قهوة الصباح

المجد والاكتئاب “10”

| سيد ضياء الموسوي

هو‭ ‬نزار‭ ‬المجد‭ ‬مرتلا‭ ‬حزنه‭ ‬على‭ ‬فلذة‭ ‬كبده‭ ‬“أشيلك،‭ ‬يا‭ ‬ولدي،‭ ‬فوق‭ ‬ظهري

كمئذنة‭ ‬كسرت‭ ‬قطعتين‭.. ‬وشعرك‭ ‬حقل‭ ‬من‭ ‬القمح‭ ‬تحت‭ ‬المطر‭.. ‬ورأسك‭ ‬في‭ ‬راحتي‭ ‬وردة‭ ‬دمشقية‭ .. ‬وبقايا‭ ‬قمر‭.. ‬أواجه‭ ‬موتك‭ ‬وحدي‭..‬وأجمع‭ ‬كل‭ ‬ثيابك‭ ‬وحدي‭ .. ‬وألثم‭ ‬قمصانك‭ ‬العاطرات‭.. ‬ورسمك‭ ‬فوق‭ ‬جواز‭ ‬السفر‭.. ‬وأصرخ‭ ‬مثل‭ ‬المجانين‭ ‬وحدي‭.. ‬وكل‭ ‬الوجوه‭ ‬أمامي‭ ‬نحاس‭.. ‬وكل‭ ‬العيون‭ ‬أمامي‭ ‬حجر

فكيف‭ ‬أقاوم‭ ‬سيف‭ ‬الزمان‭ ‬وسيفي‭ ‬انكسر؟‭ ‬ورغم‭ ‬وجعه‭ ‬النازف‭ ‬عاش‭ ‬كوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬بخلاف‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوح‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬التعلق‭ ‬حين‭ ‬اختصر‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬ليلى‭ ‬“فأنت‭ ‬التي‭ ‬إِن‭ ‬شِئتِ‭ ‬أَشقَيتِ‭ ‬عِيشَتي‭ ‬وَأَنتِ‭ ‬الَّتي‭ ‬إِن‭ ‬شِئتِ‭ ‬أَنعَمتِ‭ ‬باليا”،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬قيس‭ ‬وجد‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الحل‭: ‬“فَيا‭ ‬رَبِّ‭ ‬إِذ‭ ‬صَيَّرتَ‭ ‬لَيلى‭ ‬هِيَ‭ ‬المُنى‭ ‬فَزِنّي‭ ‬بِعَينَيها‭ ‬كَما‭ ‬زِنتَها‭ ‬لِيا‭ ‬وَإِلّا‭ ‬فَبَغِّضها‭ ‬إِلَيَّ‭ ‬وَأَهلَها‭ ‬فَإِنّي‭ ‬بِلَيلى‭ ‬قَد‭ ‬لَقيتُ‭ ‬الدَواهِيا”‭. ‬

اللعب‭ ‬مع‭ ‬الحب‭ ‬أشبه‭ ‬باللعب‭ ‬مع‭ ‬السكين‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬حنين،‭ ‬أشبه‭ ‬بمن‭ ‬يحتضن‭ ‬تمساحا‭ ‬أملا‭ ‬في‭ ‬قبلة‭ ‬أو‭ ‬تنين‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬دفء،‭ ‬ومن‭ ‬أفعى‭ ‬طمعا‭ ‬في‭ ‬وفاء‭.‬‭ ‬وكل‭ ‬هدية‭ ‬تقدمها‭ ‬في‭ ‬العشق‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬خنجر،‭ ‬فأنت‭ ‬تختار‭ ‬مقاس‭ ‬طول‭ ‬الجرح‭ ‬بمقدار‭ ‬قياس‭ ‬هيامك،‭ ‬وكلما‭ ‬أوغلت‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الذكريات‭ ‬الرومانسية‭ ‬كلما‭ ‬طال‭ ‬انتظارك‭ ‬في‭ ‬استقبال‭ ‬نعوش‭ ‬ذكرياتك‭ ‬محملة‭ ‬بأكفان‭ ‬مشاعرك‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬الانتظار‭ ‬القاتل‭. ‬

فكل‭ ‬همسة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مدية،‭ ‬وكل‭ ‬قبلة‭ ‬قنبلة،‭ ‬وكل‭ ‬بحر‭ ‬همست‭ ‬بجواره‭ ‬فرحا‭ ‬يستحيل‭ ‬زنزانة‭ ‬ذكرى‭ ‬تخنقك‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬ووحدك‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬غربتك‭ ‬للنسيان‭ ‬تسعى‭ ‬لمحو‭ ‬الذكريات‭ ‬كمن‭ ‬يسعى‭ ‬لإزالة‭ ‬زجاج‭ ‬منثور‭ ‬ومختلط‭ ‬بكأس‭ ‬عسل‭. ‬واختلف‭ ‬مع‭ ‬مستغانمي،‭ ‬إذ‭ ‬قالت‭ ‬“لا‭ ‬أفقر‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬لا‭ ‬ذكريات‭ ‬لها،‭ ‬أثرى‭ ‬النساء‭ ‬ليست‭ ‬التي‭ ‬تنام‭ ‬متوسدة‭ ‬ممتلكاتها،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬تتوسد‭ ‬ذكرياتها”‭. ‬يقول‭ ‬الأمام‭ ‬علي‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬“لا‭ ‬أجر‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬عوض”،‭ ‬بمعنى‭ ‬طعناتك‭ ‬بلا‭ ‬تعويض‭. ‬

هم‭ ‬عظماء‭ ‬المجد،‭ ‬أكثرهم‭ ‬تحطمت‭ ‬حياتهم‭ ‬من‭ ‬خنجر‭ ‬الحب،‭ ‬وكل‭ ‬واجهه‭ ‬بطريقته‭. ‬هزموا‭ ‬الإبداع،‭ ‬وترنحوا‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الحب‭ ‬كحمامة‭ ‬تترنح‭ ‬من‭ ‬الذبح،‭ ‬ففان‭ ‬جوخ‭ ‬قاده‭ ‬الحب‭ ‬للمصحة‭ ‬النفسية‭ ‬مجنونا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وهب‭ ‬بعد‭ ‬قلبه‭ ‬أذنه‭ ‬المقطوعة،‭ ‬وشكسبير‭ ‬بعد‭ ‬مسرحية‭ ‬روميو‭ ‬وجوليت‭ ‬ترك‭ ‬قلبا‭ ‬له‭ ‬مكسورا‭ ‬في‭ ‬خفايا‭ ‬بقية‭ ‬مسرحياته،‭ ‬وسلفادور‭ ‬دالي‭ ‬مات‭ ‬معنويا‭ ‬يوم‭ ‬موت‭ ‬حبيبته،‭ ‬وكره‭ ‬الحياة،‭ ‬ولوركا‭ ‬راح‭ ‬يلهث‭ ‬لفرنسا‭ ‬لحبه‭ ‬حتى‭ ‬مات‭ ‬قتيلا‭ ‬بغدرالرئيس‭ ‬فرانكو‭ ‬بإسبانيا،‭ ‬والملكة‭ ‬كرستينا‭ ‬ملكة‭ ‬السويد،‭ ‬فتركت‭ ‬بسبب‭ ‬العشق،‭ ‬العرش‭ ‬الملكي‭ ‬هاربة‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا‭ ‬منتحبة‭ ‬كسيرة،‭ ‬والملكة‭ ‬أوكيني‭ ‬أمبراطورة‭ ‬فرنسا،‭ ‬فماتت‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬في‭ ‬غربة‭ ‬بعد‭ ‬ضياع‭ ‬العرش‭ ‬والجمال‭ ‬والحب‭ ‬ونهب‭ ‬وصيفاتها‭ ‬قلائدها‭ ‬وذهبها‭. ‬أما‭ ‬الملكة‭ ‬العذراء‭ ‬إليزابيث‭ ‬الأولى،‭ ‬فكرهت‭ ‬الحب،‭ ‬فماتت‭ ‬عزباء‭ ‬كارهة‭ ‬للرجال‭ ‬وغدرهم،‭ ‬وأوسكار‭ ‬وايلد،‭ ‬فالحب‭ ‬قاده‭ ‬للمحاكم‭ ‬والإفلاس‭ ‬جائعا،‭ ‬والشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بودلير‭ ‬فراح‭ ‬يعوض‭ ‬عنه‭ ‬ببائعات‭ ‬الهوى‭ ‬في‭ ‬حانات‭ ‬باريس،‭ ‬وآرثر‭ ‬رامبو،‭ ‬فاستعان‭ ‬عنه‭ ‬بحقائب‭ ‬السفر‭ ‬ترحالا‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭. ‬أما‭ ‬دي‭ ‬ساد‭ ‬ماركيز،‭ ‬فقادته‭ ‬بهيمية‭ ‬الحب‭ ‬لزنزانة‭ ‬انفرادية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬نابليون‭ ‬بونابارت‭.‬

‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬العشق‭ ‬بضحاياه‭. ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستحق‭ ‬العشق‭ ‬غير‭ ‬الله،‭ ‬والذات‭ ‬بلا‭ ‬نرجسية‭ ‬متضخمة‭. ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬نوعوا‭ ‬في‭ ‬رئات‭ ‬التنفس‭ ‬بكوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬لما‭ ‬أصابهم‭ ‬ما‭ ‬أصابهم‭. ‬الحب‭ ‬يعطيك‭ ‬الجنة‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬وجهنما‭ ‬بالتقسيط‭. ‬العشق‭ ‬يعكس‭ ‬إضرابا‭ ‬نفسيا‭ ‬نعوض‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬طفولة‭ ‬حرمان‭ ‬مضطربة‭ ‬او‭ ‬انكسار‭ ‬داخلي؛‭ ‬بسبب‭ ‬فشل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬غربة‭ ‬وطن‭ ‬أو‭ ‬ديكور‭ ‬زواج‭ ‬ناشط‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬أو‭ ‬شعور‭ ‬بالوحدة‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬أو‭ ‬غدر‭ ‬أصدقاء‭ ‬أو‭ ‬يتم‭ ‬أم‭ ‬أو‭ ‬اختناق‭ ‬منصب‭. ‬

وإذا‭ ‬العشق‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬كبر‭ ‬يكون‭ ‬قاتلا،‭ ‬وأكثر‭ ‬فضاعة‭ ‬إذا‭ ‬وقع‭ ‬العاشق‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬امراة‭ ‬هي‭ ‬فخ‭ ‬بشري‭ ‬بقطعة‭ ‬جبن‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬جسد‭ ‬تسمى‭ ‬عشيقة‭ ‬ومصاصة‭ ‬مال‭ ‬وصحة‭ ‬ومجد‭. ‬تقول‭ ‬مستغانمي‭ ‬“الحب‭ ‬هو‭ ‬ذكاء‭ ‬المسافة‭. ‬ألا‭ ‬تقترب‭ ‬كثيرا،‭ ‬فتلغي‭ ‬اللهفة،‭ ‬ولا‭ ‬تبتعد‭ ‬طويلا‭ ‬فتُنسى‭.‬

‭ ‬ألّا‭ ‬تضع‭ ‬حطبك‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬موقد‭ ‬من‭ ‬تُحبّ‭. ‬أن‭ ‬تبقيه‭ ‬مشتعلا‭ ‬بتحريكك‭ ‬الحطب‭ ‬ليس‭ ‬أكثر،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلمح‭ ‬الآخر‭ ‬يدك‭ ‬المحرّكة‭ ‬لمشاعره‭ ‬ومسار‭ ‬قدره‭. ‬أوه‭ ... ‬كم‭ ‬يتقن‭ ‬لعبة‭ ‬نقل‭ ‬النار‭ ‬بين‭ ‬الحطب،‭ ‬وإنقاذ‭ ‬الشعلة‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينطفئ‭ ‬الجمر‭ ‬بقليل‭. ‬فهل‭ ‬استطاعت‭ ‬مستغانمي‭ ‬إنقاذنا‭ ‬في‭ ‬رواياتها‭ ‬“الأسود‭ ‬يليق‭ ‬بك”،‭ ‬“ذاكرة‭ ‬جسد”،‭ ‬و‭ ‬“سرير‭ ‬عابر”‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬المدمر؟‭ ‬فماذا‭ ‬فعل‭ ‬العشق‭ ‬بانجلينا‭ ‬جولي‭ ‬والأميرة‭ ‬ديانا،‭ ‬والملكة‭ ‬كرستينا،‭ ‬فالاولى‭ ‬خسرت‭ ‬نكهة‭ ‬الحياة،‭ ‬والاثنتان‭ ‬الحكم‭ ‬والحياة‭. ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشهيرات‭ ‬يعوضن‭ ‬كسر‭ ‬الحب‭ ‬بجبر‭ ‬إنساني،‭ ‬وهن‭ ‬يحاولن‭ ‬إطفاء‭ ‬حرائق‭ ‬قلوبهن‭ ‬بدموع‭ ‬أطفال‭ ‬مخيمات‭ ‬الجوع‭ ‬وضحايا‭ ‬الحروب‭.‬