قهوة الصباح

فن إدارة الجرح (15)

| سيد ضياء الموسوي

ما‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬إلا‭ ‬أنت‭ ‬واليوم‭ ‬أقول‭: (‬لك‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬إلا‭ ‬أنا‭) ‬خذه‭ ‬شعارًا‭ ‬ترفعه‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬تاجروا‭ ‬بقلبك،‭ ‬وتوزعوا‭ ‬إرث‭ ‬ذكرياتك،‭ ‬يسهرون‭ ‬على‭ ‬الأطلال،‭ ‬وأنت‭ ‬غياب‭ ‬في‭ ‬الغياب‭. ‬الأوجاع‭ ‬منثورة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأرض،‭ ‬فكل‭ ‬له‭ ‬جرحه‭ ‬المسيّج‭ ‬كضريح‭ ‬يبكي‭ ‬عليه‭ ‬وينثر‭ ‬فوقه‭ ‬نذوراته‭. ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬مفارقات‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬تناقضاتها‭ ‬ووجعها‭. ‬فمن‭ ‬كان‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬توماس‭ ‬مور‭ ‬المقصلة‭ ‬لأنه‭ ‬أبدى‭ ‬رأيًا‭ ‬في‭ ‬طلاق‭ ‬ملكي؟‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬يمتلك‭ ‬وجعه‭ ‬الخفي،‭ ‬وأكياس‭ ‬دموع،‭ ‬وبقدر‭ ‬عظم‭ ‬المجد‭ ‬يكون‭ ‬الجرح‭ ‬أكبر‭ ‬والصرخة‭ ‬أعلى،‭ ‬وإن‭ ‬غلف‭ ‬هذا‭ ‬الجرح‭ ‬بابتسامات‭ ‬ممكيجة،‭ ‬ولكن‭ ‬القوي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ينتزع‭ ‬الابتسامة‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬الحياة‭. (‬ينقل‭ ‬لنا‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬آخر‭ ‬جوقة‭ ‬موسيقية‭ ‬ترأسها‭ ‬بيتهوفن‭ ‬هي‭ ‬الجوقة‭ ‬التي‭ ‬أنشدت‭ ‬السمفونية‭ ‬التاسعة‭ (‬سمفونيته‭) ‬وكانت‭ ‬استثنائية،‭ ‬فعندما‭ ‬انتهت‭ ‬ضجّ‭ ‬الجمهور‭ ‬بالتصفيق،‭ ‬ووقف‭ ‬الجميع‭ ‬تحية‭ ‬إجلال‭ ‬للموسيقار‭ ‬العظيم‭. ‬ولكن‭ ‬بيتهوفين‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬شيئًا‭ ‬بالطبع،‭ ‬ولم‭ ‬ير‭ ‬شيئًا‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط‭: ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الجمهور‭ ‬كان‭ ‬خلفه،‭ ‬وهو‭ ‬يدير‭ ‬الجوقة‭. ‬فجاءت‭ ‬إحدى‭ ‬الممثلات‭ ‬وأمسكت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كتفيه،‭ ‬وأدارته‭ ‬باتجاه‭ ‬الجمهور‭ ‬لكي‭ ‬يرى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬الأيدي‭ ‬التي‭ ‬تصفق‭. ‬فانحنى‭ ‬وبكى‭ ‬وانسحب‭ ‬لآخر‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬العالم‭...)) ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬مفارقات‭ ‬مؤلمة‭. ‬يكثر‭ ‬الزمن‭ ‬على‭ ‬بيتهوفن‭ ‬سماع‭ ‬موسيقاه،‭ ‬بل‭ ‬وسماع‭ ‬تصفيق‭ ‬الجمهور‭ ‬له‭!!. ‬الكاتب‭ ‬الألماني‭ ‬يوهان‭ ‬غوته‭ ‬أحب‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬حانه،‭ ‬فلما‭ ‬رفضت‭ ‬حبه‭ ‬أحرق‭ ‬الماضي،‭ ‬وراح‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬أخرى‭ ‬لذلك‭ ‬عاش‭ ‬سعيدًا‭ ‬بخلاف‭ ‬بيتهوفن،‭ ‬فالبرغم‭ ‬أنهما‭ ‬عاشا‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬واحدة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بيتهوفن‭ ‬عاش‭ ‬تعيسًا‭ ‬يلعب‭ ‬به‭ ‬التاريخ‭ ‬والذكريات‭. ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تستسلم‭ ‬للحزن،‭ ‬فرغم‭ ‬الحزن‭ ‬بقيت‭ ‬الكاتبة‭ ‬الشهيرة‭ ‬الزابيل‭ ‬الليندي‭ ‬المرشحة‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الفرح‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬ابنتها،‭ ‬تحاول‭ ‬سرقته،‭ ‬واصطياد‭ ‬السعادة،‭ ‬فكانت‭ ‬الصدمة‭ ‬الأعظم‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الليندي‭ ‬وفاة‭ ‬ابنتها‭ ‬باولا‭ ‬في‭ ‬1993‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬ثمانية‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا‭ ‬بعد‭ ‬دخولها‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬تقول‭ ‬الليندي‭: ‬أخذوا‭ ‬ابنتي‭ ‬شابة‭ ‬حية‭ ‬بحالة‭ ‬جيدة،‭ ‬وأعادوها‭ ‬جثة‭ ‬هامدة‭. ‬نزفت‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬سارت‭ ‬تقطف‭ ‬ثمار‭ ‬الحياة‭. ‬أقول‭: ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الحب‭ ‬موجع‭ ‬لكن‭ ‬تجاوزه‭ ‬بات‭ ‬أمرًا‭ ‬ضروريًّا‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬البركامو‭ ‬وبيكاسو‭ ‬ونزار‭ ‬قباني،‭ ‬وهناك‭ ‬نساء‭ ‬بنين‭ ‬المجد‭ ‬لأحبتهن‭. ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬يشك‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬زوجة‭ ‬وحبيبة‭ ‬الأديب‭ ‬الروسي‭ ‬العظيم‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬الذي‭ ‬أخلص‭ ‬لحبيبته،‭ ‬وأخلصت‭ ‬له‭. ‬يقول‭ ‬لزوجته‭ ‬قبل‭ ‬مماته‭ ((‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أخنك‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭)) ‬كذلك‭ ‬الموسيقار‭ ‬موزارت‭ ‬فقد‭ ‬وفق‭ ‬بحب‭ ‬امرأة‭ ‬مثالية‭ ‬ورائعة‭ ‬صفرت‭ ‬كل‭ ‬قروضه‭ ‬بسبب‭ ‬حكمتها،‭ ‬وكانت‭ ‬الشجرة‭ ‬التي‭ ‬يستند‭ ‬عليها‭ ‬عندما‭ ‬تهب‭ ‬الرياح‭ ‬وكانت‭ ‬ترمّم‭ ‬جراحه‭ ‬رغم‭ ‬فقدانه‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬كانت‭ ‬تؤثث‭ ‬قلبه‭ ‬بالصبر‭. ‬إن‭ ‬التعلق‭ ‬بالأشياء‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬الضياع‭ ‬الأبدي‭. ‬إذن‭ ‬نحن‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬المتوازنة‭ ‬لا‭ ‬المتطرفة‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‭ ‬والبشر‭. ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬فك‭ ‬الارتباط‭ ‬الجنوني‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الطاقة‭. ‬يقول‭ ‬نيتشه‭ ‬لطبيبه‭ ((‬أنت‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬تعاسة‭ ‬عامة،‭ ‬وغارق‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اخترته‭ ‬بنفسك‭)) ‬لكن‭ ‬توصيف‭ ‬نيتشه‭ ‬أصاب‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬تعلق‭ ‬هذا‭ ‬الطبيب‭ ‬بحبيبته‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ((‬إنك‭ ‬مخلص‭ ‬لكنك‭ ‬تائه‭. ‬تستحوذ‭ ‬عليك‭ ‬امرأة‭ ‬قد‭ ‬خلفتك‭ ‬ممزقًا‭ ‬بينما‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬وللأسف‭ ‬تلعق‭ ‬أنيابها‭ ‬المليئة‭ ‬بدمائك‭)). ‬كثير‭ ‬من‭ ‬علاقاتنا‭ ‬الخاطئة‭ ‬نتناولها‭ ‬بسبب‭ ‬جوع‭ ‬عاطفي،‭ ‬فعندما‭ ‬تجوع‭ ‬عاطفيًّا‭ ‬قد‭ ‬تأكل‭ ‬كما‭ ‬الجائع‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬الزبالة‭ ‬والأوساخ‭. ‬بسبب‭ ‬جوعنا‭ ‬العاطفي‭ ‬ما‭ ‬زلنا‭ ‬نأكل‭ ‬من‭ ‬الزبالة،‭ ‬ونحاول‭ ‬أن‭ ‬نقنع‭ ‬أنفسنا‭ ‬بأنها‭ ‬طبق‭ ‬مهرب‭ ‬من‭ ‬الجنة‭. ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬الفيلسوف‭ ‬باسكال‭ ‬متشائمًا‭ ‬من‭ ‬الجنس‭ ‬البشري‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬نيتشه‭. ‬نعم‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ (‬الحب‭ ‬موت‭ ‬صغير‭) ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬استسلمنا‭ ‬له،‭ ‬فأنا‭ ‬أرى‭ ‬حتى‭ ‬الحب‭ ‬له‭ ‬تاريخ‭ ‬صلاحية،‭ ‬وينتهي‭ ‬ولو‭ ‬تم‭ ‬الرهان‭ ‬على‭ ‬بيعه‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬السوداء‭ ‬للعاشقين‭ ‬للذين‭ ‬احترفوا‭ ‬الغباء‭ ‬بشراء‭ ‬بودرة‭ ‬مخدراته‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬حليب‭ ‬مجفف‭ ‬يغني‭ ‬بكالسيوم‭ ‬عظامه‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يستحق‭ ‬الحزن،‭ ‬والصراع‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬حبًّا‭ ‬أو‭ ‬مالاً‭ ‬أو‭ ‬منصبًا‭ ‬أو‭ ‬جاهًا‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الجنون‭. ‬عش‭ ‬مع‭ ‬السعداء،‭ ‬واستقبل‭ ‬من‭ ‬يستحقون‭ ‬الحب‭. ‬يقول‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ (‬قبل‭ ‬النوم‭ ‬البس‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬عندك،‭ ‬تعطر‭ ‬ورتب‭ ‬غرفتك،‭ ‬فبعض‭ ‬الذين‭ ‬يأتون‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬يستحقون‭ ‬حفاوة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يأتون‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ). ‬إنه‭ ‬فن‭ ‬إدارة‭ ‬الجرح‭.‬