفرنسية‭ ‬رأسا‭ ‬على‭ ‬عقب‭. ‬زوج‭ ‬طبيب‭ ‬وطيب‭ ‬القلب‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬أشبه‭ ‬بقطعة‭ ‬ثلج‭ ‬مهربة‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬الآلب،‭ ‬برودا‭..‬‭. ‬زوج‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬آيسكريم‭ ‬مثلج‭ ‬يأكله‭ ‬طفل‭ ‬الزمن،‭ ‬بخلاف‭ ‬زوجته‭ ‬الملتهبة‭ ‬إثارة‭ ‬وعشقا‭ ‬للحياة،‭ ‬المرأة‭ ‬الحسناء‭ ‬الأنيقة‭. ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬تغويه‭ ‬الموسيقى،‭ ‬والأناقة‭ ‬ترهقه،‭ ‬ويكره‭ ‬عالم‭ ‬الديكور،‭ ‬ويرى‭ ‬كل‭ ‬استمتاع‭ ‬بالحياة‭ ‬مضيعة‭ ‬للوقت‭. ‬حشرت‭ ‬الزوجة‭ ‬في‭ ‬الزاوية‭ ‬الضيقة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬بين‭ ‬روتين‭ ‬قاتل،‭ ‬وبين‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬كابوسا،‭ ‬وزنزانة‭ ‬بلا‭ ‬جدران‭. ‬

تلك‭ ‬هي‭ ‬خلاصة‭ ‬الرواية‭ ‬الرائعة‭ ‬للروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬غوستاف‭ ‬فلوبير‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬“مدام‭ ‬بوفاري”‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬رائع‭. ‬قصة‭ ‬زنزانة‭ ‬المنزل،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬عشق‭ ‬خارج‭ ‬المنزل‭. ‬قصة‭ ‬قديمة‭ ‬في‭ ‬الالتفاف‭ ‬على‭ ‬عنوسة‭ ‬الزوجات،‭ ‬والطلاق‭ ‬العاطفي‭ ‬داخل‭ ‬الأسر‭ ‬بسبب‭ ‬وصول‭ ‬المشتركات‭ ‬إلى‭ ‬الصفر،‭ ‬وغياب‭ ‬معطف‭ ‬دفء‭ ‬الحب‭ ‬بين‭ ‬الأزواج،‭ ‬وتعملق‭ ‬وحش‭ ‬اسمه‭ ‬الروتين،‭ ‬لهذا‭ ‬يتحول‭ ‬أحد‭ ‬الأطراف‭ ‬إلى‭ ‬صياد‭ ‬خارج‭ ‬المنزل‭ ‬بقناصة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬سمكة‭ ‬مناسبة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬“قد‭ ‬تكسب‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬شخصا‭ ‬يعادل‭ ‬ما‭ ‬خسرته‭ ‬في‭ ‬حياتك‭ ‬كلها،‭ ‬فالشخص‭ ‬المهم‭ ‬في‭ ‬حياتك‭ ‬ليس‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬تشعر‭ ‬بوجوده،‭ ‬ولكنه‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬تشعر‭ ‬بغيابه‭. ‬

أتذكر‭ ‬أني‭ ‬رتلت‭ ‬عزف‭ ‬البكاء‭ ‬على‭ ‬ضريح‭ ‬الحب‭ ‬قائلا‭ ‬“حاولت‭ ‬عبثا‭ ‬أن‭ ‬أتقلد‭ ‬الجزار‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬حاملا‭ ‬فأسي‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬لحم‭ ‬بشري،‭ ‬أزرع‭ ‬فيه‭ ‬طعنات‭ ‬خيباتي‭ ‬القديمة،‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أقطّع‭ ‬ذاتي‭ ‬لأهبها‭ ‬لمن‭ ‬قادني‭ ‬للجوع‭ ‬دهرا‭. ‬أنا‭ ‬الحبيب،‭ ‬وإن‭ ‬رآني‭ ‬المحب‭ ‬جزارا،‭ ‬يعجبني‭ ‬المفكر‭ ‬المغربي‭ ‬سعيد‭ ‬ناشيد‭ ‬في‭ ‬بعده‭ ‬الفلسفي‭ ‬للدين‭. ‬قال‭ ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬الدين،‭ ‬استبدلها‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬أيضا‭ ‬“الحب‭ ‬دواء‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد”‭.‬

لذلك،‭ ‬يجب‭ ‬تفادي‭ ‬الجرعة‭ ‬الزائدة،‭ ‬وعدم‭ ‬تركه‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬الأطفال‭. ‬ويجب‭ ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬استعماله‭ - ‬ولو‭ ‬مؤقتا‭ - ‬حين‭ ‬تظهر‭ ‬بعض‭ ‬الأعراض‭ ‬الجانبية‭. ‬ما‭ ‬ضر‭ ‬فان‭ ‬جوخ‭ ‬لو‭ ‬تمتع‭ ‬بكوكتيل‭ ‬الحياة؟‭ ‬لو‭ ‬تفادى‭ ‬الجرعة‭ ‬الزائدة‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬لكان‭ ‬تمتع‭ ‬بأنهار‭ ‬هولندا‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬بطيء‭ ‬في‭ ‬جنون‭ ‬صارخ‭ ‬في‭ ‬مصحة‭ ‬نفسية‭. ‬

وما‭ ‬ضر‭ ‬الموسيقار‭ ‬الروسي‭ ‬تشايكوفيسكي‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬معتدلا‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬واستبدل‭ ‬الانتحار‭ ‬بالتمتع‭ ‬بجمال‭ ‬طبيعة‭ ‬روسيا؟‭ ‬أليس‭ ‬الموسيقى‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬خناجر‭ ‬الحب؟‭ ‬وكيف‭ ‬فات‭ ‬النحات‭ ‬العالمي‭ ‬مايكل‭ ‬انجلو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفن‭ ‬وهو‭ ‬يرصع‭ ‬الكنيسة‭ ‬بأجمل‭ ‬نحت‭ ‬لديه،‭ ‬طريق‭ ‬الخلاص،‭ ‬أليس‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقوده‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬الضياع؟

كيف‭ ‬أضاع‭ ‬العظماء‭ ‬نِعم‭ ‬الحياة‭ ‬أمام‭ ‬طعنات‭ ‬غدرها،‭ ‬وهم‭ ‬العظماء؟‭ ‬نحن‭ ‬الساقطين‭ ‬ضحايا‭ ‬أمام‭ ‬تمثال‭ ‬العشق،‭ ‬علاجنا‭ ‬كما‭ ‬عند‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬هو‭ ‬الاكتفاء‭ ‬والتشبع‭ ‬الذاتي،‭ ‬والامتلاء‭ ‬بالذات‭. ‬عندما‭ ‬تحب‭ ‬ذاتك‭ ‬لن‭ ‬تعبأ‭ ‬بالخسارات‭ ‬الدنيوية‭ ‬بشرا‭ ‬أو‭ ‬مالا‭ ‬أو‭ ‬منصبا‭.‬

يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬باولو‭ ‬كويلو‭: ‬إياك‭ ‬ومُطاردة‭ ‬الحُب،‭ ‬فهو‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يُعط‭ ‬بحُرية،‭ ‬فلا‭ ‬قيمة‭ ‬لهُ،‭ ‬المشاعر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بإملاء‭ ‬ولو‭ ‬هددت‭ ‬المحب‭ ‬بمسدس‭ ‬كاتم‭ ‬للصوت‭. ‬كل‭ ‬شي‭ ‬يشترى‭ ‬إلا‭ ‬صدق‭ ‬الإحساس‭. ‬وأول‭ ‬الكوارث‭ ‬عندما‭ ‬تعطي‭ ‬البشر‭ ‬“ريموت‭ ‬كونترول”‭ ‬سعادتك‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬“أنت‭ ‬النعيم‭ ‬لقلبي،‭ ‬والعذاب‭ ‬له،‭ ‬فما‭ ‬أمرّك‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬وأحلاك،‭ ‬أنت‭ ‬بذلك‭ ‬ترفع‭ ‬سعادتك‭ ‬على‭ ‬منصة‭ ‬الإعدام‭. ‬هو‭ ‬مآلنا‭ ‬في‭ ‬المسلخ‭: ‬وقلت‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬تخفي‭ ‬الخنجر‭ ‬خلف‭ ‬فستانها‭: ‬اختصر‭ ‬عليك‭ ‬المسافة‭ ‬والوقت‭: ‬فلا‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬القلب،‭ ‬والجسد‭ ‬لطعنة‭ ‬أخرى‭. ‬احجزي‭ ‬لك‭ ‬مكانا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الجسد،‭ ‬ربما‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬مكان‭ ‬تبقى،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬أيضا‭. ‬فإذا‭ ‬تفرغ‭ ‬الحبيب‭ ‬من‭ ‬الطعن‭ ‬التفت‭ ‬للظل‭. ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬حتى‭ ‬ظلال‭ ‬الضحية‭ ‬تكون‭ ‬مشتهاة‭ ‬لزرع‭ ‬الجراح‭.‬