الضربة‭ ‬النووية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية

| عبدالنبي الشعلة

فترة‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضي‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬فرصة‭ ‬متابعة‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬عاصمة‭ ‬المال‭ ‬والأعمال‭ ‬الأوروبية‭ ‬حيال‭ ‬الإجراءات‭ ‬الحمائية‭ ‬التي‭ ‬اتخذها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬ضد‭ ‬بعض‭ ‬الدول،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الصين،‭ ‬وكذلك‭ ‬الإجراءات‭ ‬الانتقامية‭ ‬المضادة‭ ‬التي‭ ‬اتخذتها‭ ‬الصين‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬ضد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ضمن‭ ‬معارك‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬رحاها‭ ‬الآن‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬في‭ ‬اللقاء‭ ‬السابق‭. ‬

نعم،‭ ‬لندن‭ ‬هي‭ ‬عاصمة‭ ‬المال‭ ‬والأعمال‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وستبقى‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬خروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬المرتقب‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الجاري‭ ‬من‭ ‬عضوية‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي؛‭ ‬لماذا؟‭ ‬لأن‭ ‬لندن‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وأكبر‭ ‬مركز‭ ‬مالي‭ ‬متخم‭ ‬بالرساميل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬يتهافت‭ ‬عليه‭ ‬أثرياء‭ ‬العالم‭ ‬وشركاتهم‭ ‬ومصارفهم‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬قيام‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬وأن‭ ‬مكانة‭ ‬لندن‭ ‬كمركز‭ ‬مالي‭ ‬عالمي‭ ‬ليست‭ ‬مرتبطة‭ ‬بعضوية‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬مرتبطة‭ ‬بعدة‭ ‬عوامل‭ ‬واعتبارات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬ترسُّخ‭ ‬تراث‭ ‬وثقافة‭ ‬المال‭ ‬والاستثمار‭ ‬فيها،‭ ‬ولغتها‭ ‬الإنكليزية‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬لغة‭ ‬المال‭ ‬والمصارف‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬دون‭ ‬منازع،‭ ‬وتَوفر‭ ‬الأنظمة‭ ‬والقوانين‭ ‬المطلوبة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬وجود‭ ‬الشركات‭ ‬المحاسبية‭ ‬العالمية‭ ‬المرموقة‭ ‬وشركات‭ ‬التأمين‭ ‬والمحاماة‭ ‬المشهورة‭ ‬واللامعة‭ ‬والخبرات‭ ‬والكفاءات‭ ‬والقدرات‭ ‬الإدارية‭ ‬المتميزة‭. ‬

في‭ ‬قلب‭ ‬لندن‭ ‬وضمن‭ ‬مساحة‭ ‬تبلغ‭ ‬ميلًا‭ ‬مربعًا‭ ‬فقط،‭ ‬يقع‭ ‬“حي‭ ‬المال”‭ ‬البريطاني‭ ‬الذي‭ ‬يحتضن‭ ‬نحو‭ ‬250‭ ‬مصرفا‭ ‬أجنبيا،‭ ‬وفيه‭ ‬تُدار‭ ‬ثروات‭ ‬مالية‭ ‬تقدر‭ ‬بنحو‭ ‬5‭.‬4‭ ‬ترليون‭ ‬دولار،‭ ‬ويساهم‭ ‬الحي‭ ‬بنحو‭ ‬10‭ % ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬البريطاني‭ ‬المقدر‭ ‬بـ‭ ‬2988‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬و12‭ % ‬من‭ ‬الدخل‭ ‬الذي‭ ‬تحصله‭ ‬الخزينة‭ ‬البريطانية‭ ‬من‭ ‬الضرائب‭. ‬وحسب‭ ‬إحصاءات‭ ‬“سيتي‭ ‬يوكيه‭ ‬TheCityUK”،‭ ‬فإن‭ ‬الصفقات‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬ينفذها‭ ‬حي‭ ‬المال‭ ‬البريطاني‭ ‬تقدر‭ ‬بنحو‭ ‬2‭.‬7‭ ‬ترليون‭ ‬دولار‭ ‬يوميا،‭ ‬وتتم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬المتاجرة‭ ‬في‭ ‬70‭ % ‬من‭ ‬السندات‭ ‬العالمية‭ ‬و20‭ % ‬من‭ ‬الأسهم‭ ‬العالمية‭ ‬المسجلة‭ ‬في‭ ‬البورصة‭ ‬البريطانية‭.‬

المختصون‭ ‬والمعنيون‭ ‬والمهتمون‭ ‬بقطاع‭ ‬المال‭ ‬والتجارة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العواصم‭ ‬يتفقون‭ ‬مع‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬وصندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬قلقهم‭ ‬وتحذيراتهم‭ ‬من‭ ‬النتائج‭ ‬السلبية‭ ‬وإرهاصات‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬على‭ ‬اقتصاد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬وعلى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬ويتهكمون‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬صرح‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬ترامب‭ ‬مؤخرًا‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬“فوكس‭ ‬نيوز”‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تجني‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الصين،‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬جيد،‭ ‬ويقولون‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬التصريح‭ ‬لا‭ ‬يلامس‭ ‬الحقيقة،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬بيانات‭ ‬مكتب‭ ‬الإحصاء‭ ‬الأوروبي‭ ‬الصادرة‭ ‬يوم‭ ‬الخميس‭ ‬الماضي‭ ‬أظهرت‭ ‬انخفاض‭ ‬فائض‭ ‬الميزان‭ ‬التجاري‭ ‬السلعي‭ ‬للاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الجاري،‭ ‬فيما‭ ‬ارتفع‭ ‬العجز‭ ‬مع‭ ‬الصين‭! ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تقارير‭ ‬وزارة‭ ‬التجارة‭ ‬الأميركية‭ ‬ذكرت‭ ‬أن‭ ‬مبيعات‭ ‬التجزئة‭ ‬تعاني‭ ‬انخفاضا‭ ‬ملحوظا‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وأن‭ ‬بيانات‭ ‬بنك‭ ‬الاحتياط‭ ‬الفدرالي‭ (‬البنك‭ ‬المركزي‭) ‬أظهرت‭ ‬استمرار‭ ‬انخفاض‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أن‭ ‬تقارير‭ ‬منظمة‭ ‬التعاون‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتنمية‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضي‭ ‬بتاريخ‭ ‬21‭ ‬مايو‭ ‬2019‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬النمو‭  ‬في‭ ‬الصين‭ ‬وأميركا‭ ‬سيتجه‭ ‬إلى‭ ‬الانخفاض‭ ‬بحلول‭ ‬2021‭ ‬و2022‭ ‬إذا‭ ‬استمرت‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬بينهما،‭ ‬كما‭ ‬حذرت‭ ‬المنظمة،‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬مقرًا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬التداعيات‭ ‬السلبية‭ ‬للحرب‭ ‬التجارية‭ ‬مؤكدة‭ ‬أنها‭ ‬سوف‭ ‬تكبد‭ ‬العالم‭ ‬خسائر‭ ‬تقدر‭ ‬بنحو‭ ‬600‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الجاري،‭ ‬وتوقعت‭ ‬المنظمة‭ ‬أن‭ ‬ينمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬بنسبة‭ ‬3‭.‬2‭ % ‬فقط‭ ‬هذا‭ ‬العام؛‭ ‬لأن‭ ‬حجم‭ ‬التجارة‭ ‬العالمي‭ ‬قد‭ ‬تقلص‭ ‬إلى‭ ‬النصف‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وهو‭ ‬دليل‭ ‬يؤكد‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬أي‭ ‬رابح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬بأن‭ ‬مكانة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وقوتها‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬التزامات‭ ‬تجاه‭ ‬الأسرة‭ ‬الدولية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التزامات‭ ‬أخلاقية،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬الهياكل‭ ‬والقواعد‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬عليها،‭ ‬بعد‭ ‬جهد‭ ‬جهيد،‭ ‬أسس‭ ‬التجارة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬وهو‭ ‬لذلك‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬التحلل‭ ‬والتنصل‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬العولمة‭ ‬والكتل‭ ‬التجارية‭ ‬والتعددية‭ ‬ومنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬وغيرها‭.‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الاعتراض‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ينادي‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬العظمة‭ ‬والقوة‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬فقدتها‭ ‬بالفعل،‭ ‬فأميركا‭ ‬قوية‭ ‬وغنية‭ ‬ستكون‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬سندًا‭ ‬ورصيدًا‭ ‬للمجتمع‭ ‬الدولي‭. ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬لأحد‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬سعيه‭ ‬لتقوية‭ ‬وتعزيز‭ ‬المركز‭ ‬المالي‭ ‬والتجاري‭ ‬لبلاده،‭ ‬وتصحيح‭ ‬الخلل‭ ‬المزمن‭ ‬الذي‭ ‬يعانيه‭ ‬الميزان‭ ‬التجاري‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وإنعاش‭ ‬قطاع‭ ‬الطاقة‭ ‬وحث‭ ‬الشركات‭ ‬والاستثمارات‭ ‬الأميركية‭ ‬على‭ ‬تركيز‭ ‬أنشطتها‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الأميركي‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬المشروعة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬رجال‭ ‬المال‭ ‬والأعمال‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬تختلف‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬الأسلوب،‭ ‬إذ‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬في‭ ‬سعيه‭ ‬نحو‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافه‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يستخدم‭ ‬قوته‭ ‬ونفوذه‭ ‬لإضعاف‭ ‬وشل‭ ‬منافسيه‭ ‬والقذف‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬ولعله‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬انتصار‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تجاريًا‭ ‬ممكنًا‭ ‬إلا‭ ‬بهزيمة‭ ‬منافسيها،‭ ‬وقد‭ ‬جعل‭ ‬الصين‭ ‬هدفه‭ ‬الأول‭.‬

ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الاميركي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُلغي‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬القائم‭ ‬الآن،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬نظام‭ ‬رأسمالي‭ ‬عالمي‭ ‬جديد‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬هي‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬“العظيمة”‭ ‬و”القوية”‭ ‬و”الأولى”‭ ‬ولكن‭ ‬“المهيمنة”‭ ‬و”المسيطرة”‭ ‬بالقوة‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬ومصادر‭ ‬الطاقة‭ ‬وطرق‭ ‬التجارة‭ ‬وميادين‭ ‬الصناعة‭ ‬والتقنية‭ ‬والاختراع‭ ‬والابتكار‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

الصين‭ ‬هي‭ ‬المنافس‭ ‬الأقوى‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬وتأتي‭ ‬قوتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتتجه‭ ‬نحو‭ ‬التربع‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬المرتبة‭ ‬الأولى،‭ ‬والخيار‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬الرئيس‭ ‬ترامب‭ ‬هو‭ ‬عرقلة‭ ‬وإجهاض‭ ‬نمو‭ ‬وصعود‭ ‬الصين،‭ ‬وقد‭ ‬قالها‭ ‬بكل‭ ‬صراحة‭ ‬ووضوح‭ ‬لقناة‭ ‬“فوكس‭ ‬نيوز”‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬19‭ ‬مايو‭ ‬2019‭ ‬أن‭ ‬الصين‭ ‬لن‭ ‬تصبح‭ ‬أكبر‭ ‬قوة‭ ‬عظمى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬خلال‭ ‬رئاسته‭.‬

إن‭ ‬الحروب‭ ‬التجارية،‭ ‬كالحروب‭ ‬العسكرية‭ ‬التقليدية،‭ ‬تبدأ‭ ‬عادة‭ ‬بالمناوشات‭ ‬مثل‭ ‬فرض‭ ‬رسوم‭ ‬جمركية‭ ‬عالية‭ ‬وإقامة‭ ‬الحواجز‭ ‬والمقاطعة‭ ‬وما‭ ‬شابه،‭ ‬لكنها‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬بدأت‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬التوقف،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حاصل‭ ‬الآن،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬الرئيس‭ ‬جولته‭ ‬الأولى‭ ‬برفع‭ ‬نسبة‭ ‬الضرائب‭ ‬على‭ ‬الصين‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬بدأت‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬منعطف‭ ‬جديد،‭ ‬وتشهد‭ ‬الآن‭ ‬تطورًا‭ ‬نوعيًا‭ ‬خطيرًا،‭ ‬وانتقلت‭ ‬من‭ ‬ميادين‭ ‬الصراع‭ ‬حول‭ ‬الفائض‭ ‬التجاري‭ ‬إلى‭ ‬قطاعات‭ ‬المال‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬فجاء‭ ‬أول‭ ‬مؤشراتها‭ ‬أو‭ ‬أولى‭ ‬شراراتها‭ ‬أو‭ ‬قذائفها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المواجهة‭ ‬الشرسة‭ ‬مع‭ ‬شركة‭ ‬هواوي‭ ‬الصينية‭ ‬العملاقة،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الشركة‭ ‬أول‭ ‬الضحايا‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬إضعاف‭ ‬القوة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬للصين،‭ ‬فقد‭ ‬أعلن‭ ‬ترامب‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضي‭ ‬رسميًا‭ ‬حظر‭ ‬شركة‭ ‬هواوي‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬بمختلف‭ ‬القطاعات‭ ‬وأيضًا‭ ‬منع‭ ‬الشركات‭ ‬الأميركية‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬معها،‭ ‬وقد‭ ‬وُصِفت‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬بـ‭ ‬“الضربة‭ ‬النووية”‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭.‬

وذكرت‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬انها‭ ‬فرضت‭ ‬هذه‭ ‬القيود‭ ‬لتورط‭ ‬هواوي‭ ‬في‭ ‬أنشطة‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬أو‭ ‬مصالح‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية،‭ ‬وطلبت‭ ‬من‭ ‬حلفائها‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬منتجات‭ ‬هذه‭ ‬الشركة؛‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وسيلة‭ ‬لعمليات‭ ‬تجسس‭ ‬صينية‭.‬

وجاء‭ ‬رد‭ ‬الصين‭ ‬فوريًا‭  ‬ليمدد‭ ‬المعارك‭ ‬إلى‭ ‬قطاع‭ ‬الطيران‭ ‬عندما‭ ‬طلبت‭ ‬شركة‭ ‬الخطوط‭ ‬الجوية‭ ‬الصينية‭ ‬“تشاينا‭ ‬ايسترن”‭ ‬يوم‭ ‬الأربعاء‭ ‬الماضي‭ ‬تعويضات‭ ‬من‭ ‬شركة‭ ‬“بوينغ”‭ ‬الأميركية‭ ‬بسبب‭ ‬الخسائر‭ ‬الفادحة‭ ‬التي‭ ‬تكبدتها‭ ‬الشركة‭ ‬نتيجة‭ ‬توقيف‭ ‬طائراتها‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬“بوينغ‭ ‬737‭-‬ماكس”‭ ‬عن‭ ‬الخدمة‭ ‬وتأخر‭ ‬تسليم‭ ‬الطائرات‭ ‬التي‭ ‬طلبتها‭ ‬شركة‭ ‬الطيران‭ ‬المذكورة‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬الكارثتين‭ ‬التين‭ ‬أدتا‭ ‬إلى‭ ‬تحطم‭ ‬طائرتين‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬نفسه‭. ‬

هذه‭ ‬التطورات‭ ‬تبرر‭ ‬المخاوف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتصاعد‭ ‬النزاع‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬مالية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وتقنية‭ ‬شاملة‭.‬

إن‭ ‬الجولة‭ ‬المتوقعة‭ ‬القادمة‭ ‬قي‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬هي‭ ‬لجوء‭ ‬الطرفين‭ ‬أو‭ ‬أحدهما‭ ‬لاستخدام‭ ‬أسلحة‭ ‬العملات‭ ‬وأسواق‭ ‬الصرف‭ ‬وأدوات‭ ‬الدين‭ ‬الحكومية،‭ ‬ويتزايد‭ ‬القلق‭ ‬من‭ ‬احتمال‭ ‬طرح‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬السندات‭ ‬الأميركية‭ ‬التي‭ ‬تملكها‭ ‬أو‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬منها‭ ‬والبالغة‭ ‬1‭,‬17‭ ‬ترليون‭ ‬دولار،‭ ‬لكن‭ ‬يد‭ ‬الصين‭ ‬مكبلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬قد‭ ‬تتكبد‭ ‬خسائر‭ ‬فادحة،‭ ‬فإن‭ ‬هي‭ ‬حاولت‭ ‬بيع‭ ‬هذه‭ ‬السندات‭ ‬أو‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬منها،‭ ‬فإن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬يحق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تعتبر‭ ‬تلك‭ ‬الخطوة‭ ‬مهددة‭ ‬لاستقرارها‭ ‬وأمنها‭ ‬القومي‭ ‬وستعمل‭ ‬على‭ ‬تجميد‭ ‬أو‭ ‬مصادرة‭ ‬الموجودات‭ ‬الصينية‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة،‭ ‬وقد‭ ‬أدركت‭ ‬روسيا‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ ‬عندما‭ ‬احتد‭ ‬الخلاف‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وبادرت‭ ‬بالتخلص‭ ‬تدريجيًا‭ ‬من‭ ‬معظم‭ ‬السندات‭ ‬الأميركية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تملكها‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬والبالغة‭ ‬85‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬

فهل‭ ‬ستلجأ‭ ‬الصين‭ ‬ألى‭ ‬سلاح‭ ‬خفض‭ ‬سعر‭ ‬صرف‭ ‬عملتها‭ ‬الوطنية‭ ‬“اليوان”،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تفعل‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ ‬بعيد؛‭ ‬لأنه‭ ‬سلاح‭ ‬ذو‭ ‬حدين‭ ‬بالنسبة‭ ‬للصين‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬جاهدة‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬قيمة‭ ‬ومكانة‭ ‬عملتها‭ ‬في‭ ‬احتياطات‭ ‬البنوك‭ ‬المركزية‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬سعيها‭ ‬لتدويل‭ ‬عملتها‭ ‬والاستحواذ‭ ‬على‭ ‬حصة‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬الدولار‭ ‬الأميركي‭ ‬في‭ ‬الاحتياطات‭ ‬النقدية‭ ‬وتسويات‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يخفض‭ ‬سعر‭ ‬الفائدة‭ ‬على‭ ‬الدولار،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬ستكون‭ ‬الصين‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أكبر‭ ‬المتضررين؛‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انخفاض‭ ‬سعر‭ ‬الدولار‭ ‬وتراجع‭ ‬العوائد‭ ‬التي‭ ‬تحصل‭ ‬عليها‭ ‬الصين‭ ‬من‭ ‬استثماراتها‭ ‬في‭ ‬السندات‭ ‬الأميركية،‭ ‬وسيستفيد‭ ‬ترامب‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬بزيادة‭ ‬حجم‭ ‬الصادرات‭ ‬الأميركية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬البضائع‭ ‬الصينية‭.‬

وبالاتهامات‭ ‬الخطيرة‭ ‬التي‭ ‬وجهتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لشركة‭ ‬هواوي‭ ‬الصينية‭ ‬والإجراءات‭ ‬التي‭ ‬اتخذتها‭ ‬ضدها‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬بإلقاء‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬ابنة‭ ‬رئيسها‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬مديرة‭ ‬الشؤون‭ ‬المالية‭ ‬للشركة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬العقوبات‭ ‬المدمرة‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬علىيها،‭ ‬فإن‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬نقطة‭ ‬اللارجعة‭ ‬وتتجه‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التصعيد،‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬قد‭ ‬يقترب‭ ‬في‭ ‬خطورته‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬التحدي‭ ‬والمواجهة‭ ‬العسكرية‭ ‬القائمة‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وإيران،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬منا‭ ‬مراقبة‭ ‬الوضع‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬وأخذ‭ ‬الحيطة‭ ‬والحذر‭ ‬والتنسيق‭ ‬فيما‭ ‬بيننا؛‭ ‬استعدادًا‭ ‬لأي‭ ‬تبعات‭ ‬أو‭ ‬تداعيات‭ ‬أو‭ ‬أضرار‭ ‬قد‭ ‬تلحق‭ ‬بنا‭ ‬نتيجة‭ ‬لصراع‭ ‬أكبر‭ ‬عملاقين‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬