عمود أكاديمي

ما‭ ‬بعد‭ ‬الإسلاموية‭ ‬وجماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬العربية

| د. باقر النجار

على‭ ‬مدى‭ ‬عقدين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬ماضية‭ ‬برزت‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المعنيين‭ ‬بدراسة‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلاموية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬والعالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬اتجاه‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلاموية‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬وصولهم‭ ‬للسلطة‭. ‬

ولقد‭ ‬ذهب‭ ‬الباحثان‭ ‬الفرنسيان‭ ‬أوليفييه‭ ‬كاريه‭ ‬وأوليفييه‭ ‬روا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إخفاقات‭ ‬جماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬حلول‭ ‬للمشكلات‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الذي‭ ‬يعملون‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬قد‭ ‬دفعهما‭ ‬للقول‭ ‬إن‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلاموية‭ ‬حتى‭ ‬تتجاوز‭ ‬مقولاتها‭ ‬التقليدية‭ ‬فإنها‭ ‬بحاجة‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬سبل‭ ‬لفصل‭ ‬الديني‭ ‬عن‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬والممارسة،‭ ‬وإن‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬ضرورة‭ ‬لانتقالها‭ ‬لأنماط‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬والعمل‭ ‬السياسي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬منطقيات‭ ‬العلم‭ ‬ومفاهيم‭ ‬العصر‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬والتعددية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والمواطنة،‭ ‬وهو‭ ‬المدخل‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬إيراني‭ ‬الأصل‭ ‬آصف‭ ‬بيات‭ ‬مقاربته‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬الموسوم‭ ‬“بما‭ ‬بعد‭ ‬الإسلاموية”‭. ‬

وهي‭ ‬مقاربة‭ ‬قد‭ ‬أخفقت‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬مساواة‭ ‬قدرة‭ ‬جل‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬وفي‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬سلطت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬التنظيمات‭ ‬لأسبابها‭ ‬الذاتية‭ ‬وأخرى‭ ‬متعلقة‭ ‬بالسياق‭ ‬الذي‭ ‬تعمل‭ ‬فيه‭ ‬هذه‭ ‬التنظيمات‭ ‬قد‭ ‬أحدثت‭ ‬بالفعل‭ ‬قدرا‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬فصل‭ ‬الديني‭ ‬عن‭ ‬السياسي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬فصل‭ ‬لم‭ ‬يقارب‭ ‬بعد‭ ‬كثيرا‭ ‬حالة‭ ‬الأحزاب‭ ‬المسيحية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أو‭ ‬المسيحية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وبعض‭ ‬دول‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭.‬

وإذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الإسلاموية‭ ‬تعني‭ ‬تعبئة‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬السياسي‭ ‬الساعي‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الإيراني‭ ‬ومشاريع‭ ‬الجماعات‭ ‬السلفية‭ ‬كما‭ ‬عند‭ ‬طالبان‭ ‬وفصائل‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭ ‬ومناطق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭. ‬وكما‭ ‬هي‭ ‬مطروحة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أدبيات‭ ‬جماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭. ‬

إنها‭ ‬دولة‭ ‬تحكم‭ ‬بالشريعة‭ ‬وتفرض‭ ‬قوانينها‭ ‬العقائدية‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬جلها‭ ‬على‭ ‬تفسيرها‭ ‬أو‭ ‬تفسير‭ ‬مرجعياتها‭ ‬للدين‭. ‬ويقدم‭ ‬نموذج‭ ‬“الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭ (‬داعش‭) ‬الحالة‭ ‬الأكثر‭ ‬تطرفا‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬إدارتها‭ ‬ونسق‭ ‬حكمها‭ ‬مقولات‭ ‬ورؤى‭ ‬قيل‭ ‬جلها‭ ‬ولربما‭ ‬كلها‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬500‭ ‬عام‭ ‬ولربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بقليل‭ ‬أو‭ ‬كثير‭. ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬مقولات‭ ‬قد‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬جلها‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬والثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والثورة‭ ‬الرقمية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭. ‬

بالمقابل‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الإسلاموية‭ ‬قد‭ ‬تعني‭ ‬محاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬أطر‭ ‬ومفاهيم‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الفكرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬ولربما‭ ‬الدينية‭ ‬متجاوزة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحالة‭ ‬الإسلاموية‭ ‬الأولى‭. ‬فهي‭ ‬بهذا‭ ‬ليست‭ ‬علمانية‭ ‬أو‭ ‬ليبرالية‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬إطار‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يدمج‭ ‬جل‭ ‬المفاهيم‭ ‬الحديثة‭ ‬بقضايا‭ ‬الدين‭ ‬والإيمان‭. ‬فقبول‭ ‬بعضهم‭ ‬مثلا‭ ‬بالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬هو‭ ‬قبول‭ ‬مشروط‭ ‬بإيمانها‭. ‬وهي‭ ‬دولة‭ ‬قد‭ ‬يخف‭ ‬فيها‭ ‬دور‭ ‬الدين‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يتلاشى،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الديني‭ ‬والسياسي‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬بالفصل‭ ‬القاطع‭. ‬إنها‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬بيات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الدين‭ ‬مرتبطا‭ ‬بمؤسساته‭ ‬كما‭ ‬الحالة‭ ‬الإسلاموية،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تمثل‭ ‬ببعض‭ ‬الأسس‭ ‬العلمانية‭ ‬أو‭ ‬الليبرالية‭ ‬كالتحرر‭ ‬من‭ ‬التزمت‭ ‬والقطيعة‭ ‬مع‭ ‬احتكار‭ ‬الحقيقة‭ ‬الدينية‭ ‬والحريات‭ ‬الدينية‭ ‬وحضور‭ ‬للدين‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬العام‭ ‬وأهمية‭ ‬قضايا‭ ‬الحقوق‭ ‬والدولة‭ ‬المدنية،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬محاولة‭ ‬لتأكيد‭ ‬الحقوق‭ ‬مقابل‭ ‬الواجبات‭ ‬والتعددية‭ ‬مقابل‭ ‬التسلطية‭ ‬والتاريخية‭ ‬مقابل‭ ‬النصوص‭ ‬الثابتة‭ ‬والمستقبل‭ ‬مقابل‭ ‬الماضي‭ (‬انظر‭ ‬https‭:/‬‏‭/‬‏middle-east-online.com،‭ ‬وأصف‭ ‬بيات،‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاسلاموية،‭ ‬دار‭ ‬جدال،‭ ‬بيروت،‭ ‬2016،‭ ‬وباقر‭ ‬النجار،‭ ‬الحركات‭ ‬الدبنبة‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي،‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية،‭ ‬دار‭ ‬الساقي،‭ ‬بيروت،‭ ‬2019‭). ‬

إنها‭ ‬حالة‭ ‬قد‭ ‬دخلتها‭ ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬الإسلاموية‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬وتحديا‭ ‬حزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية‭ ‬الحاكم‭ ‬وبدرجة‭ ‬أدنى‭ ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬المغاربية‭ ‬كحزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية‭ ‬المغربي‭ ‬وحزب‭ ‬النهضة‭ ‬التونسي‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬خطواته‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬إيقاع‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬الإسلاموية‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬خطوات‭ ‬أحزاب‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬المشارقية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭ ‬والخليج‭ ‬العربي‭ ‬تبقى‭ ‬محدودة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خجولة،‭ ‬إذ‭ ‬يبقى‭ ‬الدين‭ ‬متحكما‭ ‬في‭ ‬المقولات‭ ‬والرؤى‭ ‬والمواقف‭ ‬التي‭ ‬يطرحونها،‭ ‬بل‭ ‬ويتصدر‭ ‬قيادة‭ ‬بعضها‭ ‬رجال‭ ‬دين‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬رمزية‭ ‬قوية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬قدرة‭ ‬التنظيم‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ (‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭)‬،‭ ‬ولكونه‭ ‬التنظيم‭ ‬الإسلاموي‭ ‬الأكبر‭ ‬والأقوى‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬هذه‭ ‬التحول‭ ‬أو‭ ‬مقاربته‭ ‬سيدفع‭ ‬جل‭ ‬التنظيمات‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬ذلك،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أيا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬كثيرا،‭ ‬بل‭ ‬إنا‭ ‬بتنا‭ ‬نلحظ‭ ‬تراجعا‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭ ‬من‭ ‬مسألة‭ ‬فصل‭ ‬الديني‭ ‬عن‭ ‬السياسي‭ ‬لأسباب‭ ‬موضوعية‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬التنظيم‭ ‬أو‭ ‬لأسباب‭ ‬متعلقة‭ ‬بالسياق‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬التنظيم‭ ‬أو‭ ‬القائمين‭ ‬عليه‭..‬

هذه‭ ‬القضايا‭ ‬وغيرها‭ ‬ستكون‭ ‬محور‭ ‬النقاش‭ ‬والتساؤل‭ ‬في‭ ‬كتابنا‭ ‬الجديد‭ - ‬القديم‭ ‬“الحركات‭ ‬الدينية‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي”،‭ ‬والذي‭ ‬سيصدر‭ ‬قريبا‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الساقي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭.‬