ماذا يقولون في شرق وجنوب شرق آسيا؟

| عبدالنبي الشعلة

أنا‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬بانكوك،‭ ‬وسأبقى‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬الوقت،‭ ‬ومن‭ ‬بانكوك،‭ ‬عاصمة‭ ‬تايلند،‭ ‬ومقر‭ ‬أكبر‭ ‬سفارة‭ ‬أميركية‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يجس‭ ‬النبض‭ ‬بشكل‭ ‬أفضل‭ ‬ويرى‭ ‬بشكل‭ ‬أوضح‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬مواقف‭ ‬وتصرفات‭ ‬وسياسات‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬خصوصًا‭ ‬جولاته‭ ‬وصولاته‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬شنها‭ ‬ضد‭ ‬الصين‭.‬

وكما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬فإن‭ ‬أمن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬صار،‭ ‬وفق‭ ‬الرؤية‭ ‬السائدة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬واشنطن،‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الاستحقاقات،‭ ‬منها‭ ‬تغيير‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬آسيا‭ ‬والمحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬ولذلك‭ ‬أصبحت‭ ‬تايلند‭ ‬نظرا‭ ‬لدورها‭ ‬وموقعها‭ ‬الجغرافي‭ ‬الإستراتيجي‭ ‬تحظى‭ ‬بأهمية‭ ‬متزايدة‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬سياسات‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وبالنتيجة‭ ‬فإنَّ‭ ‬مواقع‭ ‬المتابعة‭ ‬والرصد‭ ‬لتطورات‭ ‬وتداعيات‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬وما‭ ‬يجري‭ ‬لكل‭ ‬الأطراف‭ ‬المعنية‭ ‬بها‭ ‬صارت‭ ‬متركزة‭ ‬في‭ ‬بانكوك،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنَّ‭ ‬تايلند‭ ‬هي‭ ‬أقدم‭ ‬حلفاء‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأقدم‭ ‬دولة‭ ‬آسيوية‭ ‬تربطها‭ ‬معاهدة‭ ‬تحالف‭ ‬معها،‭ ‬وتعود‭ ‬الصداقة‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتايلند‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1833‭. ‬تلك‭ ‬الصداقة‭ ‬تطورت‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الشراكة‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬قواعد‭ ‬عسكرية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬خلال‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬ثم‭ ‬حرب‭ ‬الخليج،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬فترت‭ ‬وتراجعت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬أوباما‭ ‬إثر‭ ‬الانقلاب‭ ‬العسكري‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬تايلند‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2014‭ ‬وأطاح‭ ‬بالحكومة‭ ‬المنتخبة‭ ‬فيها؛‭ ‬وذلك‭ ‬تعاطفًا‭ ‬أو‭ ‬نصرة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬حكومة‭ ‬أوباما‭ ‬لقضايا‭ ‬الحرية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭!‬

إن‭ ‬الرئيس‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2017،‭ ‬ليس‭ ‬معنيًا‭ ‬بقدر‭ ‬ملحوظ‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬القضايا،‭ ‬وهو‭ ‬يدرك‭ ‬الأهمية‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬لموقع‭ ‬تايلند‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬صراعها‭ ‬التجاري‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬وتجاذباتها‭ ‬مع‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬الإدارة‭ ‬الأميركية‭ ‬بمراجعة‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬تايلند‭ ‬وترميم‭ ‬العلاقة‭ ‬معها‭ ‬بشكل‭ ‬سريع؛‭ ‬لتصبح‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬إستراتيجية‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لاحتواء‭ ‬الصين،‭ ‬ولإدارة‭ ‬سياساتها‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬

المراقبون‭ ‬والأطراف‭ ‬المعنية‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬مثل‭ ‬غيرهم،‭ ‬قلقون‭ ‬من‭ ‬توجهات‭ ‬وتقلبات‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬للرئيس‭ ‬ترامب،‭ ‬ويدركون‭ ‬جيدا‭ ‬أنه‭ ‬يسعى‭ ‬جاهدا،‭ ‬منذ‭ ‬توليه‭ ‬السلطة،‭ ‬إلى‭ ‬إثبات‭ ‬مقدرته‭ ‬على‭ ‬الوفاء‭ ‬بالعهود‭ ‬والوعود‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬وأعطاها‭ ‬لناخبيه،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬إنجاز‭ ‬أو‭ ‬اختراق‭ ‬أو‭ ‬نصر،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬نصر‭ ‬إلا‭ ‬بوجود‭ ‬عدو‭ ‬أو‭ ‬منافس‭ ‬تتم‭ ‬مواجهته‭ ‬والتغلب‭ ‬عليه‭.‬

وبعقلية‭ ‬التاجر‭ ‬المساوم‭ ‬والمقامر‭ ‬اختار‭ ‬ترامب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هدف‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬عدو‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬منافس،‭ ‬فاستهدف‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أموال‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون،‭ ‬والمسلمين،‭ ‬والمكسيكيين‭ ‬والمهاجرين‭ ‬عمومًا،‭ ‬والصين،‭ ‬وكوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬و”رجل‭ ‬صواريخها”،‭ ‬وإيران،‭ ‬ودول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬وغيرها‭. ‬

يقولون‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬إن‭ ‬الرئيس‭ ‬ترامب‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬وعود‭ ‬واتفاقات‭ ‬على‭ ‬إبرام‭ ‬صفقات‭ ‬تجارية‭ ‬وتسليحية‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ ‬تبلغ‭ ‬قيمتها‭ ‬المليارات‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬تمتد‭ ‬لسنوات‭ ‬ومقرونة‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬مشروطة‭ ‬بالتزام‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بالوقوف‭ ‬الفوري‭ ‬والحازم‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬المجلس‭ ‬في‭ ‬صراعها‭ ‬مع‭ ‬إيران‭.‬

ويقولون‭ ‬أيضًا‭ ‬إن‭ ‬ترامب‭ ‬نفذ‭ ‬بالفعل‭ ‬تهديده‭ ‬بالانسحاب‭ ‬من‭ ‬الاتفاق‭ ‬النووي‭ ‬مع‭ ‬إيران،‭ ‬وكثف‭ ‬إجراءات‭ ‬المقاطعة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬خنق‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الإيراني،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬إقناع‭ ‬أو‭ ‬إجبار‭ ‬إيران‭ ‬على‭ ‬الجلوس‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬المفاوضات‭ ‬لإعادة‭ ‬التفاوض‭ ‬حول‭ ‬بنود‭ ‬الاتفاق‭. ‬ويميل‭ ‬المراقبون‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬تهوين‭ ‬التهديدات‭ ‬الأميركية‭ ‬باستعمال‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬ضد‭ ‬إيران،‭ ‬ويرون‭ ‬أن‭ ‬ترامب‭ ‬لم‭ ‬ولا‭ ‬ينوي‭ ‬المبادرة‭ ‬والشروع‭ ‬بشن‭ ‬حرب‭ ‬ضدها،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬المجازفة‭ ‬بالدخول‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬حرب‭ ‬غير‭ ‬مضمونة‭ ‬النتائج‭ ‬أو‭ ‬تكون‭ ‬شبيهة‭ ‬بتجربة‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬حربها‭ ‬التي‭ ‬خاضتها‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق،‭ ‬ولا‭ ‬شنَّ‭ ‬أي‭ ‬حرب‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬الأعباء‭ ‬والالتزامات‭ ‬المالية‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أن‭ ‬شن‭ ‬الحرب‭ ‬سيتناقض‭ ‬مع‭ ‬وعوده‭ ‬لناخبيه‭ ‬بإعادة‭ ‬الجنود‭ ‬الأميركيين‭ ‬إلى‭ ‬وطنهم‭ ‬وخفض‭ ‬التورط‭ ‬العسكري‭ ‬الأميركي‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط؛‭ ‬لذا‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬ترامب‭ ‬سيكتفي‭ ‬بالسلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬يؤتي‭ ‬أكله،‭ ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬التصعيد‭ ‬ومن‭ ‬الحشود‭ ‬العسكرية‭ ‬والتهديدات‭ ‬الأميركية‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬ترامب‭ ‬ضد‭ ‬إيران‭ ‬كان‭ ‬لتأكيد‭ ‬الجدية‭.‬

ولتأكيد‭ ‬الاستعداد‭ ‬للردع‭ ‬والرد‭ ‬ولمواجهة‭ ‬أي‭ ‬حماقة‭ ‬قد‭ ‬ترتكبها‭ ‬إيران‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬العقوبات‭ ‬بالتعرض‭ ‬للمصالح‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬أو‭ ‬محاولة‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬الملاحة‭ ‬في‭ ‬مضيق‭ ‬هرمز‭. ‬وقد‭ ‬نجحت‭ ‬هذه‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬في‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬إيران‭ ‬التي‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬تهديدها‭ ‬بإغلاق‭ ‬مضيق‭ ‬هرمز‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تم‭ ‬تصفير‭ ‬إمكانات‭ ‬إيران‭ ‬لتصدير‭ ‬نفطها‭. ‬

وبهذا‭ ‬الصدد،‭ ‬يقولون‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬إن‭ ‬الرئيس‭ ‬ترامب،‭ ‬الذي‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يحتل‭ ‬العناوين‭ ‬الرئيسة،‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬يعتقد‭ ‬بأن‭ ‬لديه‭ ‬حدسًا‭ ‬لا‭ ‬يُخطئ‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬ودهاليزها،‭ ‬وبأنه‭ ‬مقتنع‭ ‬بموهبته‭ ‬الفذة‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬مفاوضات‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬القادة‭ ‬الدوليين،‭ ‬فإنه‭ ‬يتطلع‭ ‬الآن‭ ‬وبتلهف‭ ‬إلى‭ ‬الاجتماع‭ ‬بالرئيس‭ ‬الإيراني‭ ‬حسن‭ ‬روحاني‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬شبيها‭ ‬بلقائه‭ ‬برئيس‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬كيم‭ ‬جونغ‭ ‬أون،‭ ‬ذلك‭ ‬الاجتماع‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬العزلة‭ ‬الدولية‭ ‬لكوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأكسب‭ ‬زعيمها‭ ‬شرعية‭ ‬ومكانة‭ ‬دولية،‭ ‬ونقله‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬منبوذ‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬دولة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬ترامب‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬تقريبا‭ ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬تعهد‭ ‬للزعيم‭ ‬الكوري‭ ‬بوقف‭ ‬المناورات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المزمع‭ ‬إجراؤها‭ ‬مع‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭.‬

ويقولون‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬ترامب‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬ويستوعب‭ ‬أن‭ ‬هيمنة‭ ‬أوروبا‭ ‬وشمال‭ ‬الأطلسي‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬لأربعة‭ ‬قرون‭ ‬قد‭ ‬انتهت،‭ ‬فالواقع‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬خارطة‭ ‬القوة‭ ‬الجديدة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬تحول‭ ‬مركز‭ ‬الثِّقَل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الأطلسي‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬آسيا‭ ‬والمحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬وهو‭ ‬واقع‭ ‬لا‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬خارطة‭ ‬الطريق‭ ‬التي‭ ‬يحاول‭ ‬ترامب‭ ‬رسمها‭ ‬للعالم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭.‬

في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬لا‭ ‬ينكرون‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬هي‭ ‬القوة‭ ‬العظمى‭ ‬الرائدة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬يقدرون‭ ‬ويدركون‭ ‬معنى‭ ‬صعود‭ ‬الصين‭ ‬وانطلاقها‭ ‬بكثافة‭ ‬بشرية‭ ‬تبلغ‭ ‬1‭.‬4‭ ‬مليار‭ ‬نسمة‭ ‬كقوة‭ ‬آسيوية‭ ‬جيوسياسية‭ ‬متجددة‭ ‬بجذور‭ ‬مترسخة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬تربة‭ ‬التاريخ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬للوجود‭ ‬بقرون‭ ‬عديدة،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنهم‭ ‬قلقون‭ ‬ومتوجسون‭ ‬من‭ ‬تصاعد‭ ‬الضغوط‭ ‬الأميركية‭ ‬ضد‭ ‬الصين‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬صامدة‭ ‬وتتجه‭ ‬نحو‭ ‬المواجهة‭ ‬والتحدي،‭ ‬ويدركون‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬اتخذها‭ ‬ترامب‭ ‬ستؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الإضرار‭ ‬بالصين‭ ‬وعرقلة‭ ‬نموها،‭ ‬وستكون‭ ‬لها‭ ‬تداعيات‭ ‬سلبية‭ ‬خطيرة‭ ‬على‭ ‬اقتصادات‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬بأسرها،‭ ‬لكنهم‭ ‬أمام‭ ‬تصلب‭ ‬الإدارة‭ ‬الأميركية‭ ‬الحالية‭ ‬أصبحوا‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬العبرة‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬سيدفع‭ ‬حكومات‭ ‬وشعوب‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬إلى‭ ‬التعاون‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬والترفع‭ ‬عن‭ ‬خلافاتهم‭ ‬وتجاوزها،‭ ‬وأن‭ ‬سياسة‭ ‬ترامب‭ ‬ستؤدي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬الصين‭ ‬“عظيمة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى”،‭ ‬وليس‭ ‬استعادة‭ ‬“عظمة‭ ‬أميركا”‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬ترامب‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها،‭ ‬ويؤكدون‭ ‬أن‭ ‬حرب‭ ‬أميركا‭ ‬التجارية‭ ‬ستكون‭ ‬لها‭ ‬نتائج‭ ‬عكسية‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وأن‭ ‬الضغوط‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬ترامب‭ ‬والتعريفات‭ ‬التي‭ ‬يفرضها‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬شرقًا‭ ‬وغربًا‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أقرب‭ ‬حلفائه‭ ‬سوف‭ ‬يدفعهم‭ ‬عمليًا‭ ‬تجاه‭ ‬الصين،‭ ‬فالمصدّرون‭ ‬الأوروبيون‭ ‬واليابانيون‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬سيتوجهون‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬الصينية‭ ‬إذا‭ ‬واجهوا‭ ‬حواجز‭ ‬الحماية‭ ‬التجارية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التصدع‭ ‬الذي‭ ‬أحدثته‭ ‬سياسات‭ ‬ترامب‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الأميركية‭ ‬الأوروبية‭ ‬سيصب،‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬في‭ ‬صالح‭ ‬الصين‭ ‬ويؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تقوية‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بـ‭ ‬“التمحور‭ ‬باتجاه‭ ‬آسيا”‭.‬

وعندما‭ ‬انسحب‭ ‬ترامب‭ ‬من‭ ‬“اتفاقية‭ ‬الشراكة‭ ‬عبر‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ”‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬أوباما‭ ‬بأنها‭ ‬“جديدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬تستهدف‭ ‬تحسين‭ ‬معايير‭ ‬العمل‭ ‬وفتح‭ ‬الأسواق‭ ‬أمام‭ ‬السلع‭ ‬الأميركية‭ ‬ومواجهة‭ ‬سيطرة‭ ‬الصين‭ ‬على‭ ‬المنطقة”،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬الانسحاب‭ ‬أحدث‭ ‬أيضا‭ ‬تصدعا‭ ‬عميقا‭ ‬للسد‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬سيقف‭ ‬بقيادة‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الصين‭ ‬واحتواء‭ ‬ثقلها‭ ‬المتزايد،‭ ‬مما‭ ‬اضطر‭ ‬اليابان‭ ‬إلى‭ ‬الإقرار‭ ‬بقوة‭ ‬الصين‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المتنامية‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬استيعابها،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬دعوة‭ ‬الاقتصادات‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وهي‭ ‬الصين‭ ‬واليابان‭ ‬وكوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬لتشكيل‭ ‬كتلة‭ ‬اقتصادية‭ ‬واحدة‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬السلام‭ ‬والرخاء‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬والتعاون؛‭ ‬لمواجهة‭ ‬السياسات‭ ‬والضغوط‭ ‬الأميركية‭.‬

ولذلك،‭ ‬فإنهم‭ ‬يقولون‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭: ‬“رب‭ ‬ضارة‭ ‬نافعة”‭.‬