ذرائع

إخراج التاريخ منّا!

| غسان الشهابي

باتت‭ ‬عملية‭ ‬نقد‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وإعادة‭ ‬تفكيكه‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬الشائعة‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بأسره،‭ ‬وفي‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬أيضاً،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المتخصصين‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مطلعين،‭ ‬حيث‭ ‬تجري‭ ‬إعادة‭ ‬تركيب‭ ‬الأحداث‭ ‬وترتيبها،‭ ‬وكذلك‭ ‬إعادة‭ ‬تسميتها‭ ‬للخروج‭ ‬بنتائج‭ ‬مغايرة‭ ‬عمّا‭ ‬اتفق‭ ‬عليه‭ ‬الناس،‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يجدوا‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬مناقضة‭ ‬للتي‭ ‬درجوا‭ ‬عليها‭ ‬عقوداً‭ ‬طويلة،‭ ‬بل‭ ‬وربما‭ ‬قروناً‭ ‬أيضاً‭.‬

ليس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬أي‭ ‬بأس‭ ‬أو‭ ‬حرج،‭ ‬لأنه‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬شخصية‭ ‬–‭ ‬لا‭ ‬مقدّس‭ ‬إلا‭ ‬المقدّس،‭ ‬وما‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬الأمور‭ ‬الأخرى‭ - ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الوقائع‭ ‬والحوادث‭ ‬والحروب‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬اعتقدناه‭ ‬ثوابت‭ ‬تاريخية‭ - ‬مطروحة‭ ‬للنقاش،‭ ‬والبحث،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بحثاً‭ ‬علمياً‭ ‬وليس‭ ‬آيديولوجيا،‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الاحتمالات‭ ‬وليس‭ ‬مقصوراً‭ ‬على‭ ‬هدف‭ ‬واحد‭ ‬ونتيجة‭ ‬تم‭ ‬تحديدها‭ ‬مسبقاً‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬البحث‭ ‬حتى‭.‬

لكنني‭ ‬أتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬النقاط‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أهمّها‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬ظهروا‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬حادثة‭/‬‏شخصية‭ ‬تاريخية‭ ‬ويعطيها‭ ‬تفسيراً‭ ‬يعزز‭ ‬منها،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬ما‭ ‬نسمعه‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬معاول‭ ‬هدم‭ ‬وتشويه‭ ‬وشطب‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النقاط‭ ‬التاريخية،‭ ‬حتى‭ ‬ليظن‭ ‬الفرد‭ ‬أنه‭ ‬عاش‭ ‬خدعة‭ ‬كبيرة‭ ‬طيلة‭ ‬سنيّ‭ ‬عمره‭.‬

وأكثر‭ ‬السيناريوهات‭ ‬المطروحة‭ ‬اليوم‭ ‬لدى‭ ‬النابشين‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬هو‭ ‬إعادة‭ ‬تصميم‭ ‬المشاهد‭ ‬السابقة،‭ ‬وإسباغ‭ ‬مسميات‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬الأمس،‭ ‬منتزعين‭ ‬الحوادث‭ ‬عن‭ ‬سياقاتها‭ ‬التاريخية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالثقافة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسود‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬ومحاولة‭ ‬إلباسها‭ ‬قيم‭ ‬اليوم‭ ‬وثقافته،‭ ‬لتجري‭ ‬تسمية‭ ‬الجهاد‭ ‬غزوا،‭ ‬والحدود‭ ‬وحشية،‭ ‬ونقل‭ ‬التصرفات‭ ‬المقبولة‭ ‬قبل‭ ‬مئات‭ ‬السنين‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬اليوم،‭ ‬وإعادة‭ ‬تسميتها‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُقبل‭.‬

وعليه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يشك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حدّ،‭ ‬وستبقى‭ ‬مرحلة‭ ‬الشك‭ ‬هذه‭ ‬مفتوحة‭ ‬حتى‭ ‬يتأكد،‭ ‬ولأن‭ ‬الإنسان‭ ‬مشغول‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬الحياتية،‭ ‬فإنه‭ ‬سيجعل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬آمن‭ ‬به‭ ‬واستقر‭ ‬عنده،‭ ‬وشكل‭ ‬لديه‭ ‬مرجعية‭ ‬روحانية،‭ ‬أو‭ ‬قيمية،‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬ثقافية،‭ ‬على‭ ‬رفّ‭ ‬الشك،‭ ‬هو‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يرفضه‭ ‬تماماً،‭ ‬سيكون‭ ‬غير‭ ‬منتم‭ ‬إليه،‭ ‬وغير‭ ‬معني‭ ‬به،‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬بالنقاء‭ ‬والطهر‭ ‬الذي‭ ‬تصوّره،‭ ‬أو‭ ‬الذي‭ ‬كبر‭ ‬معه‭ ‬وفيه‭ ‬وبه‭... ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬حياته‭ ‬بهوية‭ ‬ضبابية‭ ‬وثقافة‭ ‬لا‭ ‬جذور‭ ‬لها‭.‬