قهوة الصباح

عظماء‭ ‬المجد‭ ‬والحب‭ ‬الغادر‭ ‬والاكتئاب

| سيد ضياء الموسوي

يقول‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬علي‭ ‬الوردي‭ ‬“العالم‭ ‬كله‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬حفلة‭ ‬تنكرية”،‭ ‬نلبس‭ ‬الأقنعة‭ ‬لنخفي‭ ‬صناديق‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬المغلقة‭. ‬يهرب‭ ‬صاحب‭ ‬المجد‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬لكن‭ ‬رصاصة‭ ‬القدر‭ ‬أحيانا‭ ‬تلاحقه‭ ‬كما‭ ‬قُتل‭ ‬أسطورة‭ ‬الفاشن‭ ‬جياني‭ ‬فرزاجي‭ ‬برصاصة‭ ‬شاب‭ ‬مضطرب‭. ‬ومن‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬الروس‭ ‬الكبير‭ ‬نيقولاي‭ ‬غوغول‭ ‬يموت‭ ‬بسبب‭ ‬جرثومة‭ ‬فكرة‭ ‬أدخلها‭ ‬بعقله‭ ‬رجل‭ ‬دين‭ ‬حين‭ ‬أقنعه‭ ‬بأن‭ ‬الصيام‭ ‬المتواصل‭ ‬طريق‭ ‬الخلاص،‭ ‬وحين‭ ‬عبأ‭ ‬عقله‭ ‬بأفكار‭ ‬تحريمية‭ ‬متطرفة‭! ‬

وما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬كتابات‭ ‬الروائي‭ ‬الياباني‭ ‬الشهير‭ ‬والمتأثر‭ ‬بالأدب‭ ‬الغربي،‭ ‬هاروكي‭ ‬موراكامي‭ ‬سوداوية‭ ‬في‭ ‬بعضها؟‭ ‬وكيف‭ ‬لاحق‭ ‬ثوبُ‭ ‬الطفولة‭ ‬الممزق‭ ‬الكاتب‭ ‬الشهير‭ ‬دايل‭ ‬كارنيجي‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عقدة‭ ‬رغم‭ ‬ثراء‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الفقر،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬كتاب‭ ‬“دع‭ ‬القلق‭ ‬وأبداً‭ ‬الحياة”؟‭ ‬

وما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬العبقري‭ ‬نيوتن‭ ‬مضطربا‭ ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬جدًا‭ ‬الجلوس‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬معه،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬متقلب‭ ‬المزاج‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬وسريع‭ ‬الانفعال،‭ ‬وشديد‭ ‬الغضب،‭ ‬وكذلك‭ ‬ضيّق‭ ‬الأفق،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬كثيرًا‭ ‬بصوت‭ ‬عال،‭ ‬ويُخاطب‭ ‬أشخاص‭ ‬وهمين‭ ‬غير‭ ‬موجودين‭. ‬هل‭ ‬هو‭ ‬ذات‭ ‬الانفصام‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬مجنون‭ ‬الرياضيات‭ ‬جون‭ ‬ناش؟‭ ‬

حتى‭ ‬عظماء‭ ‬المجد‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬التوازن‭ ‬الشخصي‭ ‬كي‭ ‬ينعموا‭ ‬بالحياة‭. ‬لا‭ ‬شي‭ ‬أخاف‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬عظيم‭ ‬المجد‭ ‬قدر‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬عفريت‭ ‬الحب‭. ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬بيدي‭ ‬لشمعت‭ ‬بوابات‭ ‬قلوبهم‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬بالشمع‭ ‬الأحمر‭. ‬اقرأوا‭ ‬سيرة‭ ‬مصممة‭ ‬الأزياء‭ ‬الفرنسية‭ ‬كوكو‭ ‬شنيل‭ ‬ماذا‭ ‬فعل‭ ‬بها‭ ‬الحب‭! ‬فرغم‭ ‬جراحه‭ ‬نستطيع‭ ‬الخروج‭ ‬منه‭ ‬ولو‭ ‬نزفا‭. ‬نزار‭ ‬المجد‭ ‬يرتل‭ ‬رثاءه‭ ‬لحبيبته‭ ‬بلقيس‭ ‬التي‭ ‬قتلت‭ ‬ببيروت‭: ‬بلقيسُ‭.. ‬

إنَّ‭ ‬زُرُوعَكِ‭ ‬الخضراءَ‭.. ‬

ما‭ ‬زالتْ‭ ‬على‭ ‬الحيطانِ‭ ‬باكيةً‭.. ‬

وَوَجْهَكِ‭ ‬لم‭ ‬يزلْ‭ ‬مُتَنَقِّلاً‭.. ‬

بينَ‭ ‬المرايا‭ ‬والستائرْ‭ ‬

حتى‭ ‬سجارتُكِ‭ ‬التي‭ ‬أشعلتِها‭ ‬

لم‭ ‬تنطفئْ‭.. ‬

ودخانُهَا‭ ‬

ما‭ ‬زالَ‭ ‬يرفضُ‭ ‬أن‭ ‬يسافرْ‭ ‬بلقيسُ‭.. ‬

كيفَ‭ ‬تركتِنا‭ ‬في‭ ‬الريح‭.. ‬

نرجِفُ‭ ‬مثلَ‭ ‬أوراق‭ ‬الشَّجَرْ؟‭ ‬

وتركتِنا‭ - ‬نحنُ‭ ‬الثلاثةَ‭ - ‬ضائعينَ‭ ‬

كريشةٍ‭ ‬تحتَ‭ ‬المَطَرْ‭.. ‬

أتُرَاكِ‭ ‬ما‭ ‬فَكَّرْتِ‭ ‬بي؟‭ ‬

وأنا‭ ‬الذي‭ ‬يحتاجُ‭ ‬حبَّكِ‭.. ‬مثلَ‭ ‬“زينبَ”‭ ‬أو‭ ‬“عُمَرْ”‭. ‬بلقيسُ‭:‬

إنْ‭ ‬هم‭ ‬فَجَّرُوكِ‭.. ‬فعندنا‭ ‬

كلُّ‭ ‬الجنائزِ‭ ‬تبتدي‭ ‬في‭ ‬كَرْبَلاءَ‭.. ‬

وتنتهي‭ ‬في‭ ‬كَرْبَلاءْ‭. ‬

يقول‭ ‬فرويد‭ ‬“لا‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬السعادة‭ ‬وأنت‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬حديثك‭ ‬عن‭ ‬الألم”‭. ‬مسكين‭ ‬هذا‭ ‬العاشق،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية،‭ ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬يستحق‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬أن‭ ‬تمنحه‭ ‬عشقك،‭ ‬فكل‭ ‬معشوق‭ ‬قد‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬جلاد‭ ‬مشاعر،‭ ‬وهو‭ ‬معك‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬سفاح‭ ‬تحت‭ ‬التدريب،‭ ‬وكل‭ ‬زهرة‭ ‬مسدسُ

ُغدر‭ ‬وبندقية‭ ‬صيد‭ ‬تصوب‭ ‬مستقبلا‭ ‬نحو‭ ‬فرحك‭. ‬العشق‭ ‬هو‭ ‬أقصر‭ ‬طريق‭ ‬لنسج‭ ‬مشنقة‭ ‬الابتزاز‭ ‬العاطفي‭ ‬والمادي‭. ‬بالعشق‭ ‬تحولون‭ ‬البشر‭ ‬إلى‭ ‬قراصنة‭ ‬لسرقة‭ ‬خزائن‭ ‬سفن‭ ‬حياتكم،‭ ‬وإلى‭ ‬قتلة‭ ‬متسلسلين‭ ‬لقتل‭ ‬أعماركم‭. ‬يوم‭ ‬تشعرون‭ ‬أن‭ ‬المعشوق‭ ‬أو‭ ‬المعشوقة‭ ‬يحاولون‭ ‬الضغط‭ ‬عليكم‭ ‬بابتزاز‭ ‬خوف‭ ‬الفضيحة،‭ ‬فجروها‭ ‬بوجوههم،‭ ‬وانزعوا‭ ‬منهم‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬الخبيثة،‭ ‬فلا‭ ‬عبودية‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يبتزكم‭ ‬أحد‭ ‬باسم‭ ‬الحب‭. ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أؤمن‭ ‬بمقولة‭ ‬الكاتب‭ ‬الأميركي‭ ‬اندرو‭ ‬شافيرعندما‭ ‬قال‭ ‬“إن‭ ‬العقول‭ ‬الكبيرة‭ ‬والقلوب‭ ‬المحطمة‭ ‬مترافقان‭ ‬على‭ ‬الدوام”،‭ ‬قدر‭ ‬العظيم‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬الحياة،‭ ‬ويتمتع‭ ‬بالوجود،‭ ‬وألا‭ ‬يقدم‭ ‬مجده‭ ‬لجزار‭ ‬أو‭ ‬مسلخ‭ ‬باسم‭ ‬الحب‭. ‬

ديدرو‭ ‬الفرنسي‭ ‬أهم‭ ‬فلاسفة‭ ‬التنوير‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬امراة‭ ‬مصاصة‭ ‬دماء،‭ ‬ولكنه‭ ‬تركها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشف‭ ‬خيانتها‭ ‬له‭. ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬نشفت‭ ‬جيوب‭ ‬ديدرو‭ ‬من‭ ‬المال،‭ ‬خانته‭ ‬مع‭ ‬رجل‭ ‬يملك‭ ‬ثروة‭ ‬أكبر‭. ‬حتى‭ ‬اوغست‭ ‬كونت‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬الشهير‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬مصطلح‭ ‬“علم‭ ‬الاجتماع”‭ ‬كان‭ ‬رغم‭ ‬عظمته‭ ‬الفكرية‭ ‬مغفلا‭ ‬عاطفيا‭. ‬تزوج‭ ‬من‭ ‬بائعة‭ ‬هوى،‭ ‬فتلاعبت‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬أوصلته‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الجنون،‭ ‬وبسببها‭ ‬دخل‭ ‬كونت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬قاتلة‭ ‬من‭ ‬الإحباط‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يقضي‭ ‬معظم‭ ‬الوقت‭ ‬متمددا‭ ‬على‭ ‬السرير‭.‬

كثير‭ ‬من‭ ‬عظماء‭ ‬المجد‭ ‬يتحولون‭ ‬إلى‭ ‬لعبة‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬امراة‭ ‬بسبب‭ ‬العشق‭ ‬الأعمى‭. ‬استرجعوا‭ ‬أيها‭ ‬العشاق‭ ‬قلوبكم،‭ ‬ولو‭ ‬بأثر‭ ‬رجعي،‭ ‬فالبشر‭ ‬لا‭ ‬يستحقون‭ ‬أن‭ ‬تهبوهم‭ ‬قميصا‭ ‬باليا‭ ‬في‭ ‬العشق،‭ ‬فكيف‭ ‬بأغلى‭ ‬ما‭ ‬عندكم،‭ ‬وهو‭ ‬القلب‭! ‬

الفشل‭ ‬المتكرر‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬أصاب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الشهير‭ ‬برتراند‭ ‬راسل‭ ‬في‭ ‬مقتل،‭ ‬أما‭ ‬البيركامو‭ ‬فقد‭ ‬قادته‭ ‬خيانة‭ ‬زوجته‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬الانتقام‭ ‬اللاواعي‭ ‬منها‭ ‬بالتنقل‭ ‬بين‭ ‬أحضان‭ ‬النساء،‭ ‬إلى‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬العزلة‭. ‬يقول‭ ‬فريدريك‭ ‬شيلر‭ ‬“الأغلال‭ ‬الحديدية‭ ‬والأربطة‭ ‬الحريرية‭ ‬كلاهما‭ ‬قيود‭ ‬بذات‭ ‬القدر”‭. ‬

نعم‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬حريرية،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬جميلة،‭ ‬فالعشق‭ ‬زنزانة‭ ‬انفرادية‭ ‬بسلاسل‭ ‬من‭ ‬مشاعر،‭ ‬تقفز‭ ‬في‭ ‬وجهك‭ ‬فئران‭ ‬ذكرياتها‭ ‬السامة،‭ ‬وإن‭ ‬رأيناها‭ ‬حمائم‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬ثوب‭ ‬نرتديه‭ ‬نظنه‭ ‬جميلا،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لباس‭ ‬سجن‭ ‬أبدي،‭ ‬يُعتقل‭ ‬فيه‭ ‬القلبُ‭ ‬ليحكم‭ ‬بحكم‭ ‬مؤبد‭ ‬مع‭ ‬الأعمال‭ ‬الشاقة‭. ‬فالقلادة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مشنقة،‭ ‬والأساور‭ ‬على‭ ‬معاصمنا‭ ‬قيود،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬ذهب،‭ ‬فكلهم‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬العشق‭ ‬رائعون‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬الإعدام‭ ‬الأخير‭.‬