ياسمينيات

آباء في المحاكم!

| ياسمين خلف

آخر‭ ‬ما‭ ‬يتوقعه‭ ‬الآباء،‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أفنوا‭ ‬جّل‭ ‬سنوات‭ ‬أعمارهم‭ ‬في‭ ‬تربيتهم،‭ ‬وكسوتهم،‭ ‬ورعايتهم،‭ ‬وتدريسهم،‭ ‬والسهر‭ ‬عليهم‭ ‬وعيادتهم‭ ‬في‭ ‬مرضهم‭ ‬ولنقلها‭ ‬باختصار،‭ ‬من‭ ‬تولوا‭ ‬جميع‭ ‬شؤون‭ ‬حياتهم‭ ‬منذ‭ ‬صرختهم‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬حتى‭ ‬اشتدت‭ ‬سواعدهم،‭ ‬أن‭ ‬يقفوا‭ ‬أمامهم‭ ‬في‭ ‬المحاكم‭! ‬يطالبونهم‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬لهم‭ ‬به‭ ‬حق،‭ ‬يطالبونهم‭ ‬بكدهم،‭ ‬وسعيهم‭ ‬و”شقاهم”‭ ‬وكأنهم‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬تساقط‭ ‬عرق‭ ‬جبينهم،‭ ‬مواصلين‭ ‬نهارهم‭ ‬بليلهم‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬لا‭ ‬ذاك‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬اللذين‭ ‬لم‭ ‬يجدا‭ ‬النوم‭ ‬ولا‭ ‬الراحة‭ ‬وهما‭ ‬يفكران‭ ‬كيف‭ ‬سيطعمانهم،‭ ‬وكيف‭ ‬سيوفران‭ ‬لهم‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬التي‭ ‬تُغنيهم‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يدفعهم‭ ‬للتعب‭.‬

آباء،‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬أرذل‭ ‬العمر‭ ‬يُساقون‭ ‬بكراسيهم‭ ‬المتحركة‭ ‬في‭ ‬ردهات‭ ‬وأروقة‭ ‬المحاكم،‭ ‬وخصمهم‭ ‬فلذات‭ ‬أكبادهم‭! ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يقذفهم‭ ‬بالعته‭ ‬والجنون،‭ ‬وآخرون‭ ‬يدّعون‭ ‬أنهم‭ ‬شاخوا‭ ‬فخرفوا،‭ ‬فباتوا‭ ‬غير‭ ‬أهل‭ ‬للتصرف‭ ‬بأموالهم،‭ ‬مطالبين‭ ‬بالحجر‭ ‬عليهم‭ ‬ومنعهم‭ ‬من‭ ‬التصرف‭ ‬بما‭ ‬يملكون،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬آخر‭ ‬دينار‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬جيوبهم،‭ ‬مُخلفين‭ ‬حسرات‭ ‬وزفرات‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬آبائهم‭.  ‬

أي‭ ‬عقوق‭ ‬هذا،‭ ‬وأي‭ ‬قلوب‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترق‭ ‬لمن‭ ‬قدموا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يملكون،‭ ‬ولو‭ ‬تمكنوا‭ ‬لقدموا‭ ‬أعمارهم‭ ‬لهم،‭ ‬وكأنهم‭ ‬لعمري‭ ‬يستعجلون‭ ‬موتهم‭ ‬ليرثوهم،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬ملوا‭ ‬انتظار‭ ‬أجلهم‭ ‬فتزاحموا‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬المحاكم‭ ‬لاقتسام‭ ‬ميراث‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الله‭ ‬يرزقهم‭ ‬ويهبهم‭ ‬الحياة‭. ‬

أن‭ ‬تجد‭ ‬شيخاً‭ ‬يبكي‭ ‬حرقة‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬له‭ ‬ظلمه،‭ ‬وأهان‭ ‬كبر‭ ‬سنه‭ ‬بجرجرته‭ ‬في‭ ‬المحاكم،‭ ‬ليس‭ ‬أمرا‭ ‬هينا،‭ ‬بل‭ ‬الأدهى‭ ‬أن‭ ‬تُصدم‭ ‬بأنه‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬جحود‭ ‬ونكران‭ ‬يبكي‭ ‬لا‭ ‬بما‭ ‬حل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مصيبة،‭ ‬بل‭ ‬خوفاً‭ ‬على‭ ‬أبنائه‭ ‬من‭ ‬نار‭ ‬يجدها‭ ‬لن‭ ‬ترحمهم‭ ‬في‭ ‬آخرتهم‭. ‬

أقولها‭ ‬صراحة‭ ‬لكل‭ ‬الأبناء،‭ ‬ليس‭ ‬لكم‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬فلس‭ ‬أو‭ ‬دينار‭ ‬جاء‭ ‬بعرق‭ ‬وتعب‭ ‬آبائكم،‭ ‬إن‭ ‬أغدقوا‭ ‬عليكم‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أنفسهم،‭ ‬وبرضاهم،‭ ‬فحلال‭ ‬عليكم،‭ ‬وتمتعوا‭ ‬بما‭ ‬حباكم‭ ‬الله‭ ‬ووالديكم‭ ‬به،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬حقكم‭ ‬أن‭ ‬تنتزعوا‭ ‬هذه‭ ‬الأموال‭ ‬من‭ ‬آبائكم‭ ‬انتزاعاً،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬أموالكم‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬حقكم‭ ‬أن‭ ‬تحددوا‭ ‬سُبل‭ ‬صرفها،‭ ‬فذاك‭ ‬تعبهم،‭ ‬ورزقهم‭ ‬الذي‭ ‬سعوا‭ ‬لأجله‭ ‬فأكرمهم‭ ‬الله‭ ‬به‭.‬

 

ياسمينة‭: ‬

هي‭ ‬سنوات‭ ‬معدودات،‭ ‬وسيفعل‭ ‬بكم‭ ‬أبناؤكم‭ ‬ما‭ ‬فعلتموه‭ ‬بآبائكم‭.‬